جورج حاوي وشهادته على الاحتلال الإسرائيلي للبنان ودور المقاومة
وردت شهادات مهمة للأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني السابق، الراحل جورج حاوي، في مقابلات حصرية للميادين عُرضت في السلسلة الوثائقية "سياج العنكبوت"، حول الأحداث في جنوب لبنان بعد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ثم الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، وصولاً إلى حرب تموز في العام 2006.
للتذكير، "سياج العنكبوت" هو سلسلة وثائقية من 3 أجزاء، عرضتها قناة الميادين في ذكرى حرب تموز، تلقي الضوء في جزأيها الأول والثاني على الأحداث داخل الحدود اللبنانية، ليأخذنا الجزء الثالث إلى تآكل قوة الردع الإسرائيلية وانقلاب المعادلة، من "الخوف" اللبناني من القوة الإسرائيلية إلى القلق الإسرائيلي من اجتياح الجليل.
تؤرخ هذه السلسلة لمسار المواجهة اللبنانية الإسرائيلية على مدى 7 عقود منذ نكبة فلسطين في العام 1948 إلى ما بعد حرب تموز 2006. وتحضر في هذه السلسلة وقائع وأحداث لم تكن بمتناول الجمهور اللبناني والعربي، إذ تغوص في الوثائق والصور واللقاءات مع من عايشوا مراحل الصراع على الحدود من قيادات ومواطنين.
تحدّث جورج حاوي في تصريحاته عن الانقسام اللبناني ضد الوجود الفلسطيني المقاوم في الأراضي اللبنانية، الذي حال دون مواجهة الجيش اللبناني للإسرائيليين، لكونه أيضاً جزءاً من الخلل الطائفي اللبناني. وفي الوقت نفسه، خَلق التشابك الفلسطيني اللبناني في إطار المخيمات حالة من النهوض الشعبي اللبناني، وحالة من الانضمام اللبناني إلى القوات المسلّحة الفلسطينية.
في العام 1968، أنجز الحزب الشيوعي المؤتمر الثاني التاريخي الذي أعاد تصويب الرؤية للقضية الفلسطينية، وفق حاوي. وفي هذا الصدد، زار الحزب الأردن في العام 1969، وقام بمفاوضات مع قادة الفصائل الفلسطينية آنذاك، مثل ياسر عرفات وآخرين. أوضح حاوي أنه كان هناك خلاف بين الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، وأزمة متفاقمة في العلاقات الفلسطينية الأردنية، وقلق بشأن إمكان فتح معركة ضد الوجود الفلسطيني المبكر في لبنان.
في العام 1969، أقام الحزب الشيوعي ما سمّي بـ"الحرس الشعبي"، وكانت مهمته الدفاع عن لبنان ضد الاعتداءات الإسرائيلية، وفق حاوي، وشعار هذه القوة هو تحصين الجنوب من الخنادق والملاجئ، وتدريب الشباب اللبنانيين ليتمكنوا من الدفاع عن أرضهم. وبالتوازي، تم إنشاء معسكرات في الجنوب اللبناني، وكانت عمليات التدريب تتم بشكل مشترك مع الفصائل الفلسطينية.
حلّ العام 1970 حاملاً معه فرض سيطرةٍ إسرائيلية على خط الحدود وتوغّلاتٍ داخل القرى، ومنع السكان من استثمار أرضهم. حاوي أشار إلى أن هدف الحرس الشعبي كان عسكرياً في المرحلة الأولى أولاً، وأنه كان أيضاً اجتماعياً، فقد أقام في عدد واسع من القرى ملاجئ ومستوصفات ومخيمات كشفية، تهدف إلى المساعدة على تأمين الصمود بأشكال مختلفة.
في شباط/فبراير 1972، وصلت القوات الإسرائيلية إلى خطوط متقدمة في العمق نحو مدينة صور، وألحقت خسائر بشرية ومادية كبيرة بالجنوب. جعل هذا التطور مساهمة "الحرس الشعبي" جزئية، ولكن مهمة، إذ جرت مواجهات في بلدات بنت جبيل وحولا وإبل السقي والخيام وسواها، وفق ما كشفه حاوي.
كانت الخطوات الإسرائيلية المتلاحقة جزءاً من مسار تنفيذ مخطط الاستيلاء على جنوب لبنان للوصول إلى نهر الليطاني. وعلى المقلب الآخر لخط الاشتباك، خضعت مناطق الجنوب لسيطرة منظمة التحرير الفلسطينية، ووجدت الحركة الوطنية نفسها ملحقةً بالمنظمة.
وفي هذا الصدد، قال جورج حاوي في تصريحاته: "مع الأسف، كان نهج منظمة التحرير الفلسطينية منذ اليوم الأول هو التعاطي المباشر مع الناس بمعزل عن الأحزاب والأطر اللبنانية، وكانت تريد أن تُلحق الناس بها، وأن تُلحق الأحزاب أيضاً بها، غير آخذةٍ بعين الاعتبار الاستقلالية الذاتية النسبية التي تميّز العمل الحركي في الساحة اللبنانية".
عدوان 78: منظمة التحرير قررت الاستجابة لوقف إطلاق النار
بقيت منطقة الحدود، ومن بينها الليطاني، الهدف الدائم للمخططات الإسرائيلية، إلى أن حلّ شهر آذار/مارس 1978، حين نفّذت "إسرائيل" اجتياحاً جديداً أطلقت عليه اسم "عملية الليطاني". هنا، أشار حاوي إلى أن "الاستعداد كان من أجل قتال طويل النفس، ولكن مع الأسف القرار السياسي بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية كان الاستجابة السريعة لقرار وقف إطلاق النار. وقد اعتبرت قيادة المنظمة آنذاك أنّ هذا أول انتصار سياسي لها". وانتهى ذلك الاجتياح بسيطرة إسرائيلية على شريط حدودي وتهجير السكان الذين أقاموا في مخيّماتٍ مؤقّتة.
في مقابل تهجير السكان واحتلال الأرض، أقامت "إسرائيل" "دويلة" لها بإمرة سعد حداد، وانتشرت قوات طوارئ دولية فصلت بين حدود تلك "الدولية" وبقية مناطق الجنوب، من دون أن يطبّق مجلس الأمن الدولي قراره رقم 425 لإلزام "إسرائيل" بالانسحاب.
لفت حاوي في هذا الإطار إلى أن "هذا الحدث الذي ترافق مع إعلان دولة لبنان الحر على يدي العميل سعد حداد نتيجة للاحتلال، هو أهم حدث في تاريخ الشرق الأوسط بعد حرب 1967، وأن هذا سيفرض علينا قتالاً طويل النفس لمقاومة الجانب العسكري والجانب السياسي من هذا الاحتلال، لأن إسرائيل اتّخذت لها دمية لبنانية، ستعمل عبرها لتركيز سيطرتها على هذه المنطقة ولتوسعها".
وأضاف حاوي أن "الأكثر خطورةً هو العلاقة بين الحالة العسكرية الفلسطينية الوطنية اللبنانية من جهة، والعلاقة بين الأهالي التي لم تكن سليمة من جهة أخرى. لقد تحولت منظمة التحرير إلى سلطة داخلية تعطي بعض العطاءات، ولكنها تمارس تسلّطاً وتدخلاً في شؤون داخلية لبنانية وتفسح المجال أمام الكثير من التجاوزات".
كما تابع الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني السابق: "بدلاً من أن نتصدى لتجاوزات المنظمة، وبالتالي نخلق أجواء مطمئنة لإعادة البحث في العلاقة على أسس أفضل، تصدينا للمتصدين للوجود الفلسطيني، فساهمنا في إغراق الجنوب في حالة من التقاتل الداخلي التي بلغت ذروتها قبيل الاجتياح الإسرائيلي".
الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982
في حزيران/يونيو 1982، بدأت "إسرائيل" اجتياحها الواسع للبنان. وبسرعةٍ قياسية، احتلّ الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان ومناطق في الجبل والبقاع الغربي. واجه أثناء تقدمه قتالاً متفرقاً من القوى اللبنانية والفلسطينية والجيش السوري، ولم تمضِ أيام معدودة حتى وصلت طلائع قواته إلى مشارف بيروت.
اعتبر حاوي أن "الاجتياح الإسرائيلي للبنان كان متّفقاً عليه عربياً، ومغطى عربياً ودولياً، ومموّلاً عربياً، وكانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قد أخذت ذلك بعين الاعتبار، وقرارها لم يكن التصدي للاجتياح في اليوم الأول. كانت تعتقد أن إسرائيل ستلتزم بالاتّفاق الدولي العربي للتقدم 40 كيلومتراً فقط".
وكشف حاوي في شهادته خلال الوثائقي عن خلاف كبير جرى بينه وبين ياسر عرفات مساء يوم الاجتياح في غرفة العمليات المركزية، بعد أن أخبر حاوي عرفات أن قوات الاحتلال الإسرائيلي وصلت إلى مشارف صيدا، فرفض عرفات الأمر، وقال: "يستحيل ذلك".
في 9 حزيران/يونيو 1982، نشبت معارك من نوعٍ جديد على مداخل العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية. وخلال القتال الذي خاضته القوى اللبنانية والفلسطينية، انضمّت مجموعات جديدة للمدافعين عن المنطقة قادها عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، ومعهما رفاقٌ آخرون.
وُلدَت آنذاك في الميدان المقاومة الإسلامية في لبنان مستفيدةً من قدوم حرس الثورة الإيراني لتقديم الدعم للشباب اللبناني.
حاوي اعتبر أنه لو اتخذ قرار القتال في الدفاع عن صور وصيدا، كما اتُخذ في الدفاع عن بيروت، لكانت النتائج مختلفة.
حافظ الأسد: المقاومة الوطنية اللبنانية ستشكّل رافعة لحركة التحرر العربية
في هذه الأثناء، اغتيل بشير الجميّل قبل استلام منصبه رئيساً للجمهورية. واجتاحت "إسرائيل" الشطر الغربي من بيروت، مرتكبةً مجزرة صبرا وشاتيلا. وكانت رصاصات المقاومين في شوارع بيروت أسرع من الآلة العسكرية الإسرائيلية، وفوجئ "الجيش" الإسرائيلي بسرعة المقاومة، فانسحب من العاصمة تحت النار.
قال حاوي إن "إسرائيل فوجئت بهذه العمليات في بيروت، فكانت تتوقع أن تجد حالة مستسلمة فيها، ما اضطرها إلى الانسحاب وهي تذيع: يا أهالي بيروت، لا تطلقوا النار علينا. نحن منسحبون".
من جهة أخرى، كانت سوريا بقيادة الرئيس حافظ الأسد قد بدأت ترفد المناهضين للاحتلال بالدعم والتأييد في سبيل طرد الاحتلال. ووفق حاوي، "عندما سمع الرئيس حافظ الأسد بيان جبهة المقاومة الوطنية والعملية، اتّصل مباشرةً بالتلفزيون السوري، وطلب منه أن يُذيع هذا الخبر أول خبر، وقال: عرفت أن هذه المقاومة الوطنية اللبنانية، أي من اللبنانيين، وليس استمراراً للقتال المشترك الفلسطيني اللبناني، هي الظاهرة الجديدة التي ستشكّل رافعة لكل حركة التحرر العربية في مواجهة الاحتلال".
وحول دور المقاومة الإسلامية، قال حاوي إنها "عززت الصمود في مناطق الاحتلال والمناطق المحاذية للاحتلال، واستخدمت الإنسان والوسائط المادية المتقدمة والتقنية المتقدمة، واستطاعت أن تُثبت كفاءة مهمة شكّلت تطويراً كبيراً لعمل المقاومة ككل، وبالتالي جعلت من المقاومة قضية أعلى مستوى، وأكثر اتّساعاً، وأرقى تقنياً، وأكثر ضرراً بالعدو، الأمر الذي عمّق المأزق الإسرائيلي الداخلي"، مضيفاً: "أنا أجد في الأعمال البطولية للمقاومة الإسلامية زخم كل الحركة الثورية في العالم وفي لبنان متمثلة فيها".
يُشار إلى أن جورج حاوي هو سياسي لبناني، ويعد أحد أهم وجوه اليسار اللبناني منذ سبعينيات القرن الماضي. تولى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، وكان رئيساً للمجلس الوطني للحزب، كما أنه كان نائب رئيس المجلس الرئاسي للحركة الوطنية اللبنانية. اغتيل في حزيران/يونيو 2005 بقنبلة وُضعت في سيارته.