72 عاماً من الجغرافيا القلقة.. هل ينفجر الصراع بين الصين وتايوان؟
يتزايد الحديث مؤخراً عن احتمال حدوث تحوّلات دراماتيكية في بحر الصين الجنوبي ومنطقة المحيط الهادئ. تتوجّه الأنظار غالباً إلى تايوان، وخصوصاً مع ارتفاع منسوب التصريحات الأميركية والصينية حول هذه الجزيرة، ما يذكّر بالحالة الأوكرانية في الاحتدام القائم بين روسيا والغرب.
تعود جذور الاهتمام بقضية الصين-تايوان إلى منتصف القرن الماضي، أي إلى نشأة الصين الحديثة مع انتصار الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ في الحرب الأهلية على الحزب القومي الصيني "الكومنتانغ" الذي كان يسيطر على مقاليد الحكم منذ العام 1912 حتى العام 1949، وهي السنة التي شهدت سيطرة ماو وحزبه على البرّ الرئيسي للصين، وفرار "الكومنتانغ" وزعيمهم تشانغ كاي تشيك إلى تايوان، التي أعلنوها الممثل الأساسي للصين وجعلوها مقرّاً للحكومة المكلّفة باستعادة الأخيرة من قبضة الشيوعيين.
فشل القوميون في إعادة السيطرة على البرّ الصيني الرئيسي، لكنهم حافظوا على اعتراف دولي بتمثيلهم لكامل لصين، وذلك حتى مطلع خمسينيات القرن الماضي، حين بدأ نظام تشانغ كاي بخسارة اعتراف دول عدّة، كبريطانيا وفرنسا والسويد وسويسرا، ثم كندا، ووصولاً إلى العام 1971، وهو العام الذي شهد إقصاء "جمهورية الصين" (تايوان) بشكل رسمي من الأمم المتحدة ومنح مقعدها لجمهورية الصين الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ، رغم معارضة الولايات المتحدة لهذا القرار.
رسمياً، انتهت الحرب بين تايبيه وبكين في العام 1991، حين أعلنت تايوان ذلك، لكن العلاقة بين العاصمتين ظلّت بعيدة كل البعد عما طرحه الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ أثناء مفاوضاته مع بريطانيا لحل قضية هونغ كونغ، أي مبدأ "دولة واحدة ونظامان"، والذي يضمن استمرار الإدارة المحلية في كلٍ من المستعمرتين السابقتين (هونغ كونغ وماكاو)، إذ رفضت تايبيه الإقرار بانضوائها تحت السيادة الصينية، وادّعت حقّها في الحفاظ على المزيد من الاستقلال في الحكم، وإن كان ميزان الدبلوماسية لم يعد راجحاً لمصلحتها، بسبب عجزها عن كسب الاعتراف الدولي الذي ظلّ مقتصراً على نحو 17 دولة، معظمها جزرية، إضافة إلى افتقادها التمثّل كدولة في المؤسسات والهيئات الدولية، بل حتى في المهرجانات والمسابقات الرياضية العالمية.
تحوز تايوان مقدّرات اقتصادية وناتجاً محلياً يبلغ نحو 636 مليار دولار، يضعها في المرتبة السابعة ضمن الاقتصاديات الآسيوية، والـ21 عالمياً، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وتشتهر بموقعها المتقدّم على خارطة الصناعات التكنولوجية، والتي تتضمن صناعة الهواتف الذكية، والحواسيب، والشرائح الإلكترونية ذات الخصائص المتقدّمة (تصنّعها شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، وتستخدم في أحدث منتجات شركة آبل)، والتي تبدو الصين متأخرة في الوصول إليها.
هذه القوّة الاقتصادية إذا ما قُرنت بموقع الجزيرة الحيوي في المحيط الهادئ؛ اليابان شمالاً، والفلبين جنوباً، والمهدِد للأسطول والقواعد الأميركية الأبرز في المحيط (غوام، أوكيناوا)، وبما قد تمثّله من نموذج لأقاليم أو مناطق إدارية أخرى تابعة للصين وذات نزعات انفصالية (إقليم شينجيانغ، هونغ كونغ، ماكاو)، وبارتباطها الوثيق بواشنطن منذ التأسيس في العام 1949، والذي يؤهلها لأن تكون خنجر الولايات المتحدة في خاصرة الصين، كلّ ذلك يرشّح تايوان لأن تكون في المرحلة المقبلة فرس الرهان الأميركي في سباقها الساخن مع الصين.
اقرأ أيضاً: بحر الصين الجنوبي.. الأهمية الاستراتيجية ومستقبل الصراع
الصين وتايوان.. لا تراجع عن الوحدة
خطاب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، حول تايوان في الذكرى الـ110 للثورة على آخر السلالات الإمبراطورية الصينية، يوضح معالم سياسة بكين تجاه الجزيرة، أولاً لناحية التأكيد على حصرية خيار الوحدة مع تايبيه، والتي يعدُّ تحقيقها سلمياً "أكثر انسجاماً مع المصلحة العامة للأمة الصينية، بما في ذلك مواطنو تايوان"، من دون استبعاد خيار استخدام القوّة، فالشعب الصيني، بحسب شي، يمتلك إرادة وقدرة قويّة على "الدفاع عن سيادته الوطنية وسلامة أراضيه".
ما قاله الرئيس الصيني يأتي منسجماً مع الموقف الصيني التقليدي تجاه الجزيرة، ومع قانون مناهضة الانفصال الذي أقرّته بكين في العام 2004، والذي ينصّ على حقّ الصين في استخدام "الوسائل غير السلمية" ضد تايوان إذا حاولت الانفصال، لكنّه يأتي هذه المرة في سياق تحركات تايوانية وغربية مستفزّة للصين ومنسجمة مع التوجّه الأميركي لتطويقها وكبح طموحاتها بالتفوّق والتوسّع.
ترجمة تصريح الرئيس الصيني إلى خطوات عملية تجلّت مؤخراً في تحميل بكين المسؤولين التايوانيين "المتعصبين والداعمين لاستقلال" الجزيرة، التي يقطنها نحو 24 مليون نسمة، "مسؤولية جنائية وفقاً للقانون مدى الحياة"، ما سيؤدي إلى حرمانهم من دخول البرّ الرئيسي للصين وهونغ كونغ وماكاو، ويمنعهم من التعاون مع كيانات أو أفراد من البر الرئيسي. هذا الإجراء الذي يشمل مسؤولين تايوانيين كباراً، كرئيس الحكومة ورئيس البرلمان، يحمل رسالة سياسية لقادة الاستقلال التايواني، مفادها أنّ الصين لن تتسامح مع أصحاب هذا التوجّه، وستستخدم أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية لمحاصرة أولئك الذين يدعمون هذا الخيار.
لكنّ سياسة العقوبات والعمل على "التوحيد السلمي" ليست رسالة بكين الوحيدة لتايبيه عبر المضيق، فخلال الشهر الماضي، أرسلت الصين نحو 150 طائرة حربية إلى مناطق محاذية للمجال الجوي التايواني، في رقم قياسي من طلعات الطائرات الحربية الصينية، وهو الأمر الذي وصفه وزير الدفاع التايواني، تشيو كو تشينغ، بأنّه أصعب موقف واجهته الجزيرة منذ انسحاب القوات الأميركية منها في العام 1979.
25 PLA aircraft (J-16*18, SU-30*4, H-6*2 and Y-8 ASW) entered #Taiwan’s southwest ADIZ on October 1, 2021. Please check our official website for more information: https://t.co/C7012S8hSo pic.twitter.com/HoalLl3Ewx
— 國防部 Ministry of National Defense, R.O.C. 🇹🇼 (@MoNDefense) October 1, 2021
أميركا تنهي غموضها الاستراتيجي؟
إيلاء الولايات المتحدة أهمية في سياساتها لهذه القضية لا يعود إلى فترة قريبة. منذ التسعينات، ومع زيادة القدرات العسكرية لجيش التحرير الشعبي الصيني والقفزات التي حققتها الصين في نموها الاقتصادي، أخذ الحديث عن مستقبل الأمور في المضيق يكثر في الدوائر الأميركية.
ورغم التشكيك آنذاك في قدرة الصين على إنجاز نصر سريع وحاسم على تايوان، وتجنّب تدخل الولايات المتحدة وحلفائها في الحرب، فإنّ التخوّف ظلّ قائماً مما ستحمله السنوات المقبلة تجاه هذه القضية التي أعطيت أبعاداً متعلقة بمستقبل الولايات المتحدة نفسه، وهو الأمر الذي دفع توماس جاي كريستنسن، أستاذ العلوم السياسية والمختص في الشؤون الصينية، إلى أن يكتب قبل 20 عاماً أنّ الصين إن كانت قادرة على غزو تايوان بفاعيلة وسهولة، فإنّ العالم سيكون "مختلفاً جوهرياً"، تماماً كما لو كانت ريادة أميركا تراجعت، والتعددية القطبية ستبدو قاب قوسين أو أدنى.
حافظت الولايات المتحدة على وجودها العسكري في تايوان حتى العام 1979، وهو العام الذي اعترفت فيه واشنطن بأحقّية بكين بتمثيل الصين، في خضمّ سياستها لمواجهة الاتحاد السوفياتي، قاطعةً بذلك علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان مقابل الحفاظ على علاقات وثيقة يرعاها "المعهد الأميركي في تايوان"، ويدعمها قانون صادر عن الكونغرس ينصّ على التزام واشنطن بالحفاظ على القدرات الدفاعية التايوانية بما يحميها من هجمات البر الرئيسي الصيني، من دون تقديم تعهّد بالتدخّل المباشر.
إذاً، تطوّر العلاقات الاقتصادية والسياسية بين بكين وواشنطن في العقود الأربعة الماضية لم يكن على حساب تايبيه، لكنّه ألزم الإدارات الأميركية المتعاقبة بالحفاظ على مبدأ "الغموض الاستراتيجي" تجاه الجزيرة، وهو مبدأ يجنّب الولايات المتحدة الإعلان عن تدخلها عسكرياً في حال قرّرت القيادة الصينية استعادة سيادتها على تايوان باستخدام القوّة، ويكبح، من جهة أخرى، آمال الانفصاليين التايوانيين الذين قد يقودهم مثل هذا الإعلان إلى تصعيد الموقف في مواجهة الصين.
وفي إطار سياستها الهادفة إلى تعزيز قدرات تايوان في مواجهة الصين، تزوّد الولايات المتحدة القوات التايوانية بالأسلحة المختلفة، بما في ذلك طائرات "أف-16" المقاتلة، ودبابات "أبرامز"، وصواريخ "ستينغر" المحمولة المضادة للطائرات، وأنظمة "الهاوتزر" الذاتية الدفع.
لكن أمام الإقرار بالتفوّق العسكري الصيني على تايوان، وتحذير قائد القوات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأدميرال فيليب ديفيدسون، من قدرة الصين على غزو تايوان في السنوات الـ6 مقبلة، والخوف من تراجع التفوّق العسكري الأميركي في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي، أخذت الأصوات الداعية إلى إنهاء "الغموض الاستراتيجي" الأميركي ترتفع.
وضوحٌ قد ينهي سنوات السلام
بدأت معالم استراتيجية إدارة الرئيس جو بايدن تجاه الصين تتضح في الشهرين الماضيين، بدءاً من الإعلان عن تشكيل تحالف "أوكوس" (واشنطن، لندن، كانبيرا) الذي يستهدف محاصرة الصين في المحيط الهادئ، مروراً بتحالف "كواد" (واشنطن، طوكيو، نيودلهي، كانبيرا) الذي يطوّق الحراك الصيني، وليس انتهاءً بإعلان بايدن صراحةً بأنّ الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان عسكرياً إذا تعرّضت لهجوم.
ويتقاطع تعهّد بايدن بالدفاع عن تايوان مع إعلان الرئيسة تساي إينغ وين أنّ عدداً صغيراً من القوات الأميركيّة منتشر في تايوان للتدرّب مع جنودها، ومع ما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مصادر أميركية بأنّ 20 عسكرياً من القوات الخاصة ووحدة من جنود مشاة البحرية درّبوا وحدات من البحرية التايوانية.
الكشف لأوّل مرة، منذ العام 1979، عن مشاركة جنود أميركيين بتدريبات في تايوان، يتّفق أيضاً مع الدعم الدبلوماسي الغربي المتزايد لتايبيه، والذي تمثّل مؤخراً بدعوة وزير الخارجية الأميركي دول العالم إلى "دعم مشاركة كبرى وقوية لتايوان" في مؤسسات الأمم المتحدة، وبإجراء وفد برلماني أوروبي زيارة رسميّة هي الأولى من نوعها إلى تايوان، وذلك رغم معارضة الصين التي ترى في هذا الدعم الدبلوماسي "إشارة خاطئة" للانفصاليين.
عند هذا الموضع، تظهر المفارقة، كما يشرح أندريه لونغو، في أنّ أميركا المستفَزّة من الصين، والتي تخشى من سيطرة الأخيرة على تايوان، تقدم على خطوات عسكرية وسياسية مستفِزّة للصين التي تخشى من آثار حربها مع تايوان على صعودها العالمي واقتصادها الوطني، وتفضّل سيناريو مشابهاً لبسط سيطرتها على هونغ كونغ، من خلال استغلال الظروف السياسية المواتية والسلمية.
وبالتالي، يمكن توقّع مستقبل الوضع القائم من زاوية النشاط الأميركي، فحين تبالغ واشنطن في مساعيها لـ"حماية تايوان" وترسيخ سيادتها، علينا ترقّب تقويض الصين لهذه المساعي، وانتظار اللحظة التي تبدأ فيها السفن الحربية الصينية بإنزال جنود المشاة على شواطئ الجزيرة.