كارتيلات التجّار وطوابير الناس.. من يحمي المحتكرين في لبنان؟

يقف المواطن اللبناني يومياً أمام طوابير لا تنتهي، خلف الخبز والبنزين والغاز والمازوت وحتى الدواء. طوابير كأنها إلى الأبد. كل ذلك رهن كارتيلات تتحكم باقتصاد البلاد، لكن ماذا عن المواطن الذي حوّلته الأزمة إلى محتكر صغير أيضاً؟
  • الاحتكار في ظل الأزمة التي يعاني منها لبنان.

إذا كنت مواطناً لبنانياً أو مقيماً في لبنان، فأنت حين تستيقظ ستشعر بدرجة الحرارة العالية التي تتجاوز في صيف هذا البلد الـ30 درجة مئوية، ما يعني بالضرورة أنك بحاجة إلى جهاز تبريد، لكن الكهرباء مقطوعة.

بعد أن تغسل وجهك على عجل لأن المياه مقطوعة، قد تذهب إلى البراد الفارغ بطبيعة الحال، لأنك إن وضعت فيه شيئاً فهو عرضة لأن يفسد لكثرة انقطاع التيار الكهربائي، عدا عن أسعار المواد الغذائية باهظة الثمن، إذ قد تُفضّل أوجاع المعدة صباحاً على دفع مبلغ وقدره، وربما ترى أن وجبة واحدة قادرة على سدّ حاجتك الأساسية من الطعام. إن اتخذت قراراً جريئاً بالخروج من المنزل، عليك أن تراجعه جيداً، هذا ليس خياراً متاحاً إن لم يكن ضرورياً حقاً، لأنك ستقف في طوابير طويلة، ولا يزال يدخل كل يوم شيء من حاجياتك الحياتية إلى سوق هذه الطوابير.

بدأ الأمر بضائقة اقتصادية، ثم بأزمة، فتدهور سريع. اليوم أصبح لبنان في عمق الانهيار الذي صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850. هذا "الهبوط" الذي يعد جديداً على جيل الثمانينيات والتسعينيات، شكّل انهارياً مدوّياً في المنظومات الاقتصادية والمالية الاجتماعية، والنفسية بطبيعة الحال. مشاهد جديدة على السكّان في لبنان، احتكار لمواد الحياة الأولية، طوابير في كل مكان، شيء ما يحدث في البلاد.

يعاني لبنان من انهيار يطال جميع مفاصل الحياة، لم ينجُ أيّ قطاع من انهيار العملة أمام سعر صرف الدولار، ومن الغلاء الفاحش في المواد الأولية والغذائية والطبية. تضاعفت أسعار الأشياء، كل الأشياء، 5 أضعاف على أقل تقدير. لم يعد خياراً متاحاً أن تمرض في لبنان، وإن فعلت، عليك أن تفكر مرة قبل أن تذهب إلى طبيب، ومرّات قبل أن تشتري دواءً، إن وجدته أصلاً.

أفرزت الأزمة التي يعاني منها لبنان سوق احتكار عريض كان متوقعاً في ظل نظام رأسمالي تسيطر فيه الكارتيلات على غالبية القطاعات في البلاد. سيطرت كارتيلات المشتقات النفطية العلنية اليوم على خناق اللبنانيين وجيوبهم، أدت هذه المرة إلى أن يطفو الاحتكار وأسماء المحتكرين على سطح الأزمة نظراً لتماس هذا القطاع، إلى جانب الاستشفاء والدواء والقمح، مع حياة المواطن اليومية.

هل يشرّع القانون اللبناني الاحتكار؟

شرّع القانون اللبناني الوكالات الحصرية التي أنهتها دول كثيرة تعتمد "النظام الاقتصادي الحر"، وهو النظام المعتمد في لبنان، وأتاحت مجالاً للمنافسة ضمن قوانين فشل لبنان حتى الآن بإصدارها بسبب "الضغوط السياسية" منذ العام 2002. يعود ملف الوكالات الحصرية في لبنان إلى عام 1967، حين صدر مرسوم اشتراعي ينص على حماية الوكالات الحصرية في المادة الأولى، ويعتبر أن "الممثل التجاري" هو "التاجر الذي يقوم لحسابه الخاص ببيع ما يشتريه بناء لعقد يتضمن إعطائه صفة الممثل أو الموزع الوحيد بوجه الحصر".

ولا يُخفى على أحد في لبنان أن كارتيلات المحروقات والغاز والأدوية يصعب على أيّ طرف مواجهتها، بالنظر إلى أنها تتحكم بالسوق وبأسعاره وتمنع المنافسة فيه، وهو الحال الذي تنسحب عليه قضية عدم إقرار قانون المنافسة المرتبط بضغوط تمارسها بعض الكارتيلات في عدة قطاعات على السياسيين اللبنانيين.

وعليه، تحتكر مئات المؤسسات استيراد وتوزيع آلاف السلع، بينها 2335 سلعة وثقتها عقود الوكالات الحصرية بين العامين 2005 و2018، بحسب ما تظهر بيانات وزارة الاقتصاد والتجارة، وتعطي فيها الشركات الأجنبية حق "التوزيع الحصري" لشركات لبنانية لمدة محددة قابلة للتجديد برضى الطرفين. وتتدرج السلع من المشتقات النفطية والغاز ومواد البناء والأدوية والآليات والسيارات وقطع غيارها والأدوات الكهربائية، إلى العطورات والمنتجات الغذائية والمواد البلاستيكية والزراعية والمنتجات البتروكيميائية والتقنيات الصناعية والزراعية، ما يشرّع للكارتيلات ويعطيها "سبباً" قانونياً لتضييق الخناق على المواطنين كلّما سمحت لها أسعار السوق، والفرصة.

عام 2004، أقرّ قانون إلغاء الحماية عن الوكالات الحصرية في مجلس النواب اللبناني في كانون الثاني/ يناير، على أن يصبح سارياً بعد 4 سنوات من تاريخ إقراره. وأودع البرلمان اللبناني أيضاً مشروع قانون عام 2007 يهدف الى تنظيم المنافسة، لكنه لم يُقرّ حتى الآن. عام 2007، قدّر البنك الدولي الريع الناتج من الاحتكارات في لبنان بأكثر من 16% من الناتج المحلي، وهو أكثر من مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلّي. ويخضع نصف السوق المحلي للشركات الاحتكارية ويهيمن ثلثها على 40% من الحصة السوقية.

يقوم الاقتصاد اللبناني على مجموعة كارتيلات تحتكر تصريف السلع اللبنانية، وفي ظل الاقتصاد المتدهور اليوم وعدم وجود نص قانون واضح وصريح يوقف عمل الكارتيلات أو يحدد أعمالها بما يتناسب مع مصالح الناس لا مع مصالحها، تتحكم هذه الشركات برقاب العباد، وتتحكهم بمزاجهم العام، بطريقتهم في العيش، وتتحكم يذائقتهم حتى. 

المواطن أيضاً "محتكر"

مراقبة المشاهد اليومية التي يعيشها اللبناني، تكشف حقائق مختلفة مختبئة خلف المشهد العام. اقتصاد لبنان مرهون بأيدي كارتيلات تتحكم باقتصاد البلاد، ويفرض احتكارها ارتفاعاً باهظاً بأسعار سلع أساسية لا بديل عنها، حسناً، لكن ماذا عن المواطن الذي حوّلته الأزمة إلى محتكر صغير يضر البيئة المحيطة فيه ضرراً لا يقل عن ضرر الشركات المحتكرة؟

منذ أيام يقوم الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بمداهمة مستودعات ومخازن يخبئ أصحابها كميات كبيرة من مادة المازوت والبنزين. الكميات تراوحت بين "غالونات"، وبين محطات كبيرة تحتكر المشتقات النفطية بانتظار رفع أسعارها لاحقاً بعد رفع الدعم بشكل كلي. وصل الأمر ببعض المحتكرين إلى احتكار كميات خيالية تصل إلى مليوني ليتر من مادة المازوت، ومليون ونصف المليون من مادة البنزين، هذه الأرقام هي الأعلى حتى الساعة منذ بدأ الجيش حملة مداهمة لمكافحة الاحتكار. الأمر الذي عبّر عنه مواطنون على مواقع التواصل بأن من يخبّئ هذه المادة لم يعد مجرّد محتكر، بل أصبح مشاركاً في الحصار على الشعب.

وزير الصحة اللبناني، حمد حسن، داهم قبل أيام مستودعات مليئة بالأدوية المفقودة من السوق اللبناني لكنها موجودة بكثرة على الرفوف لدى هذه المستودعات بانتظار بيعها بأسعار مرتفعة في السوق السوداء. من بين الأدوية التي وجدت أدوية لمرض السرطان، وأدوية لداء السكري المزمن وأخرى للصرع. من يستطيع أن يتخيل أن هناك قدرة لدى محتكر على خفاء دواء لمريض يعاني من نوبة صرع تجعله يصرخ لوقت طويل ويفقد وعيه تماماً لكي يجني مزيداً من الأرباح؟ ينسحب الأمر نفسه على محتكر مادة البنزين الذي يقطع أرزاق الناس وأرحامهم. يعرف المحتكر جيداً أن تخزين هذه المادة قد تعني أن طفلاً صغيراً يعاني من مرض معين لا يستطيع الوصول إلى الطبيب أو المستشفى وقد يفقد حياته ببساطة. المشهد ليس سوريالياً، هذا يحصل كل يوم في لبنان.

"الاحتكار" جنحة في القانون اللبناني 

يعتبر القانون اللبناني أن الاحتكار جنحة، لا جناية. وهي من أخفّ الجرائم عقوبة. فالعقوبة لا تجيز التوقيف الاحتياطي إذا أراد القاضي تطبيق النص على حرفيته إذا كانت العقوبة لا تتجاوز السجن لسنة واحدة.

في المادة 685 من قانون العقوبات، تنطبق على المحتكر عندما يكون قادراً على التأثير في سعر السوق عبر ضبط البضاعة للتلاعب بالعرض والطلب. هذه المادة تتراوح العقوبة فيها بالحبس من 6 أشهر إلى سنتين وبغرامة مالية. وقد حددت المادة 43 من المرسوم الاشتراعي رقم 37/38 عقوبة جرائم الاحتكار بالغرامة من عشرة ملايين إلى مئة مليون ليرة، وبالسجن من 10 أيام إلى ثلاثة أشهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وعند التكرار تضاعف العقوبة.

بانتظار أن يعيد لبنان بشقه السياسي النظر في مواد القانون التي لا تعتبر الاحتكار إلا مجرّد جنحة، يبدو أننا سنشهد تغيرات في المجتمع اللبناني نفسه بعدما ساهمت الأزمة في تعميق البون بين الطبقات الاجتماعية، فزاد الفقير فقراً والغني ثراءً.

أخلاقياً، لا ضابطة على ما يحصل اليوم في المجتمع اللبناني. كُثر يريدون الفوز أولاً بـ"غالون" مازوت لحفظه "لأيام القحط والجوع". وكثر أيضاً من يريدون الاحتفاظ بالدواء لبيعه بسعر أعلى في السوق السوداء، ولو على حساب أن يودي ذلك بحياة أحدهم. ستكشف الأيام المقبلة كيف ستؤثر هذه الأزمة على الأفراد والمجتمعات، ولنا في هذا بحث آخر، لكن المؤكّد أن من يحتكر البضائع ويمنعها عن الناس يشارك في صناعة همومهم، ويشارك بالتالي في صنع المأساة التي يعيشها اللبنانيون على مداخل الطوابير كل يوم. 

المصدر: الميادين نت