كيف عزّزت الأزمة الاقتصادية في لبنان مفهوم "المرأة المُدبّرة"؟

كيف تُحوّل الأزمة الاقتصادية في لبنان النساء إلى مهندسات حديثات التجربة في بيوتهنّ؟ وكيف تؤدي المرأة دوراً في خلق البدائل للعيش من أجل اتزان البيت ومنع هبوطه على الرغم من كل العوامل التي تدفعه إلى الأسفل؟
  • امرأة لبنانية تَحُوك السجاد منذ أكثر من 35 عاماً، وتعيل نفسها وعائلتها من المردود المالي المتأتّي من بيعه

تُدهشك المرأة غالباً بفرط قدرتها على التحمّل ورتق الأشياء. دائماً تجترح حلولاً تفقأ بها عين المستحيل. في الزحام، هي الشرطي الأول الذي يتمكّن من تيسير أمر الطريق. تماماً، لدى المرأة قدرة على إيجاد سبل يومية بديلة للعيش. تستر بيتها وتعيله في الأزمات، وتتحول إلى كائن يعرف كل شيء، ويستطيع تدبّر أيّ أمر. تكون غطاءً عندما يشتدّ البرد، ودرعاً متينة عندما تشتد الحروب.

تتغنّى الأمهات عادةً بأنهن ربّين فتيات قادرات على الاستغلال الصحيح لكل الأشياء من حولهن، على نحو يتماشى مع مستوى حياتهن الاجتماعية وميزانية الأسرة. ربما تصبح المرأة مدبِّرة عندما يضيق الخناق الاقتصادي عليها وعلى عائلتها، فتصنع شيئاً من لاشيء، أو عندما تؤدي دوراً جوهرياً في اتزان البيت وعدم الانجرار إلى أن هبوطه، على الرغم من كل العوامل التي تدفع إلى الأسفل. وقد تكون "المدبّرة" هي التي لا يوجد في بيتها مؤونة ليوم كامل، لكن سُفرتها ستكون جاهزة عند وقت الطعام، أو التي لا تملك نقوداً لتشتري فستاناً جديداً لعرس الغد، لكنها ستكون غداً في كامل أناقتها، أو ربما هي التي لم تشترِ لطفلها ثوباً جديداً منذ زمن، لكن أحداً لم يلحظ ذلك.

هل المرأة اللبنانية مُدبّرة؟

في لبنان أزمة اقتصادية حقيقية تراها أينما ولَّيت وجهك. عاصفة مالية عصفت بكل البيوت، ولم تستثنِ أي عائلة، وبالتالي أي امرأة. وتجلّى ذلك في انهيار تامّ لليرة اللبنانية أمام سعر صرف الدولار، بحيث هبطت الليرة إلى قرابة الـ25 ألفاً في مقابل الدولار الواحد، وأدى ذلك إلى هبوط سريع ومريع في القيمة الشرائية.

قيمة السلع إلى ارتفاع جنوني. اللحوم شُطبت من قائمة الأكلات اليومية. الخضار والفاكهة سجّلت أسعاراً باهظة. ماذا يعني لربة المنزل أن يصبح ثمن كيلو البندورة 13 ألف ليرة بعد أن كان ألف ليرة؟ طبخة المجدّرة، التي كانت تُسمى "أكلة الفقير"، والتي كانت تكلفتها لا تتعدى 10 آلاف ليرة، وأصبحت تكلفتها نحو 70 ألف ليرة، و"الخير لقدام"، بحسب نساء لبنانيات يَرَين في هذه المتغيرات كابوساً يفوق قدرتهنّ على التحمّل.

"أنا كل يوم أَجُود من الموجود"، تقول آية (27 عاماً)، وهي أم لـ3 أطفال صغار. اثنان منهم في حاجة إلى الحليب المصنَّع، والذي بلغ سعر العبوّة الواحدة منه نحو 300 ألف ليرة، بعد أن كان ثمنها 13 ألف ليرة. لن تشتري آية سجادة لأطفالها هذا العام، كما لم تفعل العام الماضي، وباتت تجتمع وعائلتها في الشتاء في الغرفة الوحيدة التي تبسط فيها سجادة. تستحي آية وهي تخبرنا بأن راتب زوجها يبلغ مليوناً و100 ألف ليرة، أي ما يعني ثمن 3 عبوّات حليب ونيف، "ولا أكلنا ولا شربنا بعد". لكنها ستخفف من الحليب، وستجدُ بديلاً من خلال الطعام "حتى نصل إلى مرحلة نستغني فيها عن الحليب نهائياً. ففي النهاية، الحليب المصنَّع جديد على ثقافتنا، ولن يموت طفل من دونه". 

لكن أم كريم (40 عاماً)، والتي أمهلتنا للرد علينا لأنها كانت تصنع الجبنة في منزلها لعشاء المساء لعائلتها، تقول إن "ست البيت بدّها تفتش حتى تأمن بيتها". وتعتبر أن قطعة الأرض التي تمتلكها في قرية مجدل سلم  في جنوبي لبنان، هي التي تقيها وعائلتها من شبح الفقر. أم كريم، التي تزرع الخضار في أرضها الصغيرة، تحشر الخضار في أي طعام تريد إعداده، "ورق عنب مع خضرة، كوسى مع خضرة، مصقعة باذنجان مع خضرة".

هذه حال أغلبية العائلات اللبنانية، في كل حال. فبعد غلاء ثمن اللحوم، اتجهت السيدات إلى إلغائها من مكونات الطبخات، حتى التي تُعدّ اللحمة من أصل مكوناتها. فهل أكلت الشاكرية (اللحم المطبوخ باللبن) يوماً ما من دون لحمة؟ قد تتذوقها في لبنان.

هواجس إسراء (31 عاماً) مغايرة، لأنها لا تستطيع شراء ثياب جديدة منذ مدة طويلة، لأن أي قطعة قد يفوق سعرها راتبها، لكنها تحاول النظر بعين الرأفة إلى الثياب التي تستخدمها، وتحاول أن تعطيها "فرصة ثانية" من أجل ارتدائها، وتقول إنها ربما تكون فرصة في أن تتعلم أن كل الثياب في الخزانة هي للاستخدام، وليست "للمنظر". 

هذه عيّنة من المشاكل الحقيقية التي تواجه نساء لبنان، لكنها ليست الوحيدة، فلقد ارتفعت أيضاً أسعار الأدوية الخاصة بهنّ بعد أن تمّ رفع الدعم عن الدواء في لبنان، وارتفعت أيضاً أسعار الفُوَط الصحية على نحو يفوق القدرة على شرائها. بلغ سعر علبة الفُوَط الصحية الواحدة حوالى 40 ألف ليرة، الأمر الذي دفع بعض النساء إلى الاقتصاد في استخدامها، أو إيجاد طرائق بديلة، مع ما يسببه ذلك من مشاكل صحية. ريان مرعي (25 عاماً) عملت وشقيقتها فاتن في مشروع لصنع فوط صحية من قماش طبيعي. تقول إن هذا المشروع نشأ من ةأجل إيجاد بديل صحي واقتصادي عن الفوط العادية التي تحتوي على مادة البلاستيك. وترى أن "النساء يستطعنَ شراء هذه الفوطة مرة واحدة وغسلها واستخدامها مدةً طويلة".

أُجبِرَت النساء في لبنان على خلق أفكار جديدة وبديلة كي يستطعن التعايش مع الأزمة. عملت بعضهن على مشاريع لتجديد الثياب القديمة وبيعها، والشراء من الأحياء الشعبية، وبيع الثياب المستعمَلة، كذلك، تحاول النساء اختراع لُعَبٍ من مقتنيات المنزل لأطفالهن، والاستغناء عن اللُّعَبِ الجاهزة، لأن أسعارها باتت خيالية. في كل يوم، ستحاول المرأة في لبنان اختراع حلول من أجل إبعاد شبح الأزمة عن أطفالها وأسرتها، وعن سلامتها الشخصية. 

تُجبر الظروف الاقتصادية السيئةُ المرأةَ في لبنان على تعزيز مفهوم "المرأة الـمُدبِّرة". ولأن المرأة تجسّد معنى التحمّل، فربما يكون أدق تعبير في وصف المرأة الـمُدبِّرة هو المرأة القوية؛ تلك التي قد يلوي الفقر ذراعَها، لكنه لا يقدر على كسرها. 

المصدر: الميادين نت