هل نحن بحاجة إلى عقيدة دبلوماسية؟

يتمثل هدف الدبلوماسي الحقيقي بالبحث عن المصالح الوطنية للبلد الذي يمثله على أحسن وجه، وبالتالي فإن عدم شعور الدبلوماسي بالانتماء الحقيقي سيؤدي إلى انكسارات لا تقل أهمية عن خسارة الجيوش معاركها.

  • هل نحن بحاجة إلى عقيدة دبلوماسية؟
    هل نحن بحاجة إلى عقيدة دبلوماسية؟

الدبلوماسي هو إنسان بالطبع، والإنسان هو حيوان سياسي كما يقول أرسطو، أياً كان نوع هذا الإنسان، سواء كان إنسان هوبز بكونه الكائن الذي ينجذب نحو أقطاب العنف والقوة في إطار حرب الجميع ضد الجميع، أو إنسان مكيافيلي الذي يتخذ شكل الأمير ليقلد الأسد والثعلب معاً.

هكذا هو الدبلوماسي، مثل بقية البشر، كائن رمزي يخضع إلى أنماط جدل الهوية والانتماء، ويخطئ بالواقع والتجربة، ويدخل متاهات وتحديات. التمييز الطريف بين السياسي والدبلوماسي ربما يكون صحيحاً، إذ إن السياسي هو الشخص الذي يقرر، على الفور، التحدث لساعات بشأن قضية ما، من دون حتى التفكير بها، بينما يفكر الدبلوماسي لساعات ليقرر عدم قول أي شيء.

الجزء البسيط من هذا العالم تصوره الروائية أغاثا كريستي في روايتها "راكب إلى فرانكفورت"، التي تدور قصتها حول الدبلوماسي ستافورد ناي، الذي يحدث له شيء غريب في المطار، إذ تطلب منه امرأة أن يعطيها جواز سفره وملابسه كي تسافر هي بدلاً منه، بذريعة أن شخصاً ما يترصدها ويريد القضاء عليها. وبموافقة الدبلوماسي على طلب المرأة، يكون قد ورّط نفسه في الدخول في عالم غامض متشابك بالمتاهات والأحداث، هذه هي الدبلوماسية التي وصفها الأمين العام السابق للأمم المتحدة الراحل كوفي عنان بأنها مشاكل من دون جوازات سفر.

أو كما يقول الدبلوماسي المخضرم هنري كيسنجر، هي فن المراكمة الصبورة لنجاحات جزئية، وهذه المراكمة تحتاج إلى تدريب، ولهذا فكل وزارات الخارجية في العالم تسعى لتدريب كوادرها وتطويرها، وتوسيع مدارك جيوشها الدبلوماسية التي تنطلق بين أفق قارات العالم السبع، وكما يقول أحد الدبلوماسيين: Diplomats are made, not born””، فهو يصنع فعلاً ولا يولد.

على مر تاريخ السجل الدبلوماسي، كانت شروط نجاح الدبلوماسي ومهمته ترتبط بأمور تتعلق بأصناف الطعام التي تسود موائده، وأصوله الأرستقراطية، وطريقة ترتيب شعره المستعار، أو كما يقول هارولد نيكولسون إن الصفات الرئيسية للدبلوماسي المثالي هي: الصدق، والدقة، والهدوء، والصبر، والمزاج الجيد، والحياء، والولاء.

ويقول: "قد يعترض القارئ، لقد نسيت الذكاء والمعرفة والفطنة والحصافة والضيافة والسحر والصناعة والشجاعة وحتى اللباقة، أنا لم أنسَ هذه الصفات، لكنني أخذتها كأمر مسلم به".

أما اليوم، فقد باتت المعايير مختلفة، وتضاف إليها قائمة من المتطلبات منها الثقافة الواسعة وأدوات الدبلوماسية الناعمة والرقمية وإجادة اللغات وغيرها، كلها مواصفات ضرورية ومهمة، لكن بلا بوصلة وشعور بالانتماء، لن يكون لهذه الأدوات أي فائدة، فثمة مسلمات أهم من تلك المواصفات تتعلق بمدى ارتباط الدبلوماسي بهوية بلده والتعبير عنها. 

ومهما قيّدت التقاليد والأوامر الصارمة وقواعد الأعراف الدبلوماسية منهجه الوظيفي، يبقَ معيار الانتماء وعقيدة الدبلوماسي الموجّه الحقيقي لعمله وإنجاز واجباته، وقد يقول قائل إنه أمر مسلم به، أعتقد، في عالم اليوم، باتت هذه المقولة بحاجة إلى مراجعة. 

هل نحتاج إلى عقيدة دبلوماسية؟ 

يقول السفير الإيطالي بييترو كوراني إن الدبلوماسية كرسي من الدرجة الأولى في مسرح الحياة، يحتاج هذا الكرسي إلى عقيدة تجعله راسخاً في هذا المسرح. على الرغم من أن مفهوم العقيدة ارتبط بالجانب العسكري، نحن بحاجة إلى صياغة روحية الانتماء، فكل المتخصصين في الدبلوماسية كتبوا عن آليات نجاح العمل الدبلوماسي، لكن فن صناعة الدبلوماسية يعتمد على مدى استيعاب الدبلوماسي وإيمانه بأهداف الدولة التي ينتمي إليها. 

قد يقول سائل هذه مسلمة من المسلمات، وسياق طبيعي أن يؤمن الجندي بالمعركة التي يخوضها، لكن اهتزازات كبيرة تعرض هوية الدبلوماسي كموظف الخدمة الخارجية أكثر من غيره لهذه الأسئلة الهوياتية التي تواجهه، مثل طبيعة الانتماء والهويات الفرعية، ورؤيته السياسية أو انتمائه، وطبيعة ملاحظاته على النظام السياسي الذي يمثله وغيرها من الأسئلة المهمة.

يتمثل هدف الدبلوماسي الحقيقي بالبحث عن المصالح الوطنية للبلد الذي يمثله على أحسن وجه، وبالتالي فإن عدم شعور الدبلوماسي بالانتماء الحقيقي سيؤدي إلى انكسارات لا تقل أهمية عن خسارة الجيوش معاركها من إحباط وتسلل اليأس، وبالنتيجة عندما يفقد الدبلوماسي الصلة مع مراكز القرار سيضع المنافسون جدول الأعمال، وتتحوّل تلك الممارسة إلى وظيفة ساعي بريد فخري، بل كما يقول الدبلوماسي المخضرم وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر ناصحاً: "لا تدع الزميل الآخر يضع جدول الأعمال أبداً". 

لهذا، ستكون هناك حاجة ماسة إلى العقيدة الدبلوماسية التي تعتمد على ترسيخ الضمير والشعور بالانتماء، وإحساس عالٍ بالواجب والانضباط الذاتي والنظام، كل هذه العوامل تمكن من تحقيق نتائج جيدة في العمل الدبلوماسي، إذ يمكن لأي مؤسسة أن تمتلك أفضل بنية تحتية للتدريب والتطوير المهني، لكنها ستكون معدومة الفائدة من دون أن تكون هناك أهداف واضحة لهذا التدريب والمتعلقة بالبناء الدبلوماسي.

فكرة العقيدة الدبلوماسية قد تخضع لمفاهيم خاطئة، وأنا لا أقصد أن تلبس الخدمة الخارجية لباساً أيديولوجياً أو فكرياً بقدر ما تكون منهجية وطنية راسخة لبناء وتأسيس ثقافي وهوياتي، بعيداً عن الثقافة الارتجالية، كما إنني لا أؤمن بالسياسة الخارجية ذات الوجه الأيديولوجي، فقد عفا عليها الزمن مع تعدد الوسائل والأدوات.

كلمة العقيدة التي ترتبط بمفهوم الخدمة العسكرية لا تحمل بالضرورة المفهوم ذاته للخدمة الخارجية، إذ إن عملية صياغة العقيدة لا تقل أهمية عن العقيدة نفسها، ففي الأزمات لا يمتلك الدبلوماسي استراحة المقاتل، وبالتالي لا توجد فرصة فسيحة للمراجعة، وعليه يجب أن يكون منطلقاً من عقيدة دبلوماسية راسخة.

لذا، لا يكفي أن تكون للدبلوماسي لغته الجيدة أو مظهره اللائق وثقافته العامة، بل يجب أن يكون مؤمناً بهوية بلده ودستوره والرؤية العامة للدولة، وإن كان يختلف معها في الرأي الشخصي، لكن على مستوى الخدمة الخارجية يجب أن يطبق رؤية الدولة واستراتيجية الحكومة التي يمثلها، بغض النظر عن القضايا الأخرى.

هذا التطبيق لا يعني انعدام الابتكار الإبداعي أو فقدان التفكير الذاتي، بل عملية موازنة لهذه العقيدة التي يسعى لنقلها في رسالته الدبلوماسية. 

ويجب التمييز بين العقيدة والتقاليد والتعليمات، تمثل الأولى مجموعة من السياسات والتوجيهات العامة التي ترسم خطوط التحرك الدبلوماسي ومساحاته في مجال العمل الدولي، وتحوي كل الثوابت الوطنية التي تسعى رؤية الدولة لتطبيقها، فما قيمة أن يكون لدينا دبلوماسيون أصحاب مهارات عالية في التفاوض والتمثيل الدبلوماسي واللغة، وإقامة العلاقات وشبكة تحليل استراتيجية من دون بوصلة واضحة لعقيدة دبلوماسية وطنية قادرة على التكيف مع السياقات المتغيرة في الوقت نفسه؟

وكما في المعارك، ليس كل الجنود يؤمنون بالعقيدة العسكرية، لكن الكل ملزم بتطبيقها، حتى القادة أنفسهم، لكن على الأقل هم يمتلكون قدراً من الإيمان بهوية البلد وروحه الوطنية والانتماء الاجتماعي لمكنوناته الثقافية، كذلك الحال قد ينطبق أحياناً على العمل الدبلوماسي، كيف يمكن أن يعمل الدبلوماسي منفصلاً عن تلك المنظومة، فمهمة السعي لتنفيذ قرارات القيادة السياسية بشكل أفضل، والمعرفة المهنية بلا بوصلة لن تحقق أياً من أهدافها، فمهمة وزارة الخارجية حارسة البوابة المعنوية في الأدبيات الدبلوماسية لا تقل عن مهمة الجنود في الميدان لحماية الحدود المادية وأمنها القومي.

في علم النفس الدبلوماسي 

في علم النفس الدبلوماسي، يميل الدبلوماسيون إلى تطوير علاقات نفسية مميزة مع هوية دولتهم، إذ يلتزمون بمظهر الأنا، ويتصرفون نفسياً كوكلاء للدولة، لكن هذه العملية تجعل أنانيتهم سريعة التأثر، ليس فقط بمصير مهمتهم، ولكن أيضاً بتغير مكان العمل.

وبجانب هذا البعد النفسي، هناك مسألة الضغط الناتج عن التفاعل الرمزي مع القيم الوطنية الداخلية. بالمقابل، تنخرط الحكومة في صراع حقيقي بين مصالح متناقضة داخلية في كثير من الأحيان تنعكس على سلوك الدولة الخارجي، وبالتالي على سلوك الموارد البشرية، والذي يتحوّل إلى فقدان الروحية الموجهة للعقيدة الدبلوماسية وتأكلها.

يبقى الغرض من العقيدة الدبلوماسية هو توفير القواعد العامة لتسيير السياسة الخارجية، من خلال القرارات المتعلقة بالعلاقات الدولية، وتسمح هذه القواعد للقيادة السياسية التعامل الخارجي عبر الحدود الثقافية والوطنية.

يجب على الدبلوماسي أن ينمي ويحافظ على درجة معينة من الهوية والتنكر لمشاعره الخاصة، ليس فقط من أجل الحفاظ على هوية الدولة وذاتها، بل لأنه يمثل شخصية الوطن وروح البلد، علماً بأن الدبلوماسيين ليسوا مجرد أرقام صغيرة في آلة السياسة الخارجية، فهم لديهم عواطف ومزاجية شخصية وتحيزات وميول كأي إنسان عادي، فهنا يقوم الدبلوماسي بعملية التوازن بين الهوية الشخصية والهوية الوطنية والعمل على إيجاد عنصر التكامل.

وكما جرت الأدبيات في العلوم الاجتماعية، ومنها العلوم السياسية، إذ من الصعوبة أن يتم تحديد مفاهيم الانتماء وفق مقاييس معينة، لكن لنا أن نتخيل، وكما ينقل الدبلوماسي العراقي المخضرم نجدة فتحي صفوة، في كتابه "حكايات دبلوماسية"، أن في وزارة الخارجية الأميركية لجنة خاصة مهمتها التثبت من إخلاص موظفيها تدعى لجنة الولاء، وتستعرض هذه اللجنة سنوياً إضبارات جميع الموظفين، وتدرس ما يردها خلال السنة من دوائر الأمن والاستخبارات من تقارير ومعلومات تتعلق باتصالات الموظفين الدبلوماسيين وأماناتهم، وهذا في بلد يدعي شعار الحريات العامة والديمقراطية، ولكننا لا يمكن أن نفهم ذلك إلا من خلال أهمية وخطورة مرض اغتراب الدبلوماسي عن هويته ومؤسسته.

قد تكون مهمة الدبلوماسي أخطر من مهنة الطبيب الذي قد يخطئ في عملية جراحية فيتسبب في مقتل مريضه، ولكن يمكن أن تؤدي العلاقات السيئة بين الدول، في كثير من الأحيان، إلى أسوأ المساعي البشرية، وهي الحرب التي عادة ما تكون ثمن ضعف الدبلوماسية، بل الكارثة أن يتحول الدبلوماسي إلى منصة لنقل الخلافات السياسية الداخلية إلى الخارج وكأنه قناة معادية، وهذا الطعن بالظهر يربك الشركاء الدبلوماسيين، ويمكن أن يعوق مجمل الجهود السياسية في الدولة.

المهارات والخبرة المناسبة شروط ضرورية لمزاولة مهنة مرتبطة بالسياسة الخارجية والدبلوماسية، لكنها قد لا تكون كافية ما لم تكن مدعومة بالشعور بالانتماء إلى البلد وجذوره وثقافته، فالمهنة الدبلوماسية، تشبه إلى حد كبير الحياة السياسية، لهذا ستكون هناك دائمة حاجة ماسة إلى وجود رافعات تعزز الروح الوطنية.

في كثير من الحالات، يتعين على الدبلوماسي الجيد التصرف بناءً على التعليمات المركزية، لكنه أيضاً سيحذر، ويجادل، بل ويحتج في ضوء حكمته ووعيه عندما تعلو المصالح الوطنية فوق كل شيء آخر. وعندما نفتح سجل التاريخ الدبلوماسي، سنجد أن النماذج الدبلوماسية الاحترافية هي الأكثر اندفاعاً للدفاع عن مصالح بلادها. ولأن العالم بات أصغر بفضل العولمة والتواصل، فإن المجاملة الخادعة غالباً ما تُبقي الفجوات الثقافية مخفية في العمل الدبلوماسي، فضلاً عن ارتباط الثقة السياسية في الداخل بالثقة الدبلوماسية في الخارج. 

تبقى الروح المعنوية الوطنية لوزارة الخارجية وكوادرها المقياس الحقيقي لاستقرار البلد، والانعكاس الطبيعي للنظام السياسي.