"وادي النِّعم".. فصل جديد من سياسة تهويد النقب الفلسطيني

تحظى صحراء النقب باهتمام كبير بسبب موقعها الاستراتيجي. وفي العقود الأخيرة، لم تألُ "إسرائيل" جهداً في التهام الأراضي الفلسطينية في المنطقة، كما هي الحال في غيرها من المناطق.
  • تشكّل صحراء النقب نصف إجمالي مساحة فلسطين التاريخيّة

كان سكان فلسطين من البدو قبل عام 1948 يتمركزون في ثلاث مناطق: المنطقة الجنوبية من النقب (قضاء بئر السبع)؛ فلسطين الوسطى، ولاسيّما السهل الساحلي؛ منطقة الجليل في الشّمال. ومن الجائز تقدير عدد البدو الفلسطينيين قبل النكبة، استناداً إلى عارف العارف(1) وإيمانويل ماركس(2) وغيرهما بنحو 116,000-141,000 نسمة، منهم 65,000-90,000 في قضاءَي بئر السبع وغزة، ونحو 34,000 في فلسطين الوسطى، و17,000 نسمة في الجليل(3).

ويبلغ عددهم اليوم نحو ـ317,000 نسمة، يسكن نحو 30% منهم في قرىً مسلوبة الاعتراف؛ أي يحقّ للاحتلال الإسرائيلي هدمها مئات المرّات، وطرد سكانها منها عشرات المرّات، وحرمانهم من أقل مقوّمات العيش، كالماء والكهرباء وغيرهما، كلما أراد ذلك.

 حظيت صحراء النقب، التي تشكّل نصف إجمالي مساحة فلسطين التاريخيّة، والبالغة نحو 27,000 كلم مربع، باهتمام كبير منذ نهاية القرن الثامن عشر، بسبب موقعها الاستراتيجي الذي يمتد عبر ثلاث قارات، وبسبب تاريخها وآثارها.

وبعد أن أدركت القوى الأوروبية الأهمية الجيوسياسية لهذه المنطقة في منتصف القرن التاسع عشر، تم إرسال عدد من البعثات الاستكشافية الصهيونية لإجراء مختلف البحوث ورسوم الخرائط المتعلّقة بالنقب من أجل دراستها لأهداف استعمارية(4).

ومن خلال عرض عددٍ لا يُستهان به من هذه الخرائطـ التي خطّها الرّحالة الأوروبيون والصهاينة، يظهر الوجود البدوي في النقب منذ ما قبل تلك الفترة، ثم يظهر لاحقاً كيف تتغير ملامح المنطقة ذاتها مع ازدياد الاستيطان في ظل الهجرات اليهودية المتعاقبة إلى فلسطين التاريخية (مرفقة خريطة). 

  • خريطة تُظهر ملامح تغيّر منطقة النقب

في العقود الأخيرة، لم تألُ "إسرائيل" جهداً في التهام الأراضي الفلسطينية في النّقب، كما هي الحال في القدس والجليل والمثلث وعكا ويافا واللد والرملة وسائر المدن والقرى في الأراضي المحتلة، لتشكّل أحداث كانون الثاني/يناير من العام الجاري، والمندلعة في قرية سعوة - الأطرش، ذروةً أخرى في التصدّي لمسلسل التهويد الصهيوني المستمر.

"التشجير".. أداة قديمة جديدة اخترعها المستعمر لالتهام الأرض

يمتهن المحتلّ الإسرائيلي النهب والسرقة، ولا يتوقف ذلك عند الأرض والتاريخ فقط، بل يمتد إلى سرقة الأدوات الاستعمارية التي اخترعها واستخدمها قبله المحتلّون والمستعمرون الغربيون، لتطبيقها بالتالي على الفلسطينيين.

فكما شرع المحتل الفرنسي في زراعة ملايين أشجار الكينا (اليوكالبتوس) والزيتون في الجزائر مثلاً، بذريعة تحسين المناخ الصحراوي في منطقة الصحراء الكبرى (سهارا)، معتبراً أن السكان الأصليين "متخلّفون ومخرّبون ويسببون الضرر للبيئة التي ينتمون إليها"، ومعتبراً نفسه، أي الفرنسي، الأحرصَ والأجدر بالمحافظة على البيئة وتغيير مناخها وإقليمها وتبريدها، من أجل أن تشبه أكثر طبيعة الإمبراطورية الرومانية، و"لإعادتها" إلى حالتها "الخصبة" التي سادت في فترة حكم الأخيرة في تلك المنطقة، وبالتالي ليثبت أن الفرنسيين هم ورثة الرومان في شمال أفريقيا(5)، فكذلك يفعل المحتل الإسرائيلي في النقب، ليجعل تلك المنطقة "خضراء ومزدهرة"، بعكس ما هي عليه.

وخلافاً لادعائهم الكاذب، فإنّ جذور الرعي تعود إلى آلاف السنين في منطقة النقب، وما زالت مناطق الرعي تشكّل مساحة واسعة من جغرافيّة المنطقة. وهذا ما ساهم، وفق ما ذكره أحد كبار المؤرخين البيئيين، الأميركي جي آر ماكنيل، في توزّع شريحة البدو في مختلف المناطق واستمرار وجودهم حتى اليوم(6)، على الرغم من مظاهر التمدّن والحداثة، بالإضافة إلى عوامل أخرى لا تقل أهمية. 

مشروع "التشجير"، أو ما يُعرف بـ"الرأسمالية الخضراء"، التي ترتكز على مشاريع تدّعي كونها صديقة للبيئة، بينما هدفها استعماري، يهدف إلى السيطرة والاستيطان، وهو ما يتبنّاه الصندوق القومي اليهودي، المدعو "كاكال (ك.ك.ل)، "كيرِن كاييمِت لِيسرائيل" في النقب وفلسطين المحتلة بصورة عامة، والذي شُكّل أصلاً من أجل هذه الغاية عام 1901.

وانعكس ذلك على الاستيلاء على الأراضي والسياج عبر زراعة النباتات والأشجار الجديدة، وأحياناً اقتلاع القديمة وإبدالها بأشجار أخرى، وهو ما يُعرف بـ"التشجير" المكثَّف، بحجّة المساهمة في تحسين المناخ الصحراوي في هذه الحالة. وكان دائماً ما يُنظر إلى هذه الأداة الاستعمارية، أي التشجير، بحسب الباحثة في قسم الجغرافيا والبيئة في جامعة تكساس الأميركية، ديانا ديفيس، كعامل مُساهِم في طول بقاء المستعمر. تم الترويج لذلك عبر خطاب بيئي من جانب المستعمرين، مفاده أن الأشكال التقليدية في التعاطي واستغلال الأرض والغابات، وخصوصاً تربية المواشي والرعي، ليست فقط غير فعالة، وإنما مدمرة للبيئة. كما كان يُنظَر إلى السكان البدو على أنهم سلبيون، وعامل غير مستقر، ولا يساهمون في الاقتصاد، وأي نمو زراعي ينمّونه يستفيدون منه مباشرةً(7)، وهو ما ترى "إسرائيل" أن البدو يمارسونه، بصورة عامة.

يُضاف إلى ذلك أن الصندوق القومي اليهودي (ك.ك.ل) "JNF/KKL"، المنبثق من "المؤتمر الصهيوني العالمي"، والذي كانت له مساهمة فعّالة في تهجير الفلسطينيين من مدنهم وقراهم عشيّة النكبة عام 1948، وشارك جنباً إلى جنب مع "الهاغاناه" وغيرها من العصابات الصهيونية في طرد السكّان الفلسطينيين من مسقط رؤوسهم، لم يزل مواظباً على الدور ذاته تحت عناوين "خضراء"، تدّعي أنها صديقة للبيئة.

وفي موقعه الرّسمي، يشرح "الصندوق القومي اليهودي"، أنه، بالتعاون مع هيئات وجهات دولية (مثال: الصورة أدناه)، يسعى لتطوير النقب، عبر التشجير وتطبيق نظام ريّ باستخدام مياه الفيضانات لمكافحة التصحّر (Liman irrigation system)، وغيرهما.

  • لافتة عند مدخل إحدى القرى البدوية في النقب (العراقيب) تشير إلى التعاون بين "الصندوق القومي اليهودي" و"تلفزيون الرب" God-TV المسيحية الإنجيلية، قبل عقد، لتشجير النقب وإقامة مشاريع مياه، مستشهدة بآيات من الكتاب المقدس (سفر إشعيا)

ويعلن "الصندوق القومي اليهودي"، تحت عناوين عريضة، أنّ الخطة في النقب هي جعله سهلاً عشبياً (Savannization). ويشرح، في خطّة مطوّلة، هي "خطّة النقب 2020"، نيّة حكومة الاحتلال الإسرائيلي جلب 300،000 مستوطن جديد إلى النقب، عبر تهجير السكان الأصليين له ونزع ملكيّتهم للأرض، بالإضافة إلى توظيف 200،000 آخرين في تلك المنطقة، إلى جانب دعم الاقتصاد المحلّي البدوي، كما سمّاه، بالتعاون مع الصندوق القومي اليهودي (ك.ك.ل) وجملة من المشاريع التهويدية الأخرى.

وادي النِّعم.. مثال آخر على المخططات الصهيونية

إنّ ما تعانيه قرية وادي النّعم البدويّة، والتي تقطنها عشيرة العزازمة، وتقع إلى الجنوب الغربي من "شقيب السلام"، جنوبيّ شرقي بئر السبع المحتلة، هو مثال على ما يحدث في القرى "غير المعترف بها" في النقب ككل. فدخول قرية وادي النِّعم أشبه بالسفر عبر الزمن من المستقبل إلى الماضي؛ أي من خلال مدينة بئر السبع المحتلة، والتي تحوّلت إلى مستوطَنة عصرية، إلى منطقة مقفرة يصعب تعريفها، تسمّى وادي النِّعم، ويقطنها أكثر من 13،000 نسمة، حيث تقف أعمدة الكهرباء المصطفّة باكتظاظ على طول أراضي القرية لاستقبالك ومرافقتك، تنظر يميناً فتجد الأراضي المفرّغة من أهلها، وزُرعت مكانها محطة كهرباء مركزية تمدّ جميع المستوطنات المحاذية بالكهرباء، باستثناء قرية وادي النِّعَم والقرى البدوية الأخرى. تتطلّع يسرةً لتجد البيوت المصنوعة من ألواح الصفيح التي يتخذها البدو مسكناً غير دائم لمنعهم من السكن الثابت، والتي لا تقي سكّانها من تقلّبات المناخ الصحراوي. وفي جوف الأرض حفريّات لأنابيب ومشاريع صهيونية قيد التنفيذ من أجل مدّ خطوط غاز من السعودية ومصر، كما روى سكّان القرية للميادين نت.

  • مخططات التهجير، التي طالت النقب كانت بدأت منذ قيام كيان الاحتلال الإسرائيلي

نعيم أبو بنيّة، ناشط وعضو اللجنة المحلّية في قرية وادي النّعم، يوضح للميادين نت أن "مخططات التهجير، التي طالت النقب، كانت بدأت منذ قيام كيان الاحتلال الإسرائيلي، وانطلقت تحت مسمّيات متعددة تصبّ في المجرى ذاته، هو تهجير السكّان الأصليين وتجميعهم في أصغر بقعة أرضية ممكنة. فمن ترحيل البدو إلى ما يُعرَف بمنطقة السّياج في الخمسينيات، إلى مخطط تجميع فلسطينيي النّقب في منطقة تل السّبع في السبعينيات، فقانون العنزة السوداء، فمخطّط پراڤر، فمخطّط غولدبرغ، وليس أخيراً مشروع "التشجير" الذي اخترعه "الصندوق القومي اليهودي" (ك.ك.ل)".

 تُعَدّ قرية وادي النّعم في عُرف الاحتلال الإسرائيلي قرية "موقتة" إلى حين قيام المستوطنة التالية. فهي غير متصلة بشبكة المياه، وتنعدم فيها خدمات الكهرباء والصرف الصحي والاتّصالات وشبكة الطرق، ويعاني سكانها نقصاً حاداً في خدمات التّعليم والرعاية الاجتماعية والبنى التحتية. وهذا عملياً ما تترتّب عليه قضية سلب "الاعتراف"، الذي تعانيه عشرات القرى الفلسطينية في النقب إلى جانب قرية دهمش في اللد وغيرها، وليس الاعتقاد المغلوط بأن ثمة مَن ينتظر صكّاً أو اعترافاً إسرائيليّاً بوجوده من الفلسطينيين في الداخل المحتل.

  • تُعَدّ قرية وادي النّعم في العُرف الإسرائيلي قرية "موقتة" إلى حين قيام المستوطنة التالية

في العقود الأخيرة، تم إنشاء أحد المواقع الأكثر خطورةً بالقرب من قرية وادي النعم، والذي يتربّص بصحّة السّكان وبسلامة البيئة المحيطة بهم. الحديث هنا عن منطقة "رمات حوڤاڤ" الصناعية، التي تشكل خطراً حقيقياً ناجماً عن المواد الكيميائية السامّة التي يتم تصنيعها، والتي تتسبّب بروائح كريهة وسامة تؤدي إلى تلوّث شديد في الهواء والتربة والمياه الجوفية، على بُعد بضع مئات من الأمتار فقط عن قرية وادي النّعم.

  • تتربّع المنطقة الصناعية العسكرية "رمات بيكع" إلى الشرق من وادي النعم

وإلى الشرق من وادي النعم، وبمحاذاة عشرات القرى البدوية المسلوبة الاعتراف، تتربّع المنطقة الصناعية العسكرية، "رمات بيكع"، والمقامة حديثاً على 133،000 دونم من أراضي البدو الفلسطينيين، والتي تسعى للتوسّع، لتغيير مكان شركة "تاعَس" المتخصصة بتطوير الأسلحة وتصنيعها، والمعروفة بـIMI Systems) Israeli Military Industries)، من وسط فلسطين المحتلة في "رمات هشارون"، إلى جنوبيها في النقب، أواخر عام 2019. إذ بيعت الشركة المذكورة لـ Elbit Systems وشركة تومر  (Tomer) الحكومية من أجل إجراء تجارب وإنتاج أسلحة وذخيرة، تؤدي إلى إزعاج البدو والإضرار بهم في قرية وادي النعم وما حولها من القرى غير المعترف بها (مرفقة خريطة أدناه)، وتصديع منازلهم ومدارسهم نتيجةً للانفجارات الناجمة عن هذه التجارب، عدا عن انعكاساتها المضرّة جدّاً بصحّة السكان، وهذا غيض من  فيض.

  • خريطة توضح منطقة "رمات بيكع" الصناعية

في المحصّلة، إنّ ما يحدث في النّقب هو نموذج آخر عن المخطط الصهيوني المطبّق في كل المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، والهادِف إلى الاستيلاء على فلسطين التاريخية وتغيير معالمها، وتجريد الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه.

مصادر: 

1 - (1959) ج5: 1056-1065

2 - [Emanuel Marx 1967:11]

3 - الخالدي، وليد. كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998. ص745-746

4 - Levin, Noam, Kark, Ruth, and Galilee, Emir (2010). Maps and the settlement of southern Palestine, 1799-1948: an historical/GIS analysis. Journal of Historical Geography 36 (1) 1-18

Diana K. Davis, "Restoring Roman Nature: French Identity and North African Environmental History" - 5 Environmental Imaginaries of the Middle East and North Africa (eds. Diana K. Davis and Edmund Burke III), Athens OH: Ohio University Press, 2011, pp. 60-86

6- J.R. McNeill, "The Eccentricity of the Middle East and North Africa's Environmental History", Water on Sand: Environmental Histories of the Middle East and North Africa (ed. Alan Mikhail), Oxford: Oxford University Press, 2013, pp. 27-50.

 7-  Diana K. Davis, “Political Forests, Degradation Narrative, Science and Environmental Policy in Protectorate Morocco, 1912-1956”, Environmental History, Vol. 10 No. 2 (April, 2005), pp. 211-238

المصدر: الميادين.نت