لبنان.. وتصعيد المجابهة الأميركية مع الشرق

لبنان يقع اليوم على فالق الصراع الدوليّ بين غرب متراجع، لكن لا يزال يملك الكثير من القوة، وشرق ناهض يسعى للتمدد نحو شرقي المتوسط، فما هي صورة لبنان على طرفي الفالق الحاضر فيه بقوة؟

  • رئاسة الجمهورية: سنجري مشاورات تمهيداً للإعلان رسمياً عن موقف وطني موحد
    لا غرابة في أن تتعثر معركة رئاسة الجمهورية اللبنانية

كعادته في كلّ مرحلة مفصليّة، يواجه لبنان إحدى أقسى الأزمات منذ نشوئه، والتي تتمثل اليوم بتعذر انتخاب رئيس للجمهورية. وككل مرة، يظهر أن الأزمة هي ما يعايشه الكيان اللبناني من مآزق في ظل الاضطرابات والتوترات الإقليمية والدولية التي تؤثر فيه بقوة، وتهدد كيانه بسبب تركيبته الديموغرافية وتأثر مكوناتها بظروف المرحلة.

كبقية المراحل، لكن ربما الأكثر حدة حالياً، يتعذر انتخاب رئيس جمهورية يفتح البلد على احتمالات حلول مهمة تتلاقى مع تطورات المنطقة ووقف توتراتها والاتجاه نحو بيئة إقليمية متعاونة ومتعايشة، وأبرز هذه المحطات الانفتاح السعودي-الإيراني.

رغم أجواء الانفتاح الإقليمي، وخلافاً لما هو منتظر انعكاساً على الساحة اللبنانية، يشهد الكيان مرحلة تأزّم تبدو أشدّ من سابقاتها، وربما تُعتبَر دخولاً في مأزق دستوريّ-كيانيّ لن تكون تجارب "الطائف" و"الدوحة" إلّا نماذج ملطّفة له، وأبرز أسباب عمق المأزق الراهن هو بلوغ التطورات الدولية، ومنها الإقليمية، مبلغاً عالياً من المجابهة والصراع والتوتر، توصف بما يشبه الحرب العالمية الثالثة، وتجليات ذلك في لبنان.

لبنان يقع اليوم على فالق الصراع الدوليّ بين غرب متراجع، لكن لا يزال يملك الكثير من القوة، وشرق ناهض يسعى للتمدد نحو شرقي المتوسط، فما هي صورة لبنان على طرفي الفالق الحاضر فيه بقوة؟

الجانب الأول من المسألة هو ما قاله رئيس الجمهورية اللبنانية السابق ميشال عون في مقابلة صحافية، حين رأى أن لبنان غربي الوجه، وهي بداهة منذ تشكّله على أيدي الاستعمار الغربي بالصيغة المعروفة المتوافقة مع مصالح الغرب المؤسِّس له، والتي كانت على الدوام سبب انخراطه في الصراعات الإقليمية والدولية. 

واليوم، ورغم المتغيّرات الكثيرة التي حدثت فيه، أبرزها صعود المقاومة بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لا يزال لبنان يشكّل نقطة ارتكاز غربية ومشروعاً غربياً استراتيجياً، وربما أكثر من السابق.

على الصعيد الأميركي، ورغم كل ما يقال عن عدم اهتمام أميركي بلبنان وما يجري فيه من تطورات، فإن البلد يشكل قاعدة أميركية كاملة المواصفات، وعلى المدى الاستراتيجي البعيد وفق ما رسمته الاستراتيجية الأميركية لنفسها، ولن تتخلّى الولايات المتحدة عنه بسهولة كقاعدة ارتكاز لسياساتها واستراتيجياتها، خصوصاً مع احتدام الصراع بينها وبين الشرق، خصوصاً مع روسيا والصين وإيران.

لذلك، أقامت الولايات المتحدة الأميركية ثاني أكبر سفاراتها في العالم في لبنان في عوكر -مسافة قصيرة من الرابية مقر رئيس الجمهورية السابق ميشال عون- وعلى مساحة توصف بسخرية بأنها "أكلت نصف الجبل اللبناني". يضاف إلى ذلك الوصف، كلام عن احتواء السفارة أحد أكبر المراكز الاستخبارية في المنطقة. ووفق تقارير استخبارية، سيكون المركز ناشطاً على مستوى الإقليم ككل.

إلى جانب السفارة، هناك قاعدة عسكرية تابعة للجيش اللبناني، هي مطار حامات في الطرف الشمالي لقضاء البترون في الجبل اللبناني. هذه القاعدة تعتبر أساسية للحركة الأميركية في المنطقة، ومنها يمكن استطلاع البحر المتوسط حتى مضيق جبل طارق، وهي تشهد حركة طيران أميركية ناشطة شبه يومية، وحركتها ليست مجرّد رحلات استجمام. 

وثمة ملاحظة في هذا الإطار هي أن نائب قائد قوات التحالف الأميركي في الشرق الأوسط، مقره بغداد، حطّ مع عقيلته في القاعدة منذ زهاء سنتين، وانطلق منها نحو بشري، وزار وادي قنوبين فيما وُصِف بأنه "زيارة دينية".

الزيارة لقنوبين تذكّر بالدور المترابط بين الحركة الأميركية -الغربية تاريخياً- والقاعدة الدينية في جبل لبنان الوصيّة على قنوبين، والمنبثقة منها، وهي اليوم "بكركي".

وفي التفصيلات من الاهتمامات الأميركية في المناطق اللبنانية كافة، نشاط الجمعيات المدنيّة التي تؤدي دوراً مهماً في أوساطه، وكان لها دور بارز في نتائج الانتخابات النيابية وتحولاتها، كما كان لها دور في تفعيل حركة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، واستنبات مجموعة من النواب من هذه الحركة تترادف حركتهم مع حركة البيئة السياسيّة المدعومة أميركياً، أي تشكيلات الرابع عشر من آذار.

يفترض الوجود الأميركي الكبير في لبنان محاولات الحفاظ على طابعه الغربي الأميركي، وتحقيق السياسة الأميركية فيه، ومنع تسرّب دول المحور الثاني إليه، وهذا ما لمسه الجميع بمنع الدخول الروسي والإيراني والصيني إليه، أي محاولات توجّهه نحو الشرق.

لا بدّ من التذكير ببعض الحقائق التي ما زالت حاضرة في الأذهان، منها الرفض الضمني للسطات اللبنانية، خصوصاً في عهد الرئيس ميشال عون، للمشاريع التي تقدّمت بها روسيا إلى لبنان، والتي كان من شأنها حلّ كلّ أزماته، من دون أن يتحمّل أي أعباء مالية، ومنها رفض الهبات النفطية الإيرانية المجانية، وكذلك الكهرباء، ومشاريع أخرى، ومنها أيضاً منع وصول الغاز المصري لتوليد الكهرباء، والتعاون مع دول المنطقة لحل مشكلاته المختلفة، منها النزوح السوري، وحركة الاستيراد والتصدير عبر الحدود، إلى العديد من الإجراءات التي كانت ستنهي الأزمة لولا عرقلة الوكلاء الأميركيين في السلطة.

يكفي أن ينتهي عهد الرئيس عون 6 سنوات من دون أي شكل من أشكال التواصل المنتجة مع سوريا تنفيذاً للمصلحة والرغبة الأميركيتين.

في المقلب الدوليّ الآخر، أبدت روسيا رغبتها في العمل في لبنان، وقدّمت الكثير من المشاريع في مجالات البترول، تكريراً واستخراجاً، وفي مجالات الطاقة الكهربائية والقطاعات الاقتصادية المختلفة، كالمرافئ والمطارات وسواهما، لكنّ كل تلك المقترحات جوبهت بالمنع، ليبقى لبنان في مأزقه إنفاذاً للسياسة الأميركية التي تريده حصرياً لها، والتي تريد منه سلاح المقاومة المهدّد للكيان الصهيوني، تحت شعار ردّه إلى العصر الحجري.

خط الحرير الصيني الذي من شأنه خلق حركة اقتصادية هائلة عابرة لآسيا، يحتاج إلى نقطة النهاية شرقي المتوسط، وتحديداً في لبنان، لكنّ القوى السلطوية الأميركية الهوى تمنع وصوله إليه حفاظاً على المصالح الأميركية فيه. 

هذه الممارسة ليست جديدة في لبنان بواسطة القوى الموالية للغرب، التي ما انفكت تؤدي الدور عينه منذ نشأة الكيان 1943، مروراً بأزمة المجابهة بين حلف بغداد وعبد الناصر 1958، والتصدي للمقاومة الفلسطينية منذ نكسة حزيران 1967، وحتى اليوم، والدور المناهض لسوريا على الدوام.

على قاعدة هذا التناقض الدولي الكبير، يشهد لبنان أكبر أزمة سياسية في حياته، عبر استحقاق رئاسة الجمهورية، فسليمان فرنجية يمثّل السياسة التي لن تمنع دخول الشرق للاستثمار والعمل فيه مع استمرار الانفتاح على الغرب، خلافاً لما جرى في عهد الرئيس عون، فيما يمثّل الوزير جهاد أزعور صلب السياسة الأميركية، ولا يختلف اثنان على ذلك. ومن هنا، تتبنى ترشيحه قوى الرابع عشر من آذار، مع معارضة السابع عشر من تشرين الأول.

لا غرابة في أن تتعثر معركة رئاسة الجمهورية، لأنها ترجمة للصراع الدولي بين الغرب المتصابي والشرق الصاعد على أرض لبنان. من هنا يمكن رؤية المأزق اللبناني على أشدّه أكثر من أي مرحلة مضت، وقد يستغرق ذلك ردحاً طويلاً من الزمن، رهناً بصدفة تاريخيّة دوليّة تجد له مخرجاً ما قد يكون مختلفاً بالتمام عن ماضيه "التليد"، لكنه بالتأكيد غير مرئيّ النتائج.