حروب ما بعد "11 سبتمبر".. مآسي الشعوب في ميزان أرباح الشركات الأميركية
بعد 20 عاماً من حربها المزعومة على "الإرهاب" في أفغانستان، انسحبت الولايات المتحدة أخيراً من الأراضي الأفغانية، متكبّدةً تكلفة بشرية ومادية باهظة. غادرت القوات الأميركية أفغانستان بعد فشلها في تحقيق أي نجاح استراتيجي، تاركةً خلفها عشرات الآلاف من الضحايا الأفغان، لتسدل بذلك الستار على عقدين من الاحتلال.
غيّر الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 وجه التاريخ، بحيث قامت الولايات المتحدة بعده بشنّ "حربها ضد الإرهاب" التي استمرت سنواتٍ طويلةً. حروب متعدِّدة خاضتها أميركا تحت ذريعة هذا الشعار، وتحمّل الاقتصاد الأميركي الذي مرّ في فترات عصيبة تكلفتها بسبب الإنفاق الكبير والاستدانة الأكبر، إذا ما أضيفت إليها الفوائد.
في هذا الصدد، تساءل السيناتور الأميركي الراحل جون ماكين، عام 2017، قائلاً: "بعد 16 عاماً، هل دافعو الضرائب في أميركا راضون على المأزق الذي نحن فيه؟ لا أظن ذلك". كان تصريح ماكين يحمل رسالة واضحة إلى ما تحمّله الأميركيون من نفقات خيالية لتمويل حروب بلادهم في الخارج، ضد ما أحداث هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.
بلغت فاتورة 20 عاماً من الحروب التي خاضتها أميركا نحو 8 تريليونات دولار أميركي، وفقاً لتقرير "تكلفة الميزانية الأميركية لحروب ما بعد 11 أيلول/سبتمبر"، الصادر عن معهد "واتسون" للشؤون الدولية والعامة. وقدّر الباحثون في جامعة "براون" أنّ الولايات المتحدة أنفقت 5.8 تريليونات دولار على الحرب في أفغانستان وحروب أخرى، أعقبت أحداث 11 أيلول/سبتمبر.
ويشمل هذا المبلغ الإنفاق المباشِر وغير المباشر على كل شيء، من المعدات العسكرية، إلى الأمن الداخلي، إلى مكافآت تعويض عائلات القتلى من أفراد الخدمة الأميركية. كما يُظهر البحث أنّ من المرجَّح أن تتجاوز الرعاية الطبية في المستقبل، وضمنها مدفوعات العجز للمحاربين القدامى على مدى العقود المقبلة، 2.2 تريليون دولار من الإنفاق الفيدرالي.
لكن، بالرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بالجانب الأميركي، فإن أطرافاً مستفيدة برزت من جميع تلك الحروب. شركات السلاح و"تجار حروب"، كانوا أكبر المستفيدين من أحداث 11 أيلول/سبتمبر وما تلاها، بحيث حققوا أرباحاً قياسية على حساب قتل شعوبٍ أخرى وتجويعها.
شركات السلاح الأميركية.. الرابح الأكبر
ولّت الأيام التي كان يتم فيها إنفاق معظم ميزانية الدفاع الخاصة بالدولة بصورة مباشرة على الجنود خلال الحروب. منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أصبحت الحرب "حديثة"، أي أنها تُخاض باستخدام أسلحة باهظة الثمن تمّ شراؤها من شركات الأسلحة ذات الربح العالي، والتابعة للقطاع الخاص.
هذه الغزوات التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على مدى السنوات الأخيرة، شكلّت انتصاراً كبيراً لقطاع عملاق واحد يزدهر على حساب الإخفاقات التكتيكية: المجمع الصناعي العسكري. لقد أنعشت حروب المنطقة نشاط شركات السلاح في أميركا، بحيث كانت تلك الشركات تسابق الزمن لتلبية الطلب المتزايد على الصواريخ الدقيقة وغيرها من الأسلحة المستخدَمة في العمليات العسكرية، التي كانت تنفّذها واشنطن في الشرق الأوسط.
هل كانت الحرب على أفغانستان إذاً خاسرة؟ ربما كانت كذلك بالنسبة إلى دافع الضرائب الأميركي و"اقتصاد الدولة" الأميركي بصورة عامة، لكن ليس بالنسبة إلى شركات الصناعات العسكرية والأسلحة في الولايات المتحدة. مثل كثير من الحروب والمآسي البشرية، كان الغزو الأميركي نبأً ساراً لتلك الشركات. فعلى مدى الأعوام العشرين الماضية، نجحت في تحقيق إيرادات ضخمة بلغت 7.35 تريليونات دولار، وفقاً لقاعدة بيانات "Defense News".
اللافت أنّ الأغلبية العظمى من تلك الأرباح جاءت من وزارة الدفاع الأميركية ("البنتاغون"). فالميزانية الدفاعية للولايات المتحدة تذهب، في معظمها، إلى خزائن المجمع العسكري، وإلى شركات، مثل لوكهيد مارتن، وبوينغ، ورايثيون، وجنرال دايناميكس، بحيث يذهب نحو نصف ميزانية "البنتاغون" إلى متعاقدين من القطاع الخاص، وفق ما نشرته مجلة "فوربس".
ونجحت الشركات الأميركية، في السنوات الأخيرة، في الهيمنة على سوق السلاح حول العالم، بحيث بلغت قيمة مبيعات أكبر 100 شركة لتصنيع الأسلحة في العالم 420 مليار دولار عام 2019، معظمها في السوق الأميركية، وفق تقرير صادر عن "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام". وبلغت حصة المصنِّعين الأميركيين 59 في المئة من السوق، أي 246 مليار دولار من المبيعات.
وتحتلّ شركات أميركية المراكز الخمسة الأولى في العالم لناحية مبيعات السلاح، بحيث حققت شركة "بوينغ" الأميركية مبيعات عسكرية بقيمة 1،222،311 مليار دولار من عام 2005 حتى عام 2020، في حين نجحت "رايثون "في تحقيق 847،867 مليار دولار. أمّا أرقام مبيعات "لوكهيد مارتن" فبلغت 745،348 مليار دولار، وهي فترة الذروة في الحروب الأميركية.
عمالقة التكنولوجيا يكسبون من "الحرب على الإرهاب"
لم تكن شركات الصناعات العسكرية المستفيدةَ الوحيدة من الحروب الأميركية، بحيث نجحت شركات تكنولوجيا المعلومات في تحقيق المليارات من خلال عقود أبرمتها مع الجيش الأميركي، ووكالات حكومية أخرى.
ووفقاً لتقرير "شركات التكنولوجيا الكبرى تبيع الحرب"، الذي نشرته يوم الخميس الفائت شركات وسيطة بين الإدارة الأميركية وشركات تكنولوجيا معلومات عالمية، أبرمت الحكومات الأميركية عدداً هائلاً من العقود مع شركات "أمازون" و"فيسبوك" و"غوغل" و "مايكروسوفت" و "تويتر"، منذ عام 2004.
التقرير، الذي استقى بياناته من "تيك إنكوايري"، وهي منصة عبر الإنترنت، تتيح للمستخدمين الاطّلاع على عقود الحكومة الأميركية، كشف أنّ عقود شركات التكنولوجيا كانت "بصورة أساسية مع وكالات محورية مع الحرب على الإرهاب". وأوضح التقرير أنه "منذ عام 2004 حتى الآن، شهدت شركات التكنولوجيا الكبرى ارتفاعاً ضخماً في الطلب الفيدرالي على خدماتها، وخصوصاً من وزارة الدفاع الأميركية ("البنتاغون") ووزارة الأمن الداخلي".
وقدّمت هذه الشركات خدمات الحوسبة السحابية وبرامج تحديد المواقع (جي بي أس)، التي ارتفع الطلب عليها من جانب الجيش الأميركي ووكالات الاستخبارات منذ عام 2001، مع نمو قطاع الدفاع وتحوّله، بصورة متزايدة، إلى الرقمنة.
وأنفقت وزارة الدفاع الأميركية وحدها نحو 43,9 مليار دولار على عقود شركات التكنولوجيا الكبرى منذ عام 2004، وفق التقرير الصادر، نتيجة تعاون بين "أكشن سنتر أون ريس آند ذي إيكونومي" (مركز العمل بشأن الأعراق والاقتصاد) والمجموعات المدافعة عن العدالة الاجتماعية، مثل "ليتل سيس" و"أم باور تشينج".
ولفت التقرير إلى أنّ 4 من الوكالات الـ5 الأكثر إنفاقاً على العقود مع شركات التكنولوجيا الكبرى كانت "محورية بالنسبة إلى السياسة الخارجية، أو تأسست كنتيجة مباشرة للحرب على الإرهاب". وأكد التقرير أيضاً أنّ "أمازون ومايكروسوفت، على وجه الخصوص، حلّتا في الطليعة في السنوات الأخيرة"، إذ وقّعت أمازون في عام 2019 عدداً أكبر بنحو 5 مرّات، ومايكروسوفت بـ8 مرّات، من عدد العقود وعقود الباطن الفيدرالية التي وقّعتاها عام 2015.
هكذا، تبرز التكلفة الباهظة لحروب واشنطن، التي أثقلت كاهل الاقتصاد الأميركي على مدى سنوات طويلة. لكنها، في المقابل، ملأت جيوب تجار الأسلحة وقادة عالم التكنولوجيا في الولايات المتحدة، والذين هم بدورهم يرتبطون بالسياسيين الأميركيين، الذين شرّعوا تلك الحروب وروّجوها، بحيث إنّ مجالس إدارة شركات الأسلحة الخمس الكبرى تضمّ ضباطاً عسكريين رفيعي المستوى متقاعدين.
الحروب إذاً لم تعد قائمة على نزاعات عسكرية وسياسية فقط، بل تحوّلت، كما يظهر في الحالة الأميركية، إلى "تجارة" يستغلّها رجال الأعمال والشركات التجارية، لمراكمة ثرواتهم، عبر سفك الدماء وإشاعة الفوضى.