لبنان ونظريات التبعية سياسياً واقتصادياً حتى الآن
هل يريد صندوق النقد الدولي إفلاس لبنان؟ أم أن إخفاقاتنا أفلتت المنطق من عقاله؟
-
مصرف لبنان.
في لبنان البلد الواحد، بمساحته 10452 كلم2 حتى اليوم، بعد أن تكاثرث علناً وجهاراً طروحات الفدرلة والتقسيم وما شابههما، هناك فريقان من الناس ما زالا حتى اليوم أيضاً يمارسان العيش المشترك، نظراً إلى ما يتنازعهما من نظرتين وأملين. الأول خارج العقل والمعقول، والثاني داخلهما.
الأول يبني قناعاته وفق مشاهد الطقش والفقش، التي عمت معظم المناطق اللبنانية خلال فصل الصيف، وهو الموسم السياحي، الذي يُدرس في المدارس بدءاً من المرحلة الابتدائية أن اقتصاد لبنان قائم في أغلبيته على السياحة والخدمات، وهو الموسم الذي ينتظره اللبنانيون من سنة إلى سنة، وينتظرون سلفاً حسبته طبقاً لقاعدة الأرباح المقدرة من أعداد السياح والمغتربين والقادمين عبر المطار الوحيد في بيروت، ومن خلال حجوزات الفنادق وعجقة المطاعم وحانات السهر، والتي توجت هذا العام بلابسي الأبيض قسراً لا طوعاً، غنوا ورقصوا وجنّوا، وتجاوز عددهم خمسة عشر مغتبطاً بالفنان المصري الشهير عمرو دياب.
هذا الفريق ينظر إلى لبنان، بحاضره ومستقبله، نظرة التفاؤل بقرب انتهاء الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية اللتين ربما تنتهيان أو لا تنتهيان بانتخاب رئيس للجمهورية، فالأمر سيان ان حدث الاستحقاق أو لم يحدث، ما دام السيستم يسير خارج نطاق المؤسسات الدستورية والإدارات العامة، ويدور دورته من دون منّة، بعد أن دولر القطاع الخاص نفسه بنفسه، وما استمر المغتربون في مد أهاليهم بالفرش دولار.
والفريق الثاني يركّز على ما في داخل العقل والمعقول، فيرسم صورة قاتمة مبنية على وقائع مَعيشة وعلمية يتندر فيها على كل قرش يُصرف اليوم من أي أمل باسترداده ووضعه في خانة الخسائر، رابطاً المسألة بكيفية تعويضه وتغطيته.
فلبنان الغارق في أكثر من مئة مليار دولار أميركي، ديوناً داخلية وخارجية، والمتخلف عن تسديد حتى خدمة هذه الديون، والخَجِل من تصنيفات المؤسسات الائتمانية العالمية له والتي انزلقت إلى قعر أبجدية هذه التصنيفات في كل لغات العالم... يطرح السؤال: وبعدُ، الى أين؟
لبنان هذا، الذي لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور فيه ثلاثين دولاراً أميركياً، والمقصّر بالإصلاحات الضرورية التي يطلبها صندوق النقد الدولي كوصفة ليقف على رجليه، بسبب تعنّت أكثر من فريق يرفض التئام الجلسات التشريعية لإقرار القوانين الملحة قبل انتخاب رئيس للجمهورية... وفي ظل حكومة يَعُدّها البعض مستقيلة، والبعض الآخر لا يعترف لها بالشرعية إلا بتصريف الحدود الدنيا للأعمال، يسأل ثانية وثالثة: إلى أين؟
وثلاثة أرباع الشعب اللبناني، إن لم يكن أكثر، ممن يملكون ودائع في المصارف الخاصة طارت لأن المصرف المركزي استدانها، والتي استدانتها الدولة بدورها وطارت بفعل انهيار الدولة وعجزها عن توفير الإيرادات وتأمين النفقات، يسألون ويلحون: وبعدُ، إلى أين، والى متى؟
أما في سندات اليوروبوند فكلام آخر، فلبنان الذي تخلفت حكومته عن تسديد خدمة دينها، تجهل الدولة برمتها اليوم، ومؤسساتها المعنية، أين باتت وفي يد من؟ هل ما زالت في حوزة من اكتتب بها من جهات دولية أو محلية، أم طارت لتغط في أيدي حملة لها ممن يمتهنون شراء سندات الدول المفلسة بالأسعار الأقل من زهيدة ليحصّلوها لاحقاً بملاحقة الدولة صاحبتها، وهم الذين منحهم القانون حق ملاحقة الدولة حتى حدود وضع اليد على أصولها وممتلكاتها.
حتى الآن، لا خبر.
لبنان هذا، هو لبنان نفسه الذي يُؤوي أكثر من ثلاثة ملايين نازح سوري يسعى المجتمع الدولي ومؤسسات الــ NGOS لدمجهم في المجتمع اللبناني، يضاف إليهم ما يقدّر بخمسمئة ألف فلسطيني يتقاسمون مع الإخوان اللبنانيين قطرة الماء من قسطل جفت خطوط إمداده، وحبة القمح، التي يستوردها بقروض أجنبية، آخرها قرض بمئة وخمسين مليون دولار أميركي من البنك الدولي، لا تملك الدولة أي رؤية لكيفية تسديده. وهو بدأ اليوم رحلة انتظار غاز البحر علّه، بعد أعوام خمسة، يحمل المن والسلوى، فيشطف في دربه كل ما يمت إلى ملامح الفقر والإفلاس بصلة.
قبل أيام غادر وفد صندوق النقد الدولي محبطاً بعد أن تبيّن له من النواب، الذين التقاهم، أنهم غير قادرين على حمل تبعات تمرير بند في غاية الخطورة، هو شطب الودائع، الأمر الذي يعني سيف إفقار يقطع رؤوس اللبنانيين، وتضعهم الحكومة والمجلس النيابي في حالة العدم، وأنهم في الموازاة غير قادرين على السير ببرنامج الصندوق الذي سيضع زيحاً بين ماضي ما قبل الأزمة وبين الحاضر والمستقبل. وهذا يعني أن خطة النهوض ضربها الشلل، والبلاد أمام اتفاق جديد.
يبدو أن البلاد أمام لا اتفاق. والريبة تكمن في السؤال: هل يريد صندوق النقد الدولي إفلاس لبنان؟ أم أن إخفاقاتنا أفلتت المنطق من عقاله؟ ثمة من يتحدث عن أولوية هيكلة المصارف، وثمة من يتحدث عن إعادة هيكلة دين الدولة أو جدولته في الحد الأدنى، وإلا فستُعَدّ دولة متخلفة مارقة.
يسأل سائل: أي دولة هي التي تداوي أزماتها بالترقيع؟
وتقف موقف المتفرج بلا خطط إنقاذية حتى خطة تأمين مخزون "تكتي" لا استراتيجي، متعذر وضعها لتأمين المواد الأولية كالطحين والفيول، وتشرين يدّق الأبواب حيث التاريخ الذي لا يعود فيه عناصر الجيش اللبناني والقوى العسكرية، الذين لا يزالون يحفظون نوعاً من الاستقرار، قادرين على تأمين الغذاء والمحروقات لآلياتهم.
منذ الصغر كنا نسمع أن السياسة تتبع الاقتصاد ويتحكم فيها، ومنهم من يرى العكس، لكن ثمة من سمع أن السياسة والاقتصاد يتبعان رغبة الجماهير؟ نعرف أن التبعية السياسية تحدث طبقاً للتبعية الاقتصادية، فأي تبعية تنتظر لبنان؟ السؤال مطروح منذ الاستقلال، ولا جواب حتى الآن.