ابن سلمان بين تصريحَين.. تصدير أزمة وخلق أخرى!
لا يمر خبر وفاة أميرٍ سعودي أو مسؤولٍ أمني أو حكومي في المملكة من دون ضجةٍ إعلامية. ما عادت دوائر صنع القرار ووسائل الإعلام، وحتى العوام، تقتنع بخبر الموت الطبيعي المفاجئ في السعودية. يوم أمس مثلاً، لم يكد يعلن عن نبأ وفاة الأمير سعود بن عبد الرحمن بن عبد العزيز، حتى طغى سؤالٌ واحدٌ على مواقع التواصل الاجتماعي: هل قتله ابن سلمان؟
السمعة السيئة.. صيت ابن سلمان يسبقه
حرصت السعودية منذ نشأتها على تلميع صورتها بين محيطها العربي والإسلامي تحديداً. كانت تتقن أداء دور الشقيقة الكبرى بحنكة ملوكها الأوائل، وتستغل أيّ مناسبةٍ لإظهار الوحدة والتكاتف بين أمرائها، وتحيط تفاصيل خلافاتها وصراعات أجنحتها بسرية تامة. أما التسريبات التي تفشل في حصرها داخل جدران القصور، فعادة ما كانت تسارع إلى نفيها. إنه النهج السائد لدى أسرة "آل سعود" منذ عقود.
في العهد السلماني، المشهد تغير، والصورة التي حرص عليها المؤسسون الأوائل باتت أكثر وضوحاً وبلا "روتوش"، فالمليارات التي استغلت من خلالها عجز دولٍ للسيطرة على سياستها، وأنفقتها لشراء أقلام وأبواق ساسة وصحافيين، لم تعد قادرة اليوم على محو فضائح أصابت سمعتها، نتيجة فشل سياسات أميرها المتهور، بحسب وصف صحف غربية.
الواقع الحالي يظهر حالة الترنح والتخبط التي تعيشها السعودية. والمتتبع لمسار سياستها الخارجية سيلاحظ أنها بدأت تفقد توازنها في الساحتين الإقليمية والدولية، فمنذ تولي ابن سلمان منصب ولي العهد، وإحكام قبضته على مفاصل الدولة، لا تخفت فضيحة عنه حتى تطفو آخرى. أصبح اسم الأمير الشاب، ومعه سمعة بلده، مرادفاً لمصطلحات القتل والتصفية والاغتيال والمؤامرات في الصحف الغربية ولدى المنظمات الحقوقية. تلتصق هذه الصفات بوريث العرش التصاق الجلد باللحم، وترافقه أينما حلَّ، وتسبقه أحياناً لتمهد له الطريق.
الصندوق الأسود.. الأمير ورجل الاستخبارات
فضائح بالجملة، اعتقالات، مصادرة أموال، اتهامات مفبركة، تصفيات للخصوم، قمع واستبداد، سجون تعج بمعتقلي الرأي، كل هذا تجده في عهد ابن سلمان، لتبقى جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في سفارة المملكة في إسطنبول، بطريقتها الوحشية وأبعادها الإقليمية وأصدائها الدولية، أكبر فضيحة عاشتها السعودية في السنوات الماضية، ولكن!
جريمة خاشقجي لم تكن استثنائية. تفاصيل خطة مشابهة وضعت لتصفية ضابط الاستخبارات السعودي السابق سعد الجبري. وبعد محاولاتٍ فاشلة لاستدراجه وإعادته إلى بيت الطاعة السعودي، اتخذ القرار بالتخلص منه لما يحتويه صندوقه الأسود من وقائع وأدلة ووثائق وفيديوهات، تجهض حلم ابن سلمان في الوصول إلى العرش.
عاد الجبري إلى الواجهة. فضائح من العيار الثقيل فجرها خلال ظهوره في برنامج "ستون دقيقة" على قناة "سي بي أس" الأميركية، واصفاً ابن سلمان "بالمضطرب عقلياً"، ومحذراً من تأثيره في الكوكب بأكمله. من حيث الشكل، ما كانت المقابلة لتحدث لولا وجود ضوء أخضر أميركي، وما كان لغريم ابن سلمان أن يفرج عن معلومةٍ واحدة من مخزونه الضخم بلا إيعازٍ من البيت الأبيض. أما من حيث المضمون، فإن أسرار الجبري تأتي في ما تتسع الهوة بين إدارة بايدن وابن سلمان، ويزداد الصراع المستتر بينهما اشتعالاً مع تلاعب ولي العهد بأسعار النفط التي بلغت مستوياتٍ تهدد الاقتصاد الأميركي وتؤثر في تعافيه وتعرقل جدول أعمال بايدن.
الجبري ليس مواطناً سعودياً عادياً. هو الرجل الثاني في وزارة الداخلية، واليد اليمنى لمحمد بن نايف. ولهذا، سيكون لتسريباته تداعيات خطرة على تحقيق حلم ابن سلمان، وتحديداً ما سرّب عن مخططه لقتل عمه الملك عبد الله بخاتمٍ روسي مسموم، فأبناء الأخير لن يتجاوزوا ذلك، وهم في الأساس يشكلون عقبة في طريقه نحو العرش.
الفشل السعودي.. من الطيونة إلى مأرب
تسريبات الجبري التي أعادت وضع ابن سلمان تحت المجهر الدولي، قوبلت بتهكمٍ رسمي سعودي. وكعادته، حاول ولي العهد عبر وسائله الإعلامية وذبابه الإلكتروني التخفيف من وقعها الصادم، وأقدم على خَلقِ أزمةٍ مفتعلة مع لبنان، كان فتيلها مقابلة قديمة مع وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي وصف خلالها حرب السعودية الإماراتية على اليمن بالعبثية. وهكذا، تمكن من تحويل أنظار الرأي العام السعودي والعالمي وإشغاله بقضية أخرى، ليصبح "القرداحي" أصل بلاء السعوديين، وليس فشل سياسات ابن سلمان وحروبه العبثية التي أفرغت خزائن المملكة وأرهقت اقتصادها، وفاقمت أزمتي البطالة والفقر.
ومنذ ذلك الوقت، أقامت الرياض الدنيا ولم تقعدها، وسحبت خلفها عدداً من الدول الخليجية، لتتخذ جميعها إجراءات عقابية بحق بلدٍ بأكمله، بدءاً بسحب السفراء، ولا يمكن التكهن بخواتيمها. في بداية الأزمة، كان المطلب الخليجي إقالة قرداحي، ليتضح لاحقاً، أن المخطط أكبر من ذلك.
الهستيريا السعودية ترافقت مع إمعانٍ في سياسة الاستعلاء والابتزاز للضغط على اللبنانيين وحكومتهم، فالرياض وصلت إلى حائط مسدود، وأحرقت آخر أوراقها في مجزرة الطيونة، وفشلت في إشعال حرب أهلية يريدها الأميركي والإسرائيلي، وقبلها خسرت ما أنفقته من ملياراتٍ لتمويل الحرب على سوريا، وكذلك كان مصير مشاريعها في العراق. أما في عدوانها على اليمن الذي بلغ سنواته السبع من دون تحقيق هدف ٍ يُذكر، فإن المملكة تحاول أن تحفظ ما تبقى من ماء وجهها، قبل أن يُهدرَ في مأرب.