الانسحاب الأميركي من أفغانستان: 20 عاماً من "الخسارة" انتهت بـ"فشل استراتيجي"
يُعيد اعتراف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال مارك ميلي، في جلسة استماعٍ سريةٍ أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، بأنَّ "الولايات المتّحدة خسرت الحرب التي استمرّت 20 عاماً في أفغانستان"، ووصفه لهذه الحرب بـ"الفشل الاستراتيجي"، تسليط الضوء على الخسارة العسكرية الأميركية في أطول حربٍ خارجيةٍ تخوضها في تاريخها. كما أنَّه يعكس انقساماتٍ داخليةً عميقةً، يُظهرها تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات بين أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي من جهة، وبين العسكريين والسياسيين داخل إدارة الرئيس جو بايدن من جهة أخرى، بالإضافة إلى تناقضات أخرى ظهرت بين أعضاء حلف شمال الأطلسي في الفترة التي سبقت الانسحاب، والتي عبّروا فيها عن خشيتهم من الانسحاب الأميركي السريع من أفغانستان وتخوّفهم من نتائجه.
اعتراف ميلي
الاعتراف الصريح والواضح أمام الكونغرس لمسؤولٍ عسكري كبير بحجم رئيس هيئة الأركان الأميركية، ولشخصٍ مثل مارك ميلي تحديداً، عرف بصلابته ووقوفه في وجه العديد من الطروحات العسكرية غير المدروسة للرئيس السابق دونالد ترامب، يعطي صفة رسمية موثّقة لما رآه العالم على شاشات التلفزة، وما لا يحتاج إلى مختصّين لتشريحه: 20 عاماً من الاحتلال الأميركي لأفغانستان، عادت بعدها القوات الأميركية إلى بلادها، وحركة "طالبان" إلى الحكم في أفغانستان.
حتى قبل أن يخرج آخر جندي أميركي من البلد المحتل عبر مطار كابول، عادت حركة "طالبان" إلى السلطة، التي غزت الولايات المتحدة أفغانستان لإخراجها منه، بعد أن اتهمتها بتحويل أفغانستان إلى أرض خصبة لـ"التنظيمات الإرهابية" ومنها "القاعدة"، التي تبنّت اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر من العام 2001.
ما يؤكِّد الفشل الأميركي في تحقيق أهداف العدوان اعتراف رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة أنَّ "طالبان كانت ولا تزال منظمة إرهابية، وهي لم تقطع علاقتها بتنظيم القاعدة"، من دون أن يستبعد نجاح التنظيمات المسلَّحة في استعادة قدرتها على تنظيم شن الهجمات من أراضي أفغانستان.
كما أنَّ القوات الأميركية لم تخرج إلا ملطّخة بالدماء ومصحوبة بصناديق خشبية، في دلالةٍ رمزّيةٍ رسّخت الهزيمة في الأذهان، بعد الهجوم الضخم الذي استهدفها في مطار كابول.
أضاف ميلي أيضاً، في محاولة للتخفيف من وقع الخسارة، أنَّ قوات بلاده "أنجزت مهمتها الاستراتيجية لحماية أميركا من تنظيم القاعدة، ولكن من المؤكّد أنّ الوضع النهائي يختلف تماماً عمّا أردناه"، وتابع أنَّ الحرب "لم تنتهِ بالشروط التي أردناها، مع وجود طالبان في السلطة في كابول".
تبادل الاتهامات بين الجمهوريين والديمقراطيين
الانقسام في الشارع بشأن أفغانستان، تجلّى بالتبادل الحاد للاتهامات بين أعضاء الكونغرس من الحزبين، ووصف الانسحاب بأنه "كارثة تاريخية" و"استسلام غير مشروط".
فالأعضاء الجمهوريون ألقوا مسؤولية الانسحاب الفوضوي، "الذي أضرّ بصورة الولايات المتحدة أمام العالم"، على الرئيس جو بايدن وإدارته، وكذلك فعل الرئيسان الجمهوريان السابقان جورج بوش الابن، الذي حدث الغزو في عهده، ودونالد ترامب، سلف بايدن في الحكم، الذي اتهم إدارة بايدن بـ"انعدام الكفاءة".
وقد وصل أعضاء الكونغرس الجمهوريون إلى حدِّ دعوة رئيس هيئة الأركان مارك ميلي، ووزير الدفاع لويد أوستن، ووزير الخارجية أنطوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، وحتى الرئيس بايدن إلى الاستقالة.
في المقابل، يقول الأعضاء الديمقراطيون في الكونغرس إن المسؤولية فيما وصلت إليه الأوضاع في أفغانستان في ظلّ الوجود الأميركي هناك، تقع على عاتق جميع الإدارات الأميركية التي عملت في السنوات الـ 20 الماضية، من دون أن يحمي وقوع ذلك في عهد رئيس من الحزب وقوع انشقاقات في صفوفه، بحسب ما أفاد موقع "أكسيوس"، بسبب عملية الإجلاء من أفغانستان التي تمَّ وصفها من قبل أعضاء ديمقراطيون في مجلسي الشيوخ والكونغرس بأنَّه "أسيء التعامل معها بشكل فاضح".
أما ميلي من جهته فأوضح أنَّ "الولايات المتحدة لم تخسر خلال الـ 20 يوماً الماضية، أو حتى خلال الـ 20 شهراً الماضية"، وأكَّد أنَّ "أسباب الفشل بعيدة في الماضي".
وأضاف أن "الولايات المتحدة اتّخذت سلسلة من القرارات الاستراتيجية الخاطئة، أدّت مجتمعةً إلى فشل العملية العسكرية بأكملها في أفغانستان".
الخلافات بين العسكريين والسياسيين
في جلسة الاستماع ذاتها أمام الكونغرس، حمّل ميلي مسؤولية الفوضى التي حدثت خلال عمليات الإجلاء من مطار كابول لوزارة الخارجية، بحسب ما نقل موقع "أكسيوس".
كما أكد وزير الدفاع لويد أوستن ورئيس القيادة المركزية الجنرال فرانك ماكنزي أنَّ "الانقسامات عميقة بين وزارة الخارجية والبنتاغون". وأوضح أوستن أنه أمر القيادة المركزية الأميركية في أفغانستان بالتحضير لتنفيذ "عملية إجلاء غير المقاتلين قبل أسابيع من إعلان الرئيس جو بايدن، في نيسان/أبريل، أن الولايات المتحدة ستنسحب من أفغانستان، لكنَّ وزارة الخارجية لم تأمر بالبدء في إجلاء المدنيين حتى 14 آب/أغسطس الماضي"، أي قبل يوم واحد من سقوط كابول في يد حركة "طالبان".
من جهة أخرى، أفادت مقتطفاتٌ من كتاب "بيريل" (خطر) للصحافيَّين بوب وودورد وروبرت كوستا، بوجود انقسام داخل إدارة بايدن بخصوص موعد الانسحاب، حيث أنَّ وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، أنطوني بلينكن ولويد أوستن، حاولا في آذار/مارس الماضي، إقناع الرئيس جو بايدن بإطالة أمد الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، لكنَّ بايدن رفض ذلك.
التناقضات بين أعضاء حلف الناتو
الانقسام داخل الإدارة الأميركية جاء بعد اجتماعٍ أجراه وزير الخارجية أنطوني بلينكن، في آذار/مارس الماضي، مع شركاء الولايات المتحدة في غزو أفغانستان من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذين لم يخفوا تحفّظاتهم على الانسحاب الأميركي الكامل.
يرد في كتاب "بيريل" أنَّ بلينكن،الذي كان "متوافقاً مع بايدن على الانسحاب الكامل" من أفغانستان، أصدر بعد هذا الاجتماع توصيةً مغايرةً، إذ اقترح على بايدن "تمديد المهمة بعسكريين أميركيين لفترةٍ معينةٍ، لاستكشاف إذا كان يمكن لذلك أن يعزز فرص التوصّل إلى حلٍّ سياسيٍّ بين الطرفين الأفغانيين المتحاربين"، واتّصل من بروكسل لإبلاغه بأنَّ وزراء خارجية دول حلف "الناتو" يطالبون جميعاً بأن "يكون الانسحاب الأميركي مشروطاً بتحقيق تقدم في عملية السلام".
ويبدو أن الانسحاب الأميركي بالصورة التي تمَّ بها أثّر استراتيجياً على الولايات المتحدة، فمطلع الشهر الحالي قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس، الذي شكّل جيش بلاده القوة الثانية في أفغانستان من حيث العديد، إنَّ الولايات المتحدة لم تعد قوة عظمى.
أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي شاركت بلادها بقوات ضمن الحلف الأطلسي أيضاً، فصرّحت في آب/أغسطس الماضي بأن "التدخل في أفغانستان لم يكن ناجحاً بالمقدار المأمول به".
فيما اعتبر رئيس حزبها أرمين لاشيت أنَّ انسحاب القوات الغربية من أفغانستان هو "أكبر إخفاق للحلف الأطلسي منذ تأسيسه قبل 7 عقود".