سفن المحروقات المُبحرة إلى لبنان.. ثُقب في جدار الحصار
القصة ليست جديدة. فمنذ التطلّعات الأولى للحرب العالمية، وكل ما أتى بعدها حتى يومنا هذا، يوضح كيف أن دول الاستعمار تُحارب كلّ من يعاديها، إمّا بالحديد وبالنار، وإمّا بالعقوبات وبالحصار، ولا منفذ إلاّ بين خِيارين: المقاومة أو المساومة.
حلفاء "كسر الحصار" في مواجهة حلفاء الهيمنة
في إبان الحرب العالمية الثانية، كانت دول "الحلفاء" تظهر على أنها مُسخّرة في خدمة الإنسانية في وجه طغيان النازية. وما أكثر الأقنعة التي ارتدتها، إلى أن لم يعد هناك قناع في مقاس جرائمها. فنمت من جذور هذا التحالف، دولة غزو وهيمنة، لم تدع بلداً أو شأناً لم تضع فيه نفوذها، إمّا عبر جنودها، وإمّا عبر المتعاونين معها. بالنسبة إليها، نهب ثروات الشعوب بات قديماً وجزءاً من "السياسة الخارجية"، وبات جُرماً يسقط بالتقادم، إن قُدِّمت "الاعتذارات" في كتاب هنا، أو بيان هناك، في حين أن السارق يُعيد بيعَك ثمارَ ثروتك!
دولة هي أميركا، إذ إن آخر ما باتت تضغط من خلاله على من يقاوم سياساتها، هو التنقيب المشروط عن النفط في بلدان الثروات. والشرط هو الخضوع. كان هذا بالأمس، لكن اليوم نرى حلفاءَ جدداً يكسرون هيمنة إدارة البيت الأبيض وحلفائها.
ثُغرة أولى في حائط أميركا
خلاصة ما آلت إليه الأمور، هيمنةُ الولايات المتحدة على شعوب العالم بصورة عامة، وغربي آسيا بصورة خاصة. ويمكن الحديث اليوم تحديداً عن لبنان؛ البلد الذي يعاني أزمة اقتصادية خانقة. لكنّ كل هذا التضييق استدعى تحركاً، بعد أن بات الأمر، حتى في داخل البلاد، شائكاً.
هذا البلد الصغير، لبنان، تجاوز مؤخراً ركون عدد من القوى السياسية فيه إلى "بيت الطاعة"، فكانت سفن المحروقات، من إيران إلى لبنان، الثُّغرةَ الأولى التي أعلنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، والمُنذرةَ لجدار الحصار الأميركي بالحطام.
لماذا هذه الخطوة اليوم؟ يتحدَّث المحلل السياسي والمتخصص بالعلاقات الدولية والدراسات الأميركية، حميد رضا غلام زاده، في حديث إلى الميادين نت، عن بعض آثار هذه الخطوة، وما تحمله من رسائل، وتغيير مقبل.
التوقيت
يقول غلام زاده، بشأن التوقيت، إنه "على الرغم من أن حزب الله أكّد طرحه أمام الدولة والشعب اللبنانيَّين، أكثر من مرة، فإنّ ما جرى في هذه المرحلة، في أرضية السياسة اللبنانية، من محاولات لإلصاق التُّهم بالحزب، والتناحرات السياسية بين الأحزاب، وتعويل بعضها على دول الخارج، والتي هي أساساً تفرض العقوبات، وتُعتبر جزءاً من هذا الحصار، بالإضافة إلى الادّعاءات الأخيرة للسفيرة الأميركية لدى لبنان، والتي قالت فيها إنها تستطيع جلب المحروقات إلى لبنان، كلها أسباب جعلت توقيت إبحار السفن ملائماً. فظهر للجميع أن كل السُّبُل الأخرى مسدودة، وأن هذا الطرح هو الوحيد المبنيّ على التعاون والصداقة، وأن إيران هي الدولة التي يمكن الاتكاء والاتكال عليها في هذا الإطار".
التهديدات ومعادلات الردع
أمّا عن التهديدات التي قد تكون مُحْدِقة بمسار السفينة المبحرة من إيران إلى لبنان، فيقول غلام زاده "من الطبيعي أن يكون عنصر التهديد موجوداً. في السابق حدثت ردود، سواء على السفن الإيرانية المُبحِرة، أو على السفن الصهيونية، والتي تحمل تجهيزات صهيونية، لكن كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، واعتباره السفينة "أرضًا لبنانية"، يحملان معادلة ردع، ومانعاً في وجه أيّ استهداف. فمن جهة، يعرف الصهاينة أن كلامه ليس جزافاً، بل واقعي وعملي، ومن جهة إيران أيضاً، فإن أيّ استهداف سيُواجَه بردّ جدّي، ومن جهة أخرى، يعلم العالم بأن هذه السفن تحمل حاجات اللبنانيين من محروقات. لذلك، فإن أي استهداف لها هو بمثابة استهداف لحاجات اللبنانيين. وبذلك، تخسر أميركا حُججها، التي تدّعي فيها مساعدة اللبنانيين أيضاً. ولو كانت هناك محاولات اعتداء أو عرقلة للسفن، فستكون في المراحل اللاحقة".
مسار الحصار: "لا لون فوق الأسود"
يَرجع غلام زاده إلى مثل شعبي فارسيّ قديم، ليشرح من خلاله مسار تجربة، بدأت من فنزويلا وسوريا، وتتجه إلى لبنان، فيقول "بالاتر از سياهى رنگى نيست"، أي "لا يوجد لون فوق الأسود، أعني بذلك أنه لن تسوء الأوضاع أكثر من ذلك"، وفق تأكيده.
وعن سياسات العقوبات والضغط، يرى غلام زاده أن "حكومة ترامب، التي كانت تسعى للحرب، وتسعى للعنف بصورة علنيّة، ولم تُراعِ الأصول الديمقراطية والدبلوماسية، وسعت لوضع الضغوط، وصرّحت جهاراً عن مسعاها لوضع العقوبات على إيران، واستمرت في حملة الضغوط القصوى عدة سنوات، لم تستطع فعل شيء على الرغم من حجم الضغط الهائل على إيران، وأذعنت نتيجة الموقف الإيراني. كذلك، من المتوقع من حكومة بايدن أن تستمر في الحملة ذاتها، فلم يَعُدْ لدى إدارته مجالٌ أصلاً للتصعيد. وعملياً، باتت كل الضغوط التي توالت بلا أثر ومتداعية. لذلك، ليس هناك قلق من هذا الجانب، بل على العكس، فإن الأرضية باتت تتشكّل وتُتاح لإيران من أجل التعاون، وإبطال مفعول العقوبات، بصورة نهائية".
السفينة: تعاون بلدين
في موضوع السفينة المُحمَّلة بالمحروقات، والمُرسَلة إلى لبنان، يشرح غلام زاده جدوى الخطوة، على صعيد البلدين، فيقول: "هي عبارة عن شراء محروقات من إيران. وعملياً، هي لا تُشكّل ضغطاً إقتصادياً على إيران، بل على العكس. هي خطوة مساعدة لاقتصاد إيران. وفي الواقع، هذا ما يشير إلى أن ما بين البلدين جبهة متحدة، تواجه التحديات ذاتها، يسعى فيها كِلا البلدين لحلّ مشاكله. فمن جهة، على إيران عقوبات أميركية في موضوع بيع المشتقات النفطية، ومن جهة، فإن لبنان في حاجة إلى المحروقات، فتأتي هذه الخطوة لتعزيز التعاون بين البلدين، على عكس ما يُحاول بثّه الإعلام المعارض، سواء الخارجي أو الداخلي، من دسائس حيال هذا الموضوع".
سياسات مواجَهة الهيمنة
يدعّم غلام زاده كلامه باستنتاج بشأن سياسة خارجية ومنهج بين الدول التي تواجه الحصار والعقوبات، يُرجّح لهما الاستمرارية وخلق نظام يواجه الهيمنة. فيعتبر أن "إيران الآن في خضم إجراء سياسة جديدة مختصة بموضوع العقوبات، تجمع فيها الدول المفروض عليها عقوبات (فنزويلا، سوريا، لبنان)؛ أي أن هذه الدول الحليفة مُعاقَبة، وبالتالي لن ترتفع وتيرة العقوبات عليها أكثر من ذلك. لذا، على هذه الدول التعاون فيما بينها".
ويعلّل هذا الطرح بالقول إن "هذه الدول تقوم بفعاليات مواجهة. والمسألة المهمة تتلخص في أن ما استفاد منه الأميركيون من هذه العقوبات هو مسألة الدولار. لكن، عندما تسعى هذه الدول للتعاون الاقتصادي فيما بينها، من أجل دفع الضغوطات عنها، فإنها تستطيع بطريقة محددة إيجاد نظام معين يتخلّص من أثر العقوبات في زمن قصير. وبهذا، تتداعى هذه العقوبات".
نادي الدول تحت العقوبات: مشروع إزالة الهيمنة؟
يختم غلام زاده كلامه مُشرعاً الأفق أمام مقاومة اقتصادية جدّية، تواجه حصار أميركا وعقوباتها، من خلال منهج جديد، تُطلقه إيران، ويُدعى "نادي الدول تحت العقوبات"، يعتبره خلاصة تجارب إيران مع فنزويلا وسوريا، وبداية تجارب أخرى قد تبدأ في لبنان، لكن لا تحدّها جغرافيا، مثل "التوجه شرقًا"، ولاسيّما أن هناك، بحسب تعبيره، كثيراً من الدول تحت العقوبات، مثل روسيا، كوريا الشمالية، الصين، تركيا (في بعض الموارد)، كوبا ودول أخرى. ويمثّل هذا المشروع عزوفاً عن عبور دول الغرب، وعن التعلق بالاتفاق النووي، ويسعى للانطلاق إلى ما هو أبعد، ويشكّل مسيرة إنهاء لحقبة الهيمنة الأميركية، فيعتبرها فرصةً جيدة في التعاون مع إيران، وفرصةً أيضاً للدول الراغبة في النهوض من سطوة الهيمنة.
في الخلاصة، السفن آتية، محمّلةً بالمحروقات، وربما مشاريع جديدة، والأفق مفتوح والعالم يترقب. هل يكون أسطول بداية نهاية الهيمنة؟