كريستيانو رونالدو وكرة القدم والحوكمة المستدامة
من الواضح أن القضايا العالمية بأبعادها الإنسانية والسياسية والاقتصادية باتت بحاجة إلى وجود نسق ثقافي جديد.
لقد تخطّى واقعنا المعاصر المعايير الكلاسيكية التي تتّسم بها أطر العمل السياسي والاقتصادي والثقافي، وذلك نتيجة طبيعة المعضلات العالمية البالغة التعقيد، التي لم يعد ممكناً إيجاد الحلول لها من خلال مفاهيم وآليات الحوكمة المستدامة التقليدية. وبناء على هذا الواقع يمكن طرح الإشكالية التالية: هل يمكن على صعيد الحوكمة المستدامة إيجاد نسق ثقافي جديد يساعد على خلق آليات ضغط وتأثير تكون قارة على المساعدة في مواجهة التحديات العالمية المعاصرة؟
من الواضح أن القضايا العالمية بأبعادها الإنسانية والسياسية والاقتصادية باتت بحاجة إلى وجود نسق ثقافي جديد، يجب أن يرتكز على القواعد التالية:
1- تغيير طريقة فهم سلطة وسيادة الدولة.
2- العمل لإيجاد تأثير سياسي ملموس.
3- خلق ضغط اقتصادي حقيقي ومباشر.
4- إيجاد سلطة فعلية للأفراد الفاعلين.
وعليه، هذا النسق الجديد الذي يرتكز على محورية الفرد، يجب أن يكون أداة تحفيز تساعد على أدراك أن الالتزام الأخلاقي ضرورة ملحة جداً، إذ أصبحت الصورة والسمعة الأخلاقية أحد أهم الأصول الثابتة، وأكثرها حساسية على مستوى رأس المال البشري والاجتماعي. وهذا يستوجب تالياً من القوى السياسية والاقتصادية إعادة تقييم سياساتها بما يتلاءم والحوكمة المستدامة الأكثر إنسانية.
ولتوضيح مدى قدرة الأفراد على إحداث نوع من التغيير الذي يمكن الاستفادة منه على مستوى الحوكمة المستدامة، يمكن الإشارة إلى التأثير العالمي للاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو، الذي يُعد نموذجاً يؤكد قدرة الأفراد المؤثرين على وضع كثير من القوى في موضع المساءلة والمحاسبة. وهنالك كثير من الأمثلة التي تؤكد ذلك، ومنها:
1- في بطولة أوروبا لكرة القدم عام 2020، أزال رونالدو في مؤتمر صحافي مشروب كوكا كولا (الراعي الرسمي للبطولة) من أمامه للتشجيع على شرب الماء حفاظاً على الصحة، وهو ما أدى إلى انخفاض قيمة أسهم الشركة وتعرّضها لخسائر بلغت نحو 4 مليارات دولار.
2- تعرض أسهم نادي مانشستر يونايتد في البورصة لخسارة مالية نتيجة التصريحات الناقدة بشدة لإدارة النادي من قبل كريستيانو رونالدو في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، فضلاً عن اهتزاز صورة وسمعة النادي، ما أدى إلى تصريح مالكي النادي عن وضع فكرة بيع النادي ضمن أولوياتهم.
3- ارتفاع قيمة أسهم نادي مانشستر يونايتد في البورصة بما يقارب 212 مليون جنية إسترليني بمجرد إعلان التعاقد مع كريستيانو رونالدو في آب/أغسطس 2021.
4- لقد اختيرت جزيرة ماديرا مسقط رأس كريستانو رونالد أفضل جزيرة في أوروبا بين عامي 2013 و2021 (باستثناء عام 2015)، إضافة إلى "أفضل جزيرة كوجهة سياحية في العالم" ما بين عامي 2015 و2021. وذلك نتيجة التأثير الإيجابي لشهرة اللاعب البرتغالي في السياحة، ويتضح أن الفترة الزمنية التي حصلت فيها ماديرا على هذه الجوائز تتزامن مع زيادة كبيرة في عدد متابعي (CR7) على شبكات وسائل التواصل الاجتماعي.
5- الحسابات الشخصية لكرستاينو رونالدو هي أكثر الحسابات تأثيراً ومتابعة على مواقع التواصل الاجتماعي من حسابات المؤسسات والحكومات أو القيادات السياسية أو حسابات الشركات والمنظمات الخاصة. فمثلاً، في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2022، تخطى عدد متابعي كريستيانو رونالدو نصف مليار نسمة على منصة الإنستغرام فقط.
انطلاقاً من ذلك، ووفقاً لإستراتيجية واضحة المعالم، يمكن أن تتعاون الدول والأمم المتحدة والمؤسسات والمنظمات المعنية بالحوكمة المستدامة مع كريستيانو رونالدو، وجميع الأفراد الأخرين المؤثرين، وذلك عن طريق استغلال تأثيرهم ونفوذهم على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل الوصول إلى مزيد من الحوكمة المستدامة الفعالية، بما في ذلك تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 (SDGs) التي تشمل تحقيق السلام والعدل وبناء المؤسسات القوية، ومكافحة التغير المناخي والقضاء على الفقر، والحد من أوجه عدم المساواة..
وفي هذا السياق، يبدو أن أكثر ما تخشاه قوى الفساد والاحتكار حالياً هو مواجهة ذلك النسق من المعايير الجديدة التي تتجاوز رتابة وعدم فعالية المعايير السياسية التقليدية. فإذا كانت القوى السياسية غير قادرة أو عاجزة بقصد عن مواجهة نفوذ تلك القوى، يمكن للأفراد، كمستهلكين وكمستثمرين وكمواطنين، فعل ذلك وعلى نحو عملي وأكثر إيجابية، مقارنة بما تستطيع السلطات السياسية فعله أو ربما عدم رغبتها في فعله.
ولأن شبكات التواصل الاجتماعي باتت تشكل إحدى أهم مميزات العصر الحالي على صعيد التأثير والضغط العابر للحدود، فهذا يؤكد أهمية الاستفادة من دور الأفراد المؤثرين على مستوى إمكانية تحقيق الحوكمة المستدامة بجميع تجلياتها. إذ إن تأثير هؤلاء الأفراد سيكون حتماً في المستقبل جزءاً مهماً من المشهد الثقافي والسياسي والاقتصادي العالمي.
وبالتالي، وفي إطار التحولات الجذرية الحاصلة على مستوى المعايير وأكثر الأساليب السياسية تأثيراً، وفي مقدمها سيطرة أيديولوجية الأعلام والشهرة، فإنه يجب عدم الاكتفاء باستخدام المصادر التقليدية للحصول على النفوذ والتأثير، فهنالك المصادر الناعمة -إذا جاز التعبير- التي بات لها قدرة كبيرة على التوجيه والتأثير. وربما تكون هنا كرة القدم من أكثر المجالات الناعمة قدرة على صناعة التأثير على المستوى العالمي.
على نور ما تقدم، وانطلاقاً مما تحمله كرة القدم من إرث ثقافي شديد التعقيد على صعيد اتساع الترابط بين كرة القدم والقضايا السياسية والثقافية المعيارية وارتفاع وتيرة وحدة التحديات الجيوسياسية بين الدول، لا بد من طرح كثير من علامات الاستفهام حول إن كان هنالك ما يمكن تسميته "الرياضة البحتة" البعيدة من أي هيمنة أيديولوجية، بما في ذلك محاولة ترويج أجندة ثقافية وسياسية بل ومحاولة فرضها على جميع المجتمعات. وهذا فعلاً ما يمكن استنتاجه بكل سهولة من خلال تتبع جميع الإشكاليات الثقافية والسياسية التي رافقت استضافة قطر لكأس العالم في تشرين الثاني/نوفمبر 2022.
والخلاصة أن التنافس الجيوسياسي القائم حول كرة القدم، سيظل قائماً لاعتبارات كثيرة وثيقة الصلة ببنية النظام العالمي الراهن، ومحاولة الغرب عموماً إثبات مكانته. وبالتالي، وفي خضم صيرورة الشكوك الديمغرافية والاقتصادية والثقافية التي باتت تحيط بكثير من معالم النظام العالمي التي لن تقف عند التخوم السياسية وحسب، بل ستصل حتماً إلى عالم الرياضة، وعلى وجه التحديد في كرة القدم. وهنا لا بد من التساؤل:
- ما مدى إمكانية حصول حوكمة مستدامة على الصعيد الرياضي العالمي وتحييده عن التأثيرات السياسية؟
- إلى إي مدى يمكن أن يتحمل الأفراد المؤثرون المسؤولية الأخلاقية ويتبنوا أفكار الحوكمة المستدامة، بدلاً من الاندماج في منظومة استثمارية وتسويقية عالمية لا غاية لها سوى تحقيق الأرباح المالية ونشر ثقافة الاستهلاك؟