"الناتو" بعد تفكّك "وارسو": أيُّ حلفٍ لأيِّ أهداف؟

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد حلف وارسو، انتفت الأسباب التي تأسّس من أجلها حلف شمال الأطلسي.
  • القضاء على بقايا حلف وارسو، وتفكيكه تماماً، كانا هدفاً أميركياً عميقاً

في عام 1949، وقّعت 12 دولةً معاهدة شمال الأطلسي، في العاصمة الأميركية واشنطن، والتي تأسس بموجبها حلف شمال الأطلسي (الناتو).

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والقضاء على النازية بعد هزيمة ألمانيا، برزت اصطفافاتٌ جديدةٌ بين الدول التي وحّدها هتلر في جبهة الحلفاء، تجلّت في معسكرين جديدين خاضا حرباً من نوع آخر، هي الحرب الباردة. هذان المعسكران هما المعسكر الشرقي، بقيادة الاتحاد السوفياتي، والذي انضوت دوله الاشتراكية تحت لواء حلف وارسو، والمعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والذي انضوت دوله الرأسمالية تحت لواء حلف الناتو، الذي أعلن أن أهدافه تتلخص في الدفاع عن أوروبا الغربية ضد الاتحاد السوفياتي، الذي كان يشكّل قوّةً مرعبة، بحيث وصلت قواته إلى برلين، ووجّهت الضربة القاضية لنظامها النازي، بعد أن ردّت جيشه المدجَّج بمختلف أنواع الأسلحة من داخل أراضيها.

انتفاء مبرِّرات التأسيس

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1990، وانفراط عقد حلف وارسو، انتفت عملياً الأسباب التي تأسَّس من أجلها حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك لم ينحلَّ هذا الحلف، الذي تذرّع  بالدفاع عن المصالح السياسية والعسكرية للدول الأعضاء فيه، والتي أصبح عددها 29 دولةً، مع توسّعه بالتدريج، وضمّه دولاً سبق أن كانت ضمن الحلف المُعادي، مثل تشيكيا وسلوفاكيا (اللتين كانتا تشكّلان دولةً واحدةً هي تشيكسلوفاكيا)، وألمانيا الشرقية (التي التحقت بألمانيا الغربية ضمن الناتو بعد الوحدة)، وبلغاريا والمجر وبولندا نفسها، التي حمل الحلف السابق اسم عاصمتها.

لماذا استمرَّ الناتو؟

القضاء على بقايا حلف وارسو، وتفكيكه تماماً، كانا هدفاً أميركياً عميقاً. فأشهر مهمّات الناتو في أواخر التسعينيات هي القصف والغارات التي شنّتها طائراته على يوغوسلافيا، التي تفككت بتأثير تدخلات الناتو في عدّة دولٍ، اثنتان منها هما سلوفينيا ومقدونيا، وانضمتا إلى حلف الناتو لاحقاً. وزحف الحلف أكثر، عبر ضمّه هذه الدول، إلى حدود روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفياتي، والتي تشهد الساحة الدولية اليوم طلائع عودة مكانتها ، وخصوصاً مع خروج قوّاتها خارج حدود البلاد، عبر التدخّل العسكري السريع والحاسم في جورجيا في عام 2008، والمشاركة المستمرة منذ عام 2015، على نحو محدودٍ، في العمليات العسكرية الجارية في سوريا، ضد التنظيمات الإرهابية.

تبحث الولايات المتحدة عن أطراف تشاركها  في تحمُّل أعباء تكاليف حروبها. كانت الحال كذلك في أفغانستان عام 2001م، وفي العراق أيضاً، مع تردد أوروبي ملحوظ، ظهر في مناسبات متعددة في المواقف الفرنسية والألمانية والإسبانية.

المصلحة الأميركية في استمرار الناتو

يُعتبر الناتو أكبر تحالفٍ عسكريٍّ في العالم، وهو ينفق 70% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وبحسب التقديرات، فإنَّ ميزانيته السنوية تتجاوز مليار دولارٍ أميركي، تبلغ نسبة المشاركة الأميركية فيها 22%، وفق موقع "كوارتز" الأميركي، متجاوزةً في ذلك إجمالي مساهمة سائر الدول الأعضاء في الحلف. 

من الطبيعي أن يكون الطرف المساهم في الحصة الأكبر من التمويل متحكّماً في توجيه السياسات العامة للحلف، ووضع خطة عمله العسكرية، وتحديد مهماته والإشراف على تنفيذها. كما أنَّه يستفيد من الحصة الأكبر في عقد صفقات تسليحٍ لدعم الدول الأصغر والأضعف عسكرياً، والمحتاجة إلى بناء جيوشها وتطويرها. أمّا الفائدة الاستراتيجية الأكثر أهميةً، فهي إبقاء جميع الدول الأعضاء، وتحديداً الكبرى منها، تحت العين العسكرية لـما بات يسميه كثيرون "الأخَ الأكبر" الأميركي، من خلال التنسيق العسكري الدائم بينها، إذ لا يمكن لأيٍّ منها أن تتّخذ قراراتٍ، أو تعقد تحالفاتٍ، ترى الولايات المتحدة أنها تضرُّ بأمن سائر الدول الأعضاء ومصالحها. والمثال الأحدث على ذلك هو التوتر الأخير القائم مع تركيا، التي قرّرت شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية "S 400"، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى اتّخاذ إجراءات عقابية بحقّها.

التحديات الجديدة التي تواجه الحلف 

أواخرَ عام 2020 خرجت بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي؛ التحالفِ الاقتصادي الذي يسعى لإعادة المكانة السابقة للدول الأوروبية، والتي خسرتها بعد الحرب العالمية الثانية لمصلحة الولايات المتحدة. الابتعاد البريطاني هذا عن أوروبا، كان لمصلحة الاقتراب من الولايات المتحدة. ففي منتصف أيلول/سبتمبر الماضي، تمَّ إعلان إنشاء تحالفٍ أمنيٍّ، أُطلق عليه اسم معاهدة "أوكوس"، جَمَعَ أميركا وبريطانيا وأستراليا (التي شاركت في غزو العراق!). وترافق هذا الإعلان مع إلغاء أستراليا صفقةَ غواصات مع فرنسا، لمصلحة صفقة أخرى مع بريطانيا، تتضمّن غواصات تعمل بالدفع النووي، الأمر الذي حقَّق لبريطانيا فوائد اقتصادية آنية، وهي تأمل في أن يكون له فوائد عسكرية لاحقة.

فرنسا هي الخاسر الأكبر من المعاهدة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ووصفت الاتفاقية الثلاثية بأنها "طعنة في الظهر". وسبق لرئيسها إيمانويل ماكرون، في الذكرى الـ70  لتأسيس الناتو، أن تهجّم على الحلف، واصفاً إياه بأنه "ميت دماغياً".

هذه الخلخلة بين دول كبرى مؤسِّسة للحلف، وإن كانت آتيةً من خارجه، فإن أصداءها تتردَّد داخله. وللوهلة الأولى، تبدو الولايات المتحدة، وفق هذا الأمر، كأنها تعمل ضد مصلحتها التي تقتضي استمرار الحلف تحت سيطرتها، ولا يمكنها إعادة رصّ مكوناته، بعضها لبعض، إلاّ من خلال تهديدٍ خارجيٍّ وعدوٍّ مشترك... ومَن هناك غير الروس؟

"التهديد" الروسي

ازدحم الإعلام الغربي بعناوين التهديد الروسي لأوكرانيا، وحشد قوات الجيش الروسي قرب حدود الدولة، التي خسرت في استفتاء شعبي، عام 2014، شبه جزيرة القرم لمصلحة روسيا. رفعت الولايات المتحدة مستوى خطابها المتعلق بالدفاع عن أوكرانيا وحمايتها. يُذكَر أن خطابها تزامن مع خطاب مماثل، لكنه يتعلق بمنطقة أخرى في العالم، أكثر شرقاً، هي تايوان.

في المقابل، نفت روسيا المزاعم الغربية، التي تحدّثت عن هجومٍ محتملٍ لها على أوكرانيا، ووصفتها بـ"التصريحات المجانية". ووضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "خداع الناتو" الأخير، والمتذرّع بـ"التهديدات الروسية" الأخيرة لأوكرانيا، في إطار تبرير توسّعه الجديد نحو الشرق. وأوضح أنَّ "التوسّع أسفر عن نشر منظومات عسكرية هجومية للناتو في رومانيا وبولندا، عند مقربة مباشرة من حدود روسيا، بينما يتحدث حلف شمال الأطلسي اليوم عن إمكان انضمام أوكرانيا إليه، أو نشر منظومات هجومية في أراضيها، بموجب اتفاقيات ثنائية".

وطالب الرئيس الروسي الناتو بتقديم ضمانات لروسيا، لأنه هو الذي أتى بصواريخه إلى حدودها.

ما هو المقبل؟

جرت أخيراً جولة محادثات بين وفدٍ روسي وآخر أميركي، بشأن الضمانات الأمنية التي تطالب روسيا الناتو بتقديمها إليها. وعبّرت روسيا عن هذه المحادثات من خلال وصفها بالـ"مفيدة"، لكنها أشارت، في الوقت ذاته، إلى أنه لم يتمَّ إحراز أيّ تقدّمٍ فيها، بحيث قال رئيس الوفد الروسي، نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، إنَّ "الأميركيين لا يسمعون منطقنا ومطالبنا"، الأمر الذي يدفع إلى احتمال مفاده أنَّ الولايات المتحدة تكسب الوقت وتساير الروس من خلال هذه المحادثات، وخصوصاً في ظلِّ ما كشفه موقع "ياهو نيوز"، نقلاً عن 5 من مسؤولي الاستخبارات والأمن القومي السابقين في الولايات المتحدة، ومفاده أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ("سي آي أيه") تشرف على برنامج تدريب أميركي سري لنخبة من القوات الخاصة الأوكرانية، وأفراد استخبارات آخرين. 

بقيت أوروبا خارج هذه المحادثات، وخارج الأحداث الجارية في شرقها،  لاحقة بالأحداث لا صانعة لها أو مشاركة فيها، في استمرارٍ لتراجعها المتلاحق بعد حربين عالميتين في القرن الماضي. وبعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تبدو ألمانيا، إلى جانب فرنسا، أكبر اللاحقين بالأحداث من دون أن تكونا فاعلتين أو مؤثّرتين فيها، وأعلنتا أنهما أظهرتا "تطابقاً في وجهات النظر بينهما بشأن أوروبا"، وأبرزتا "عزمهما على العمل معاً في مواجهة التحديات الدولية الكبرى"، وفي طليعتها "الأزمة الأوكرانية"، من دون أن يتبع هذا التصريح، الذي مضى عليه نحو 5 أسابيع، أيّ إجراءات عملية.

هل تسعى الولايات المتحدة لمنع تكرار النموذج الجورجي في أوكرانيا؟ أم أنها تهدف إلى إعادة إحياء حلف الناتو، وتوسيع مجال نفوذه، من أجل مزيد من الضغط على روسيا ومحاصرتها عسكرياً؟ وما سيكون ردُّ فعل الأخيرة أمام مَن يعمل على قطع طريق صعودها من جديد، ساعياً لسَجنها داخل حدودها؟

المصدر: الميادين نت