حقوق الإنسان و"الإمبريالية الإنسانوية".. عن سلوك الغربي في أزمة أوكرانيا

العنصرية كإطار إدراكي للحضارة وللمجتمع الغربيين في القرن التاسع عشر أثّرت في بنية القانون الدولي.

  • حقوق الإنسان و
    حقوق الإنسان و"الإمبريالية الإنسانوية".. عن سلوك الغربي في أزمة أوكرانيا

ما إن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إطلاق عملية عسكرية روسية خاصة ذات أهداف محددة، تتمثل في ضمان حياد أوكرانيا ونزع سلاحها والقضاء على النازية الجديدة، حتى كشف الغرب وجهه القبيح بلا أدنى تعديل أو خجل إزاء حقوق الإنسان، وأظهر صورة مخالفة تماماً لسردياته الرومانسية عن الحرية، واحترام الآخر، والتعددية، والمساواة، وتحريم العنصرية.

قام المركز الإمبريالي الذي يدعي الإنسانوية باستبعاد شبكات وقنوات البث الروسية ومنع الوصول إليها، وحظر في وسائل الإعلام وفضاوات التواصل الاجتماعي أي إمكانية للتعبير أو محاولة للاطلاع على وجهة النظر الروسية، فضلاً عن أن بعض الجامعات الغربية منعت محاضرات حول دوستويفسكي، وحظرت الفن والموسيقى الروسيين. 

كذلك، سمحت شبكات التواصل الاجتماعي بخطاب الكراهية والحض على العنف ضد روسيا والروس، وظهرت في الإعلام الغربي نزعة عنصرية واضحة، فهناك من تحدّث عن الأوكرانيين ومأساتهم بحزن وألم، على أساس أنهم بيض وزرق العيون وجزء من أوروبا والأوروبيين، وهناك من ذكر أن أوكرانيا كدولة متحضرة نسبياً ليست كالعراق غير الأوروبي وغير المتحضر بسبب انتمائه إلى ثقافة غير أوروبية.

واللافت أن المركز الإمبريالي الغربي الذي يتزيا عادة بثوب حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية دعم، وما زال يدعم، مجموعات من النازيين الجدد في أوكرانيا، أسوة بما فعله في سوريا، وأشرف على تنفيذ برنامج أسلحة جرثومية وبيولوجية مع السلطة الحاكمة في أوكرانيا لإنتاج جراثيم وفيروسات تتفاعل مع التكوين الجيني للشعوب السلافية.

 الأسئلة التي تؤرق الناس: كيف لمعسكر يدعي أنه قلعة حماية حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية والإبادات الجماعية أن يسلك المسلك المذكور؟ وهل تلك المواقف الغربية مجرد ردود فعل ومواقف عرضية أم هي مؤسسية وبنيوية؟ ثم كيف نفهم دفاع الغرب عن حقوق الإنسان ودعمه منظمات غير حكومية في دول كثيرة وسلوكه العنصري واللاإنساني في أثناء الأزمة الأوكرانية؟

والأهم من ذلك كله أن المبهورين بالغرب أو "الغربويين" الهائمين به في بلداننا قرَّعوا رؤؤسنا ليلاً ونهاراً بحيوية الشعوب الغريبة وديناميكيتها وحساسيتها لحقوق الإنسان، وهو ما لم نلمس أي أثر له في مواجهة الإجراءات الغربية المتعارضة وحريات وحقوق أساسية في أثناء الأزمة الأوكرانية، فلم تخرج التظاهرات، ولم ترتفع الأصوات المنكرة والمستنكرة، فلماذا؟ وما السبب؟ وهل الخطاب الغربي حول مسائل حقوق الإنسان هو مجرد نفاق وكذب وازدواجية في المعايير لأسباب مصلحية أم أنّ وراءه أسباباً وميكانيزمات عضوية وبنيوية تتجاوز ذلك؟ 

الواقع أن تماهي الإمبريالية الغربية ظاهرياً مع حقوق الإنسان مرده إلى أن تلك الإمبريالية تتخذ من الإنسانوية هوية وأيديولوجيا لها، لأسباب كثيرة سنتناولها تباعاً في هذا المقال.

حقوق الإنسان أداة لتفكيك وتجريد الإنسان من هويته الجماعية

النموذج الحضاري الحداثي الغربي هو نموذج استعماري - إمبريالي، وهو نموذج بات اليوم قائماً على نيوليبرالية متشدّدة وعلمانية مغرقة في العلمنة والترشيد، وفق الدكتور عبد الوهاب المسيري. فالإمبريالية الغربية الإنسانوية تتبنى اليوم النيوليبرالية بصورة مطلقة وكدين وأيديولوجيا لها، وهي تسعى لعولمة العالم، والسوق، والتجارة، والاستهلاك واختراق سائر المجتمعات لتختط نهجها النيوليبرالي؛ فتصبح أرضاً جاهزة ومادة استعمالية لها. 

والليبرالية المعلمنة والنيوليبرالية الأشد علمنة تقومان -كما هو معروف- على فكرة محورية مؤداها تجريد الإنسان من هويته الجماعية، وتحويله من شخص جماعي إلى مجرد فرد منعدم الهوية؛ فرد استهلاكي لا طعم ولا لون ولا رائحة له. بالطبع، عند تجريد الإنسان من هويته الجماعية، ستتفكك الروابط المجتمعية، وستزول الصفة الإنسانية المقدسة عند البشر، وستصبح ملذات الفرد وغرائزه المادية محور الحياة.

انطلاقاً من الفكرة السابقة، يمكننا فهم الإصرار الغربي على تدويل المقاربة الغربية والتفسير الليبرالي لحقوق الإنسان، خصوصاً أن تلك المقاربة وهذا التفسير يرتكزان على نموذج مادي غربي معلمن يخلو من أي قيمة وينظر إلى الإنسان كمادة استعمالية لا كذات تتمتع بهوية جماعية. الإنسانية كما نفهمها - كعرب وكمشرقيين - تشير إلى الإنسان كقيمة ضمن سياق اجتماعي أكبر، لا كوثن ووحدة فردية حلّت في مركز عالم منزوع القداسة. 

ما أقصد قوله هنا أن النيوليبرالية في معركتها للاستيلاء على العالم تتخذ من المقاربة الغربية الرأسمالية لحقوق الإنسان مطية لإفراغ الإنسان من ارتباطاته الاجتماعية، ولتجريده من هويته الجماعية، وتحويله إلى فرد، مجرد فرد استهلاكي لا هدف له في الحياة سوى إشباع غرائزه وملذاته، وجعله مركزاً لعالم نزعت منه وعنه القداسة، ليصبح ذلك الفرد بما يحمل من تطلعات مادية وغرائزية محور التجارة وانتقال السلع في العالم.

فالحداثة الغربية المتماهية مع الكولونيالية أو الإمبريالية الإنسانوية والنيوليبرالية، لم تعد - كما كانت قبل قرون- متمركزة حول الإنسان، ولم يعد الإنسان بصفته تلك هدفها ولا محورها، لكنها أضحت اليوم حداثة متمركزة حول المادة، وغدا العلم أساس التعامل مع العالم، وأصبح العالم خالياً من أي قيمة إلا الاستغلال والربح ومراكمة رأس المال وتوظيف كل شيء كمادة استعمالية، بما في ذلك الإنسان وحقوقه وحرياته.

 من الطبيعي، وكنتيجة لذلك، أن تتحول منظومة حقوق الإنسان لدى المعسكر الغربي الإمبريالي من الإنسان وعنه إلى كونها أداة للتسخير والربح والإمبريالية، فضلاً عن تسخير القانون الدولي برمته -بحسب المقاربة الرأسمالية الغربية له- لمصلحة النموذج الإمبريالي الغربي. وما يتبادر إلى الذهن: كيف توظف الإمبريالية الغربية حقوق الإنسان بعد تجريد الإنسان من هويته الجماعية؟ وكيف تستفيد من ذلك؟

حقوق الإنسان وسيلة لإعادة التركيب المعلمن والمعولم

لا شك في أن الحضارة الغربية الحديثة حضارة داروينية، تمجّد فكرة البقاء للأصلح، وتتحذ من القوة شعاراً، ومصلحتها هي المعيار الأوحد - كما يذكر الدكتور المسيري- للحكم على الظواهر. وبصرف النظر عن سرديات تلك الحضارة فيما خص الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان وكرامته، فإنها في جوهرها حضارة إمبريالية وكولونيالية وعنصرية تتمركز حول نفسها، وهي لا ترى الآخر إلا مادة استعمالية ذات أدوار وظيفية وقابلة لإعادة التركيب والتشكيل وفق النموذج الذي يخدمها.

دعونا نمعن النظر أكثر في الحضارة الغربية وحداثتها حتى نفهم على نحو أعمق ارتباط مشروعها الإمبريالي بحقوق الإنسان. المتحدثون باسم الحضارة الغربية، سواء أكانوا فلاسفة أم ساسة أم مثقفين أم غيرهم، لا يتوقفون عن الثرثرة في حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل.

 لكن الحضارة الغربية بوجه عام ليست راغبة ولا قادرة على مواجهة حقيقة أنها حضارة داروينية وعنصرية واستعمارية تجرد الإنسان من هويته لاستعماله وتوظيفه. ولهذا، نرى أن الخطاب الحقوقي والقانوني الغربي ما عاد خطاباً شمولياً في مسألة حقوق الإنسان، فهو كنتيجة استخدامه منظومة حقوق الإنسان لتجريد الإنسان من هويته الجماعية، ما طفق يتحدّث عن حقوق قطاعية، مثل حقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق الأقليات، وحقوق مجتمع الميم، وحقوق الشاذين جنسياً (وهم المثليون بحسب المصطلح الغربي)، وحقوق المتحوّلين جنسياً.

عملية تجريد الإنسان من هويته الجماعية والنظر إليه كعضو في أقلية، أو كشاذ أو متحوّل جنسياً أو جندرياً، هي عملية مقصودة من قبل الإمبريالية الإنسانوية وعقيدتها النيوليبرالية، بغية إعادة تركيب الكائن الإنساني الذي جرد من هويته وترشيده وفق أعلى درجات الترشيد العلماني الغربي وعولمته، ليصبح مجرد أداة للاستهلاك والاستغلال عابرة لحدود المجتمعات والإنسانية، ومفتقرة إلى أي حدود قيمية تحول دون ترسيخ الإنسان مادة استعمالية وأداة وظيفية في خدمة الإمبريالية الغربية والرأسمال الغربي.

إن حقوق الإنسان التي هي في حقيقتها وجوهرها أوسع من مجرد حريات فردية أساسية، وأبعد من مجرد حدود دنيا لحماية المتطلبات المعيشية والحياتية للفرد، هي برنامج لإصلاح العالم تكون فيه كرامة الإنسان هي أساس النظام الدولي، وتستبدل فيه حصانة الدول وسيادتها بسلطة العدالة وسيادة القانون الدولي.

هذا التصور الأساسي لحقوق الإنسان ليس التصور الذي يروجه الخطاب الإمبريالي الأنسانوي، بل على النقيض من ذلك يرى في حقوق الإنسان وسيلة لنمذجة البشر وفق النسق الغربي، بما يسهّل ترشيد سلوكه والسيطرة عليه وتوظيفه كمادة استعمالية، فلو كان الفهم الغربي الحديث لحقوق الإنسان مخلصاً لمفهومها الأساسي، لما شاهدناه يمنع الناس من الاستماع إلى وجهة النظر الروسية في النزاع الأوكراني، فضلاً عن أن النزعة العنصرية التي سادت الإعلام الغربي إزاء الآخر، سواء أكان روسياً أم صينياً أم مسلماً أم عربياً، هي نزعة عنصرية فجة، وإلا لما كان له أن يبرر جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والعدوان التي ارتكبت من جانبه، أو من جانب حلفاء له أو جماعات إرهابية قام برعايتها تمويلية في بلدان عديدية في مقدمها، فلسطين، والعراق، وسوريا، واليمن.. ولما كان الخطاب الغربي خطاباً عنصرياً، ولما كانت الحضارة الغربية حضارة استعمارية، كولونيالية متوحشة، وهل بمقدورنا أن ننظر إلى حقوق الإنسان التي تتبناها الإمبريالية الإنسانوية الغربية كأيديولوجيا لتبرير السلوك الوحشي ضد الآخر وكبديل أخلاقي ليوتوبيا سياسية غربية مفلسة وفاشلة، كما يرى صموئيل موين؟

حقوق الإنسان كأيديولوجيا أخلاقية بديلة من فشل اليوتوبيا الليبرالية وتوحشها

يرى صموئيل موين في كتابه "اليوتوبيا الأخيرة تاريخ حقوق الإنسان" أن الفهم الصحيح لنشأة حقوق الإنسان، ليس متيسراً من دون النظر إليها كيوتوبيا، وأنها بمنزلة كينونة اكتسبت عوامل بقائها من صفتها اليوتوبية التي ترتكز على كونها بمنزلة "الإله" الذي لم يفشل حينما أخفقت الأيديولوجيات السياسية الأخرى، فهي بديل أخلاقي لليوتوبية الليبرالية الغربية الفاشلة والمفلسة في آنٍ معاً. وبدل أن نتتبع الأسباب التي جعلت الإمبريالية الغربية الحديثة تتخذ حقوق الإنسان كأيديولوجيا أخلاقية بديلة من اليوتوبيا الليبرالية وتوحشها، من الضروري أن نوضح المقصود باعتبارها بديلاً أخلاقياً من فشل الأيديولوجيا الليبرالية.

 لقد أزاحت الحداثة الغربية الله من مركز العالم، ثم أعلنت موت الإنسان، ونزعت القداسة من العالم وعنه، وأصبحت تنظر إلى الحياة والكون نظرة مادية ووظيفية محضة، بمعنى أن الحلم الليبرالي الغربي لم يحقق وعوده التي أعلنها في الإرهاصات الأولى له، وتحوّلت الليبرالية الغربية إلى أيديولوجيا متوحشة قائمة على استعمار الشعوب، واستغلال البشر، وتدمير الإنسان، ولم تحقق أياً من مزاعمها حول الحرية والعدالة والرفاه والكرامة. لذلك، تلقفت الإمبريالية الغربية الحديثة فكرة حقوق الإنسان كبديل أخلاقي وأيديولوجي من توحش الليبرالية والحداثة وإخفاق اليوتوبيا السياسية الغربية.

لقد تبنت الإمبريالية الغربية حقوق الإنسان كأيديولوجيا أخلاقية لها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وليس في منتصف الأربعينيات، كما يشيع في الخطاب القانوني. والسؤال: لماذا كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، ولم يكن في منتصف الأربعينيات، حين جرى إقرار ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟

ثمة أسباب وعوامل مختلفة وراء ذلك، أبرزها بحث القارة الأوروبية عن هوية أوروربية خارج سياق الحرب الباردة، والتغير الليبرالي في السياسة الخارجية الأميركية عقب هزيمتها في فيتنام وفشلها في السيطرة عليها، وانهيار سائر اليوتوبيات الغربية السياسية التي وعدت بالازدهار والتحرّر، وفي مقدمها الليبرالية الغربية، وبروز الولايات المتحدة كراعٍ للتوحش الغربي.

 لقد كانت منظومة حقوق الإنسان مرغمة على النهوض بالمهمات السياسية الكبيرة التي كانت تقوم بها اليوتوبيات السياسية السابقة لها قبل فشلها، فوجدت فيها الإمبريالية الغربية إطار عمل عالمياً جذاباً لتحقيق الحرية والرفاه والرخاء. لذلك، نحت منظومة حقوق الإنسان شيئاً فشيئاً نحو الراديكالية والأدلجة والدوغمائية والغلو، وكان ذلك طبعاً تحت تأثير صيرورتها بديلاً أخلاقياً وأيديولوجياً للغرب الرأسمالي من فشل أيديولوجياته السابقة عليها، ومن توحش النيوليبرالية وقسوة الاستعمارية الغربية. 

وما يعزّز هذه الفكرة حقيقة أن مصطلح "حقوق الإنسان" ظهر بقوة في لقاء روزفلت - تشرشل غي مؤتمر آركاديا. وقد جاء في الإعلان الصادر عقب انتهاء اللقاء الآتي: "يعبر الحلفاء عن اقتناعهم بأن الانتصار التام على أعدائهم أساسي للدفاع عن الحياة، والحرية، والاستقلال، وحرية الاعتقاد، وحماية حقوق الإنسان والعدالة في بلادهم والبلاد الأخرى"، فحقوق الإنسان تبناها المعسكر الغربي مذ بدأت بالظهور في الخطاب القانوني الغربي كشعار للحرب، بغية إضفاء الشرعية على أي عمل عسكري عدواني، ولتبرير وجوب انخراط الغربيين في صراع مشترك ضد القوى الهمجية المتوحشة التي تهدف إلى إخضاع العالم".

لو عدنا إلى الأزمة الأوكرانية، وكذلك إلى الحرب على العراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، واليمن، لوجدنا أن المعسكر الغربي الإمبريالي سعى عن قصد إلى إظهار رؤساء روسيا وسوريا والعراق، وقادة المقاومة الفلسطينية، وقيادة حزب الله وأنصار الله، بمظهر المتوحشين.

 وبينما روج عالمياً صورة عن وحشية الشعوب الروسية والسورية والعراقية والفلسطينية، ومؤيدي حزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن، سوّق نفسه على أنه حامي حقوق الإنسان، والمدافع عن الحضارة والتمدن والديمقراطية، وأن دعمه جماعات ودولاً مجرمة تمارس التوحش، وتزويدها السلاح وتدريبها، كلّ ذلك هو من قبيل دعم حقوق الإنسان والديمقراطية، أي إنه وظف، وما زال يوظّف، حقوق الإنسان شعاراً أخلاقياً وأيديولوجياً إنسانوياً يواري نزعته الاستعمارية وتوحشه وإفلاس النموذج الحداثي - النيوليبرالي.

لم يقف هذا التوظيف القبيح لحقوق الإنسان عند حدود المعسكر الإمبريالي الغربي، فقد أدى شعار الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية في الحرب على سوريا إلى اصطفاف "منظمات الأنجزة" والمنظمات الحقوقية العربية إلى جانب الموقف الغربي. 

وسواء أكان ذلك الاصطفاف مقصوداً أم كان سببه الغفلة، فإن تصوير الحرب على سوريا كحرب للدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطي، صبّ في مصلحة المخطط الإمبريالي الغربي ضد سوريا والقوى التحررية الداعمة لها. وفي الأزمة الأوكرانية، لجأ الغرب إلى الحيلة نفسها، فبات من يقف مؤيداً لروسيا شخصاً مناهضاً للحرية وحقوق الإنسان وسيادة الدول.

 تستثمر الإمبريالية الإنسانوية الغربية حقوق الإنسان لمواراة حقيقتها ووحشيتها وإفلاسها الإنساني. وما يؤكد ذلك أن حركة حقوق الإنسان الغربية في الأمم المتحدة كانت منفصلة تماماً عن حركة مناهضة الاستعمار، وكان كل منهما متمايزاً في الأمم المتحدة عن الآخر، لا ثمرة له.

التمايز بين حركة حقوق الإنسان وحركة مناهضة الاستعمار

ثمة اتجاه واسع بين دارسي تاريخ حقوق الإنسان يؤكّد انفصال حركة حقوق الإنسان عن حركة مناهضة الاستعمار في الأمم المتحدة، بل يذهب هذا الاتجاه أبعد من ذلك بقوله: إن ظهور حقوق الإنسان أدّى إلى إزاحة حركة مناهضة الاستعمار وتخفيف تأثيرها، لأن حركة حقوق الإنسان أدّت إلى فرض منظور جديد للعلاقة بين النزعة العالمية الغربية والنضال العالمي.

لا شك في أن هذا المنظور الجديد هو السبب الفعلي الذي منع التمازج بين حركتي مناهضة الاستعمار وحقوق الإنسان، فلكل واحدة منهما مقاربتها الخاصة بها إزاء العلاقة بين النضال العالمي والنزعة العالمية الغربية.

تتبنى حركة مناهضة الاستعمار الكفاح المسلح ضد الاستعمار والاحتلال ونظم الفصل العنصري، وهي لا تؤمن بأن الكفاح الناعم والسلمي وحده كافٍ لوضع حد للنزعة الاستعمارية الغربية القائمة على شعار براق، هو رغبة الغرب في إقامة نظام عالمي موحّد للبشرية. أما حركة حقوق الإنسان، فهي وإن كانت تعترف بالحق في تقرير المصير، إلا أنها لا تؤمن بغير الكفاح السلمي، فضلاً عن أنها تؤمن بفكرة العالمية بالمفهوم الغربي انطلاقاً من مفهوم ملتبس عن عالمية حقوق الإنسان. 

يرى صموئيل موين بشأن العلاقة بين حقوق الإنسان والحق في تقرير المصير أن تلك العلاقة هي علاقة توازن هيدروليكي؛ فبالقدر الذي يتقدم فيه أحدهما ينحدر الآخر. على سبيل المثال، أعلن الميثاق الأطلسي لعام 1941 حق تقرير المصير وأكده، لكنه في المقابل لم يشر إلى حقوق الإنسان كجزء من أهداف حرب الحلفاء. 

طبعاً، هذا التأكيد على حقّ تقرير المصير جاء على الرغم من اختلاف دلالة الحق عند روزفلت عنه لدى تشرشل، فالأخير يرى فيه وسيلة للتحرّر من إمبراطورية هتلر. أما الأول، فكان يعني التخلّص من الاستعمار البريطاني والفرنسي لتحل محلّه الولايات المتحدة في الهيمنة الإمبراطورية على العالم.

قصارى القول هي أن ما يعتقده الكثيرون بشأن العلاقة بين حقوق الإنسان وحركة مناهضة الاستعمار ليس دقيقاً ولا صائباً، ولا ينبغي أن نفهم من ادعاء الإمبريالية الإنسانوية حماية حقوق الإنسان أنها تعمل لمصلحة مناهضة الاستعمار والتحرّر منه.

إن أيّ محاولة لإدخال مناهضة الاستعمار في سياق تاريخ حقوق الإنسان تصطدم حتماً بحقيقة أنَّ حركة مناهضة الاستعمار دعمت نموذجاً عالمياً إنسانياً محضاً لحقوق الإنسان، وسعت لتضمين مناهضة الاستعمار مفهوماً آخرَ لحقوق الإنسان، مخالفاً لمفهوم الإمبريالية الغربية.

ولكن حركة حقوق الإنسان الليبرالية الغربية لم يكن في واردها مطلقاً أن تجعل مناهضة الاستعمار جزءاً من حقوق الإنسان، بل على العكس من ذلك، كانت، وما زالت، تستدعي منظومة حقوق الإنسان لحاجتها إلى تبرير السلوك الوحشي الغربي وقسوة الإمبريالية الرأسمالية الغربية ضد "الغير" أو "الآخر"، فاستدعاؤها من جانبها بمنزلة زي لإخفاء الوجه الحقيقي المرعب للإمبريالية الغربية وحداثويتها، لما تحملانه في ثناياهما من توحش وقبح.

إذا كانت العنصرية - كما يؤكد الدكتور المسيري - من أهم الأطر الإدراكية للحضارة الإمبريالية الغربية في القرن التاسع عشر، فإنها بلا شك تركت أثراً كبيراً في القانون الدولي الغربي، بما في ذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان، وإن كان ذلك خفيا،ً وليس ظاهراً بسهولة للعيان.

العنصرية كإطار إدراكي للحضارة وللمجتمع الغربيين في القرن التاسع عشر أثّرت في بنية القانون الدولي، ومن خلال أكثر من مفهوم أبرزها: فكرة مبادئ القانون المعترف بها من أمم متمدنة كمصدر للقانون الدولي ولحقوق الإنسان الدولية بالنتيجة، المهمة الحضارية الموكولة إلى أوروبا من أجل تمدين الشعوب غير الأوروبية وكانت حينذاك ذريعة للاستعمار، صياغة أحكام القانون الإنساني الدولي وفق النموذج والفهم الغربيين وبما يخدم مصالح الغرب، ومن قبيل ذلك الشروط التي يفرضها هذا القانون لحماية المقاتل، ومن بينها العمل بأحكام القانون الإنساني الدولي وحمل السلاح جهاراً، ووجود تدرج هرمي للجماعات المسلحة على شاكلة الجيوش الغربية، ومشروعية الاستعمار في القرن التاسع عشر في ظل القانون الدولي التقليدي على أساس أن الشعوب غير الأوروبية مجرد سكان أصليين يفتقرون إلى تنظيم سياسي يتيح لهم ممارسة سيادة على أراضيهم، فتكون تلك الأراضي بلا سيد ويجوز استعمارها بوضع اليد.

 أما في القرن العشرين، وفي ظل حقبة القانون الدولي المعاصر لا التقليدي، فما زالت العنصرية كإطار إدراكي للغرب تترك آثارها فيه من خلال مؤسسات ومفاهيم قانونية عديدة، أبرزها النموذج الرأسمالي والليبرالي في فهم حقوق الإنسان وتفسيرها، فكرة حقوق السكان الأصليين، التدخل الإنساني كوسيلة لشرعنة استخدام القوة بصورة منفردة من جانب الدول حماية لحقوق الإنسان الأساسية في دولة أخرى، وهي فكرة كانت مشروعة في القرن التاسع عشر تحت مسمى "التدخل لمصلحة الإنسانية"، والإرهاب وإلصاقه بثقافات وشعوب دون غيرها، والحروب بالوكالة أو من خلال جماعات وميليشيات قامت الولايات المتحدة بتدريبها وتمويلها ورعايتها، والاستخدام الانتقائي للقانون الدولي الجنائي ضد دول العالم الثالث، وشرعنة وجود الكيان الصهيوني والاستيلاء على فلسطين والاعتراف بذلك من خلال الأمم المتحدة وأجهزتها.

 وأخيراً، هناك الصمت المطبق إزاء دول شنّت عدواناً غير مسبوق في التاريخ على اليمن وشعبه، وارتكبت بحقه من الجرائم الدولية ما يفوق التصور، وما زالت تنعم بحماية ورعاية الدول الغربية التي تقف بصلابة وصلادة من دون محاكمة مسؤوليها المتورطين في تلك الجرائم. كل ذلك يجري باسم حقوق الإنسان والديمقراطية، ودفاعاً عنهما، على حساب حق الشعوب في التحرر وتقرير المصير.

ماذا بعد؟

الحقّ أن هدفنا الأساسي في هذا المقال ليس انتقاد فكرة حقوق الإنسان نفسها، ولا الانتقاص من وجوب حماية تلك الحقوق، فهدفنا هو الدفاع عن حقوق الإنسان والوقوف في وجه استخدامها واستثمارها اللاأخلاقي من جانب الإمبريالية الإنسانوية الغربية. حقوق الإنسان ليست إرثاً يمكن تسجيله باسم حضارة دون الأخرى أو باسم ثقافة دون غيرها، وهي ليست اختراعاً ولا ابتداعاً جاءت به أمة دون الأمم، وهي ليست اكتشافاً أوروبياً ولا غربياً يسجل باسم حضارة معينة، ويورث لأجيالها جيلاً بعد آخر، ولكنها ثمرة لحضارات إنسانية مختلفة، يجب اليوم، بعد استئثار الإمبريالية الإنسانوية الغربية بها، العمل لإعادة تكوينها وتشكيلها بغية الوصول إلى عالم أفضل، قيمه الأساسية هي العدل والكرامة والمساواة.

لا شك في أن حقوق الإنسان كيوتوبيا توارى خلفها المعسكر الغربي النيوليبرالي الاستعماري، وقام بتشكيلها بصورة تخدم مراميه وغاياته، أثبتت ضلالها وفشلها أو على الأقل هشاشتها، وباتت جلية وواضحة لكلِّ ذي عقل وبصيرة.

 لذلك، لا مفر من إعادة تشكيلها. عملية إعادة التشكيل تلك يستحيل أن تجري من خلال الغرب ومنظومته الاستعمارية أو كولونياليته الحداثوية، فهو لن يقبل بمنظومة حقوق الإنسان إلا وفقاً لنموذج النيوليبرالي المعلمن والمعولم، ولن يرتضي بها إلا كأداة يستطيع من خلالها تحويل البشر إلى مادة استعمالية وكائنات استهلاكية.

إنّ إعادة التشكيل إذاً ستجري من خلال الحضارات والثقافات غير الغربية بعد تبدل المركز الحضاري وانتقاله من الغرب الإمبريالي إلى حضارات أخرى ذات قيم مرجعية مختلفة، لم تنزع القداسة عن العالم، ولم تعلن موت الإله والإنسان؛ حضارات أخرى تقوم منظومتها التشريعية على دعامتي الأخلاق والعدل، وتنحو نحو تحقيق مقاصد وغايات كبرى، في مقدّمها كرامة الإنسان أينما كان واحترام كينونته، فإعادة تشكيل منظومة حقوق الإنسان تستدعي وجود شرائع قوامها العدل والقسطاس، وجوهرها أن حقوق الإنسان ليست مجرد مزايا ورخص يعترف بها القانون الوضعي، وليست رد فعل راديكالياً على ظروف تاريخية عاشتها بلدان معينة، بل هي جوهر وقيمة متعالية مرتبطة بحضارة ذات روحية إنسانية وأخلاقية تؤمن بحرمة المرء وقداسته، وأنه ليس مجرد مادة استعمالية، وأن تلك القداسة مستمدة من تكريمه وكرامته. والسؤال: هل تكون عملية إعادة التشكيل فعلاً؟

 دعونا نتأمل الواقع والمستقبل، ونأمل بعالم أفضل متعدد الحضارات والثقافات، وذلك لن يكون قبل تبدل المركز الحضاري. ويبدو أننا اليوم نعيش إرهاصات ذلك الانتقال الحضاري. وما حال الجنون التي أبداها المعسكر الغربي الإمبريالي بشأن الأزمة الأوكرانية والحرب الروسية الأميركية غير المباشرة سوى علامة دالة على ذلك.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.