محمد الدرة.. نموذج الطفل الفلسطيني في ميدانَي البطولة والتضحية
في فلسطين، يولَد الأطفال من أرحام أمّهاتهم وهم يحملون في وجدانهم قضيةَ تحرير بلادهم من الاحتلال الإسرائيلي. يولَدون بدمٍ يغلي حُبّاً للمقاومة. في فلسطين، للطفولة وجهٌ آخر، وشكلٌ آخر، فهي ممزوجة بالصمود والشجاعة والعنفوان، وأيضاً بالقتل والأَسر والقهر والحرمان، في ظلّ احتلال يسلب الأطفالَ أدنى حقوقهم، ويمارس أبشع الجرائم بحقّهم.
محمّد الدرة: "أيقونة الانتفاضة الثانية"
هكذا كانت طفولة محمد الدرة؛ الطفلِ الذي كان يطمح قبل استشهاده إلى أن يكون قائداً للدفاع عن قضيته، إذ كان "شاهداً على كثير من جرائم الاحتلال"، نقلاً عن لسان أبيه، ليصبح بعد استشهاده "أيقونة الانتفاضة الثانية".
محمد الدّرة؛ اسمٌ خُلِّد في ذاكرة التاريخ وذاكرة الفلسطينيين، بعد أن قتلته قوات الاحتلال، في مثل هذا اليوم، قبل 21 عاماً، في حِضْن أبيه وأمام عينَيْ أمّه، وعلى مرأى من العالم أجمع، في جريمة تمّ توثيقها عبر مشاهد مؤثّرة أظهرت خوفه، وعجز أبيه عن حمايته من وابل الرصاص، ليلفظ بعدها آخر أنفاسه طريحاً على الأرض.
لعلّ قصة استشهاد الدّرة من أكثر القِصَص الّتي عَلِقت في أذهان الأجيال المتعاقبة، والتي تتحدّث عن جرائم الاحتلال بحق الأطفال، لكنّها بالتأكيد ليست الوحيدة. فمنذ بداية انتفاضة الأقصى في أيلول/سبتمبر 2000 حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2020، تمَّ توثيق استشهاد 2100 طفل، أغلبيتهم من قطاع غزة.
الاحتلال يستخدم القوة الـمُميتة في استهدافه الأطفال
تشير التقديرات أيضاً إلى أنّ قوات الاحتلال قتلت 74 طفلاً فلسطينياً، منذ بداية العام الجاري حتى تاريخ 30 آب/أغسطس الماضي، بينهم 61 طفلاً في قطاع غزة، و13 في الضفة الغربية، بحسب الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال - فرع فلسطين.
وتجدر الإِشارة، هنا، إلى أّنّ قوات الاحتلال تستخدم في استهدافها الأطفالَ الفلسطينيِّين القوةَ الـمُميتة، والمتعمّدة، من دون وجود أيّ تهديد مباشِر؛ أي أنّها تستهدف الأجزاء العُلوية من الجسد على نحو ممنهَج، عند إطلاقها النارَ في اتّجاههم، إمّا بقصد القتل، وإمّا من أجل ترك عاهة دائمة.
ويستهدف المستوطنون أيضاً الأطفال الفلسطينيين، بحيث يقومون باختطافهم والاعتداء عليهم في أبشع الصور، كما يقومون بعمليات دهسِهم.
ففي 17 آب/أغسطس الماضي، اختطفت مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين الطفلَ طارق الزبيدي جنوبي جنين، وطارده أفرادها وصدموه بسيارتهم، وربطوه في مقدِّمتها، وعلَّقوه من ذراعيه على شجرة، وضربوه بالعصيّ الخشبية حتى فقد الوعي.
وقام أحد المستوطنين باعتداء وحشي آخرَ، في 2 أيلول/سبتمبر الجاري، بحيث دَهَسَ الطفلَ عبد الرحمن الجعبري (7 أعوام)، بينما كان في طريقه إلى المدرسة في مدينة الخليل.
يواجه الأطفال الفلسطينيون في سجون الاحتلال ظروفاً قاسية
وكما لا يَسْلَم الأطفال الفلسطينيون من القتل، فإنّهم لا يَسْلَمون أيضاً من الاعتقال، بحيث تُشير الأرقام إلى أنّ عدد الأسرى الأطفال في سجون الاحتلال، حتى نهاية حزيران/يونيو الماضي، بلغ 225 طفلاً، بينهم نحو 60 في سجن "عوفر" الإسرائيلي. وهم يتوزَّعون بينه وبين سجنَي "مجدو" و"الدامون"، بالإضافة إلى وجود عدد من الأطفال في مراكز التوقيف والتحقيق، فضلًا عن عدة أطفال من القدس المحتلة، تحتجزهم قوات الاحتلال في مراكز اجتماعية خاصة، لأنّ أعمارهم تقلّ عن 14 عاماً، وذلك بحسب تقارير "هيئة شؤون الأسرى والمحررين".
وبحَسْب "نادي الأسير الفلسطيني"، يُحاكَم عدد من الأطفال، يتراوح بين 500 و700 طفل فلسطيني، في محاكم عسكرية إسرائيلية في كلّ عام.
وعدا عن أنّ قوات الاحتلال تُصدر أحكاماً قاسية وطويلة الأمد بحق الأطفال الفلسطينيين الأسرى في السجون والمعتقلات، فإنّها أيضاً تجعلهم يواجهون ظروف احتجاز قاسية وغيرَ إنسانية، وتفتقر إلى الحدّ الأدنى من المعايير الدولية لحقوق الأطفال وحقوق الأسرى، بحيث يعانون نقصاً في الطعام، وانعدامَ النظافة، والاكتظاظ، والإهمال الطبي، وانعدام الرعاية الصحية، ونقصاً في الملابس، والحرمانَ من زيارة الأهالي. ويعانون أيضاً عدمَ توافُر مرشدين واختصاصيِّين نفسيين. كما يتمّ احتجازُهم مع البالغين، واحتجازُهم مع أطفال جنائيين إسرائيليين، ويعانون الإساءة اللفظية والضربَ والعزل والتحرش الجنسي، والعقوبات الجماعية، وتفشّي الأمراض.
وتنتهج حكومة الاحتلال سياسة التمييز العنصري ضد الأطفال الفلسطينيين، فهي تتعامل مع الأطفال الإسرائيليين، من خلال نظام قضائي خاصّ بالأحداث، تتوافر فيه إعطاء ضمانات خلال المحاكمة. وفي الوقت نفسه، تعتبر أن الطفل الإسرائيلي هو كل شخص لم يتجاوز سن 18 عاماً، في حين تتعامل مع الطفل الفلسطيني على أنه كل شخص لم يتجاوز سن 16 عاماً.
الاحتلال يستغلّ اعتقال الأطفال من أجل استنزاف عائلاتهم
تستغلّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي، أيضاً، اعتقالَ الأطفال الفلسطينيين من أجل استنزاف عائلاتهم، إذ تقوم بفرض غرامات مالية باهظة عليهم، من أجل إخراجهم من السجون الإسرائيلية.
إلى ذلك، حذّرت "اليونيسف"، في تقرير صادر لها في تموز/يوليو الماضي، من أنّها لن تكون قادرة على استئناف عملياتها الهادفة إلى دعم أطفال فلسطين، بسبب نقص حادّ في ميزانيتها، مشيرةً إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي استهدف، خلال معركة "سيف القدس" الأخيرة، 116 روضة أطفال خاصة، وتعرَّضَ 140 مبنى مدرسة عامة لأضرار، بالإضافة إلى تضرّر 41 مدرسة تابعة لـ"لأونروا".
يُمعن الاحتلال الإسرائيلي في استهداف الأطفال، ضارباً بعُرض الحائط كلّ الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وتحديداً اتفاقية حقوق الطفل، التي شددت على ضرورة توفير الحماية للأطفال، وحياتهم، وفُرَصهم في النموّ والتطوّر.
وعلى الرغم من أنّ هذه المواثيق قيَّدَت سلبَ الأطفال حريتَهم، وجعلت منه "الملاذَ الأخير، ولأقصر فترة ممكنة"، فإنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي جعلت قتلَ الأطفال الفلسطينيين واعتقالَهم الملاذَ الأوّل، في ظلّ غياب تامّ للرِّقابة والمحاسَبة الدوليتين.