الصفصاف في فلسطين.. حكاية صمود وشهادة
تقع قرية الصفصاف على ارتفاع 750 م عن سطح البحر،ـ وتبعد نحو 9 كيلومترات شماليّ غربيّ صفد، وتتربّع عند الحدود الشرقية لقضاء عكا، وتبلغ مساحة أراضيها 7391 دونماً، منها 355 دونماً أراضٍ خصبة.
تحيط بها أراضي قرى: الجش، ميرون، قديثا وبيت جن. أما عائلات القرية فهي: حمد، زغموت، شريدي، يونس، اليوسف، حوراني، كرديه (القاضي وأبو عيشة)، عبيد، حمزة، الصالح، فرهود، صبحة، زيدان، دغيم، مرعي، حليحل، دعيبس، خليل، جوخ، بلشة و(القادري).
قُدّر عدد سكانها عام 1596 بـ 138 نسمة. أمّا في القرن الـ19 فبلغ 100 نسمة. وفي عام 1922 وصل إلى 521 نسمة. وبلغ في عام 1931 نحو 662 نسمة. وقارب عدد سكانها عام 1945 نحو 910 أشخاص، ووصل في عام 1948 إلى 1056 نسمة.
عام 1931، كان عدد البيوت داخل البلدة 124 بيتاً، وكانت توجد مدرسة ابتدائية للأولاد. وبلغ عدد اللاجئين منها في عام 1998 نحو 6483 نسمة، أغلبيتهم قطنت بعد النكبة في مخيمات لبنان وسوريا.
أشار الرومان إلى القرية باسم "سافسوفا"، وأصبح الاحتلال الصهيوني يطلق على مستعمرة أقامها على تخوم الصفصاف، اسم "سافسوفا"، ولا يزال يستخدم هذا الاسم حتى يومنا هذا.
تعود مُلكية أراضي البلدة إلى سكانها العرب، بحيث لم يسكن أي يهودي أرض الصفصاف إلاّ بعد سقوطها واحتلالها. وحتى يومنا هذا، ما زالت قائمةً فيها 3 بيوت، ومدرسة البلدة، وهي الآن مهجورة.
كانت الصفصاف، في سنة النكبة، مقرَّ قيادة منطقة صفد لجيش الإنقاذ العربي. فالصفصاف، مثلها مثل كثير من القرى التي قاومت حتى الرمق الأخير، أوقعت إصابات وخسائر بالغة في عصابات القتلة الإسرائيليين، فكان نصيبها، بعد أن احتُلَّت يوم 29/10/1948، مجزرةً رهيبة ذهب ضحيتها كثيرٌ من الشهداء أُعدموا رمياً بالرصاص، ثم وُضِعت جثثهم في بئر البلدة، وطُمرت إلى الأبد.
هناك من أبناء البلدة مَن لا يزال يذكر تلك المجزرة، وما سبقها من معارك بطولية في سهول البلدة، وعلى تلالها وروابيها، بمشاركة جيش الانقاذ (سوريين) بقيادة أديب الشيشكلي، والنقيب غسان حديد، ومساعده الملازم جودت أتاسي، والوكيلين محمد بركات وحسن زينة.
بحسب شهادات كبار السن في البلدة، بلغ عدد ضحايا المجزرة من أبناء البلدة 54 شخصاً، منهم 7 من عائلة كاتب هذه السطور (حمد)، بالإضافة إلى 60 من أبناء القرى الذين لجأوا إلى الصفصاف، بعد احتلال تلك القرى من جانب العصابات الصهيونية.
أجمع سكان البلدة على أنّ الصهاينة قاموا باغتصاب ثلاث نساء منهن، وبقيت اثنتان منهن في قيد الحياة، ولجأتا في مخيمات لبنان حتى وقت غير بعيد، غير أنه لم يعد هناك أحياء ممن شهدوا وشهدن المجزرةَ، سوى عدد قليل جداً.
أبو مروان حمد، في شهادة قدّمها إلى الشاعر الصفصافي المرحوم محمود صبحة، قال إنه "كان يوجد في الصفصاف مدرسة ابتدائية في عام 1933، وكان عدد الطلاب في الصف الرابع 24. وكانت المدرسة في دار أبي منير حليحل (أحمد كريم حليحل)، وكان الطالب يجلب رغيفاً أو حطباً كأَجْر".
بعد التخرج، كان الطلاب يذهبون إلى مدرسة صفد. على سبيل المثال، الخجا الكبير أبو قاسم حمد، وقاسم وعلي وإبراهيم حمد، كلهم تعلموا في صفد.
أمّا والدي المرحوم أبو جمال حمد (1927-2018)، والذي شارك في الدفاع عن البلدة، فعزّ عليه بعد الوصول إلى لبنان، عقب سقوط الصفصاف، أن يبيع بندقية العائلة في لحظات العوز والجوع بعد النكبة، فقرر دفنها في بلدة بنت جبيل، وما زالت مدفونة هناك حتى يومنا هذا.
لطالما رجوت والدي أن نذهب ونحضرها، لكنه رفض ذلك، وتوفي نهاية عام 2018 في مخيم عين الحلوة، وبقيت البندقية تحت تراب بنت جبيل.
في بلدة الصفصاف، بعد قرار تقسيم فلسطين الصادر في 29-11-1947، قام أهل البلدة بتشكيل لجنة لإدارة البلدة، والدفاع عنها. وتشكّلت اللجنة من مندوبين عن عائلات البلدة، ومن هؤلاء: قاسم زغموت، علي طه شريدة، إسماعيل حمد، نجيب يونس، وغيرهم من ممثلي العائلات الأخرى. وتركّزت المرحلة الأولى من عمر تلك اللجنة على القيام بشراء السلاح، وبعض التدريبات، وتنظيم الحراسة.
يوم الجمعة، الموافق فيه 29-10-1948، وبعد معركة حامية استمرت ساعات، استطاعت عصابات "الهاغاناه"، وكانت بقيادة الإرهابي مانو بن مردخاي من مستوطني "الجاعونة"، دخولَ الصفصاف. وبعد سقوطها، نهبوا البيوت، والمواشي، ومحاصيل الزراعة، وكل شيء في البلدة.
وجاء في كتاب "تصحيح غلطة"، تأليف بني موريس، وترجمة هارون محاميد وفواز جرار، الآتي: "تحدَّث بعض المسؤولين عما جرى في قرية الصفصاف من أن 52 رجلاً رُبطوا معاً في حبلٍ طويل، وأُنزلوا إلى حفرة سحيقة، ثم شرع جنود "الجيش الإسرائيلي" بإطلاق النار عليهم وهم داخل الحفرة، فصرخت النساء طالبات الرحمة من الجنود اليهود، فقام الجنود باغتصاب ثلاث نساء من بينهن فتاة في الرابعة عشرة من عمرها. كما قتلوا أربع نساء أخريات، ثم قاموا بتقطيع أصابع النساء بالسكاكين لانتزاع الخواتم الذهبية منها".
وفي مذكِّراته، يقول الصهيوني يوسف نحماني، الذي اشتهر في منطقة الجليل باسم يوسف العونطجي، إنّ "الأعمال الوحشية التي ارتكبها جنودنا في قرية الصفصاف كانت في منتهى البشاعة. فمثلاً، بعد أن استولى الجنود على القرية، ورفع سكانها الأعلام البيضاء، قاموا بجمع السكان، وفرقوا بين النساء والرجال، ثم قاموا بتقييد أيدي الرجال بعد أن أوقفوهم في صف واحد، وأطلقوا النار عليهم".
في تموز/يوليو 2019، نشرت المؤرخة الإسرائيلية تمارا نوفيك بحثاً في صحيفة "هآرتس" عن الصفصاف، استندت في معلوماتها إلى أرشيف قادة صهاينة، شاركوا في احتلال الجليل، ووصلت إلى نتيجة مفادها ما قاله كل شهود مجزرة الصفصاف.
*نضال حمد: كاتب فلسطيني مقيم بالنروج، وصاحب موقع الصفصاف الإلكتروني.