قمة "البريكس" طموحات وإنجازات.. وتحجّر الفلسفة السياسية الغربية
مع انتهاء القمة يوم الخميس 24آب/أغسطس، بدا واضحاً أن سقف طموحات قمة "البريكس" ومستقبلها جاء أعلى مما توقعه فريق الولايات المتحدة والدول الغربية.
على مدى اليومين الماضيين، اتجهت الأنظار نحو قمة مجموعة "البريكس" الخامسة عشر التي استضافتها جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم من وضوح كلمات القادة والمشاركين حول الطموحات والأهداف والآليات السلمية الساعية لتدعيم استقرار العالم، فإنها وُضعت على مشرحة وسائل الإعلام الغربية التي حاولت إفشالها قبل أن تبدأ وأثناءها، والتشكيك في نياتها وأهدافها، والاسترسال في استعراض أهدافها "الخفية" التي تصب بحسب سردياتهم في خانة المواجهة والعداء الجيوسياسي للولايات المتحدة وليس من أجل منافستها اقتصادياً وسياسياً، عبر أداءٍ إعلامي ممنهج يُثبت عجز الغرب ورفضه قبول الآخرين واحترام حقوقهم في التقدم والازدهار، وسعيهم لضمان السلم والسلام الدوليين في عالمٍ يكون أكثر عدلاً وإنصافاً ومرونةً، وغير خاضع للهيمنة الغربية بالقيادة الأميركية.
وعلى الرغم من ازدحام ملفات القمة، فإن ملف الحرب الأوكرانية كان حاضراً بقوة كنتيجة طبيعية لتأثيرات الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الدول المشاركة في القمة والدول الغربية ودول العالم كافة، على حدٍ سواء بفضل حزم العقوبات الغربية المتتالية والمستمرة على روسيا والتي أفضت من حيث النتيجة إلى نتائج لم يتوقعها الغرب، وانعكست نمواً على اقتصاد الدولة الروسية وتوسعاً في نطاق تجارتها وعلاقاتها الدولية، وبدفع تحولها أكثر فأكثر نحو آسيا وأفريقيا على حساب أوروبا، فحاجة الدول إلى الطاقة والأسمدة والحبوب وغيرها من المواد هي أساس سعيها لتحقيق التنمية وتطوير إنتاجها الزراعي والصناعي، وليس لضمان النفوذ الأميركي هنا وهناك، وسط ترحيب روسيا والصين بتوسيع انضمام الدول إلى هذه المجموعة والمساهمة في زيادة قدرات الدول الطامحة لتغيير النظام العالمي الأحادي وربطها وتشبيكها، وتقليم أظافر الهيمنة الأميركية رويداً رويداً.
وفي سياق دحض الأكاذيب الغربية حول التشكيك بأهداف دول مجموعة "البريكس" السلمية ونيّاتها، أعرب الرئيس بوتين عن "امتنانه" لدول "البريكس" ولجهودها في حل الأزمة في أوكرانيا، بغية "التوصل إلى تسوية سلمية للصراع الدولي على الأراضي الأوكرانية" ، وأوضح أن دول "البريكس" تعارض أي نوع من الهيمنة وسياسة الاستعمار الجديد، وأكد الاتفاق على "تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب عادل ويستند إلى القانون الدولي، واحترام المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وسيادة الدول واحترام حقوق شعوبها".
بات من المعروف أن الولايات المتحدة هي من يرفض الحلول والمفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وبحسب وسائل الإعلام ونقلاً عن المستشار السابق لرئيس البنتاغون العقيد دوغلاس ماكغريغور قوله:"فشلنا في كل ما أردنا تحقيقه في أوكرانيا. نحتاج إلى وقف القتال والتوصل إلى اتفاق قد لا نحبه، وإذا استمرت واشنطن في رفض مفاوضات السلام فقد يصل الجيش الروسي إلى غرب أوكرانيا على حدود الناتو ويسيطر على أوكرانيا بأكملها ". في حين وصف الرئيس بوتين انتهاء الحرب في أوكرانيا بأنه "هدفٌ روسي" ،واتهم الغرب وأتباعه بإطلاق الحرب في أوكرانيا على الأهالي في دونباس، الذين رفضوا الانقلاب الذي خططت له ودعمته الولايات المتحدة والدول الغربية للحفاظ على هيمنتها حول العالم.
مما لاشك فيه أن قمة "البريكس" رفعت "الفيتو" في وجه الدولار، ووجهت صفعة جديدة للعملة الأميركية الأكثر استعمالاً في المبادلات التجارية عالمياً، من خلال الاتفاق المبدئي على استبدال الدولار بالعملات المحليّة في المعاملات بين أعضاء المجموعة، في وقتٍ تروج فيه وسائل الإعلام الغربية سعي بكين لتحويل مجموعة "البريكس" إلى منافس جيوسياسي لمجموعة السبع، خصوصاً أنها تفوقت عليها بشكلٍ فعلي، بدلالة المؤشرات الاقتصادية لعام 2020، حيث سجلت مساهمات دول المجموعة في الاقتصاد العالمي ما يعادل مساهمة دول مجموعة السبع، وملاحظة ما يمكن توقعه من زيادة محتملة نتيجة ازدياد عدد دول "البريكس" المنضمة حديثاً، وتلك التي أعلنت رغبتها في الانضمام إلى المجموعة.
لقد قدمت مجموعة "البريكس" نفسها كداعم قوي وفعلي وضامن لتطوير البنى التحتية والطرق ومشاريع التنمية عبر تقديم بنك التنمية الجديد، الذي قدم أكثر من 50 مليار دولار وموّل نحو 96 مشروعاً تجاوزت قيمتها 33 مليار دولار، كما قدّم للدول كل ما تحتاجه ضمن إطار السيولة المفقودة، خصوصاً في "الأوقات الحرجة" الأمر الذي أثار حفيظة الرئيس بايدن وقلقه، فسارع إلى المطالبة بإصلاحاتٍ جوهرية خلال قمة مجموعة الـ 20 القادمة في سبتمبر/أيلول القادم، وبتعديل نظام البنك وصندوق النقد الدوليين، والتحرك الفوري لدعم الدول في مسألة ميزان المدفوعات والسيولة الدولارية في الأوقات الحرجة.
ومع انتهاء القمة يوم الخميس 24آب/أغسطس، بدا واضحاً أن سقف طموحات قمة "البريكس" ومستقبلها جاء أعلى مما توقعه فريق الولايات المتحدة والدول الغربية، بالتوازي مع توسع المجموعة وانضمام عدة دول نفطية كإيران والإمارات والسعودية بحضورها السياسي والاقتصادي، كذلك مع انضمام الجزائر لاحقاً وبما تمثله من بعدٍ على مستوى الطاقة والغاز في ظل الحرب والعقوبات على روسيا. وعليه، فإنه مع انضمام هذه الدول ستحظى دول المجموعة بكاملها برافعةٍ أساسية بالمعنى الاقتصادي – السياسي – المالي، خصوصاً مع حصول الانسجام والتوافق بين تلك الدول حول القضايا الدولية الدقيقة والهامة.
كما لوحظ من خلال المناقشات، ونتيجةً لتباين الآراء حول تحديد معايير الانضمام، فقد طفت على السطح بعض التناقضات بين الهند والصين حول آلية وشروط قبول الأعضاء الجدد في المجموعة، والتي توزعت ما بين ضرورة حفاظها على حيادها السياسي ودفاعها عن مصالحها الاقتصادية، أو بكونها دولاً حاضرة ومستعدة لقبول التحول السياسي إلى قوة سياسية لمواجهة الولايات المتحدة.
في وقتٍ أكد رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا أن بلاده تدعم توسيع المجموعة، لكن يبقى من الضروري أن يتجه سعي دول "البريكس" أولاً نحو تعزيز علاقاتها مع الدول التي تم قبول انضمامها اليوم، وتلك التي تخطط للانضمام لاحقاً، باعتبار أن الرغبة في الانضمام تنبع من المطالبة بنظام أكثر إنصافاً للعلاقات الدولية والإجماع على "معارضة النظام أحادي القطب".
إلى جانب استياء واشنطن وقلقها من تنامي قدرات مجموعة "البريكس"، فإنها تتخوف من تحوّل تأثيرها الاقتصادي إلى تأثير سياسي سيجعل منها خلال وقتٍ قياسي قوةً كبيرة قادرة على الحد من الهيمنة الأميركية والغربية وأقله منافستها، الأمر الذي يؤكد تحجّر الفلسفة السياسية للغرب والتي ترى أن "البريكس" ستكون مجموعة منافسة ومعادية لمجموعة السبع، وفضحت بذلك امتلاكها ذهنية عاجزة عن استيعاب أن سعي "البريكس" لإقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يهدف إلى حل المشكلات العالمية والإقليمية، وليس لجعلها موضوعاً للمنافسة "الخشنة "بين الكتل المتعادية.
ومع انتهاء قمة جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، أعرب قادة مجموعة "البريكس" في بيانهم الختامي عن قلقهم بشأن استخدام التدابير الأحادية الجانب، التي لا تتفق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وتؤدي إلى عواقب سلبية خاصة في البلدان النامية، ودعوا إلى الحد من التسلح، وإلى استخدام العملات الوطنية في التجارة الدولية، وإنشاء نظامٍ دولي متعدد الأطراف ديمقراطي وخاضع للمساءلة، وجددوا دعمهم لإرساء نظام عالمي للتجارة الدولية، على أن يكون نزيهاً وقائماً على قواعد منظمة التجارة العالمية.
كذلك، أكد البيان "ضرورة حل المشكلة النووية الإيرانية من خلال الوسائل السلمية والدبلوماسية، ووفقاً للقانون الدولي"، ودعت المجموعة إلى تعزيز الحد من التسلح ومنع الانتشار، بما في ذلك اتفاقية حظر استحداث الأسلحة البيولوجية والكيميائية وإنتاجها وتخزينها، وتدمير تلك الأسلحة، بالإضافة إلى تأكيد البيان التزام المجموعة بتعزيز التعاون في مجال الزراعة وتطويرها لتحسين الأمن الغذائي. كما أعربت المجموعة عن دعمها الكامل لروسيا، ومهمتها برئاسة المجموعة في عام 2024، واستضافتها للقمة السادسة عشر في مدينة قازان الروسية.
ومع نهاية القمة، وفي اللحظات الأخيرة لإسدال ستارها، وبعد الاتفاق على شروط العضوية، تمت دعوة ست دول هي الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للمشاركة في آلية تعاون "البريكس".