حادثة شخصية مع يائير لبيد منذ 35 عاماً قد تشي بنفسيته السياسية؟!

كان ذلك في العام 1989، بعد تخرجي من جامعة "تل- أبيب"، وتكوين الباع المقبول في الكتابة الصحافية باللغة العبرية أولاً.

  • حادثة شخصية مع يائير لبيد منذ 35 عاماً قد تشي بنفسيته السياسية؟! 
    حادثة شخصية مع يائير لبيد منذ 35 عاماً قد تشي بنفسيته السياسية؟! 

رويداً رويداً القراء الأعزاء... فالسياق مهم؛ لأن ما حصل لنا كشعب فلسطيني من تفكيك وتشريد كانت له آثار اجتماعية وجغرافية و سياسية طاغية منذ النكبة. هذه الحادثة الشخصية حصلت قبل أكثر من ثلاثة عقود عندما كنت أعيش في مسقط رأسي يافا، وكنت صحافياً في مطلع العشرينيات من العمر. 

كنا على معرفة استقطابية من ذي قبل، ولكن عن بُعد، لكوننا من النجوم الصاعدين في الإعلام العبري في منتصف الثمانينيات في "تل-أبيب" على وجه التحديد. هو من عائلة يهودية أوروبية نجت من "المحرقة"، واستوطنت وطني فلسطين ليصبح "إسرائيلياً" يمينياً يكتب في صحيفة "معاريف" اليمينية. وأنا عربي، فلسطيني، يساري من يافا، من الأقلية التي أصبحت من "نُجاة النكبة" في غرب فلسطين، وتحديداً في محافظة يافا التي وصل عدد سكانها إلى 150 ألفاً، إلا أنهم طردوا ليتقلص عددهم إلى نحو3500 نسمة!

لم أعرف أنه (يائير لبيد) كان ليحضر ذلك المؤتمر، ولم يخطر الموضوع في بالي أبداً، إذ لم يكن مراسلاً حزبياً، وكنت أنا أغطي كل ما يتعلق بالحياة السياسية. لم أهتم، ولم ألحظ مِن خَلف جمجمته مَن الذي جلس في الصف الأمامي قبالة (وهنا المفاجأة) السفاح آرييل شارون ورفاقه الليكوديين الذين كانوا في الحكم. لكن، في القاعة المكتظة، في شمال "تل-أبيب" (وعلى أنقاض قرية "جماسين" الفلسطينية المهجرة)، التي اجتمع فيها قادة الحكومة الإسرائيلية من الليكود، ودُعي إليها العديد من الصحافيين المحليين والعالميين (والتي بمثابرتي وعنادي نجحت في الدخول إليها، رغم أن ذلك لم يكن أمراً عادياً لصحافي عربي في تلك الفترة)، لم يكن هناك سوى مقعد شاغر واحد، وكان ذلك في الصف الأمامي، وبالتحديد، إلى جانب صاحب "الرأس الكبير". فليكن إذاً. 

ما بين "رغبتي" بالتحديق في شارون، والتمعن به عن بُعد مترين بكل ما يمثله لأي إنسان، وبالتحديد لي كفلسطيني بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، وتحدياً لكل من هم مثله، ارتفع -كما يبدو- الأدرينالين في جسدي ليرافق جينات الجرأة حتى وضعت نفسي عبر القفز والدفع في ذلك المقعد الشاغر. كان جميع الحضور في حالة تركيز تجاه المنصة، ولم يكترث أحد من الموجودين لما قمت به (فالجميع مر بفحص أمني مشدّد) سوى صاحب "الرأس الكبير" الذي جلس إلى يمين المقعد الشاغر. وبسرعة، التفت نحوي مكتشفاً من أنا، فغضب وبدأ السم ينضح من مسامات وجهه، مبدياً الكراهية التلقائية والحقد تجاهي. لغة الجسد الموجهة نحوي كانت مقيتة وعدائية. لم يكن هذا الشخص إلا يائير لبيد بذاته، الصحافي آنذاك في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية اليمينية (بالعبرية). 

كان ذلك في العام 1989، بعد تخرجي من جامعة "تل- أبيب"، وتكوين الباع المقبول في الكتابة الصحافية باللغة العبرية أولاً (ولكن، مع "خطيئتي" في فضح "الجيش" الإسرائيلي، و زفّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى صحافياً إلى العالم عندما كنت أكتب في ملحق جريدة "هآرتس" بالعبرية في تل -أبيب ("هعير" - المدينة)، كان لبيد وأنا من الجيل ذاته، إلا أن صحيفته كانت بوقاً مناهضاً من الأبواق التي شنت ضدي هجوماً كاسحاً بعد فضحي للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه في قطاع غزة آنذاك. 

هذه الحكاية قفزت إلى مخيلتي عندما تابعت البث المباشر، وشاهدت لبيد يتبادل المقاعد ويتناوب مع بينيت (ليلة 29 حزيران/يونيو 2022) ليصبح رئيساً لحكومة الاحتلال الإسرائيلي. 

 منذ أن أسس لبيد حزب "يوجد مستقبل" ليصبح هذا الحزب الذي كان ناشئاً عندما تحول إلى ثاني أكبر لائحة حزبية منذ نحو عقد من الزمن (هناك فرق بين الحزب واللائحة التي تمثله في الكنيست وفقاً لقانون الانتخابات)، أخذ المذيعون يرددون جملة واحدة أكثر من أي جملة أخرى: "العالم يدرس الآن من هو يائير لبيد". واليوم، وبعد أن أصبح رئيساً للحكومة، يعاود الإعلام السؤال ذاته، وكأنه لم يتعلم شيئاً. مع هذا، نقول إنه يجب دوماً متابعة الأمور على مدار السنين في حال حصلت "تحولات" في جهاز السياسة الصهيونية. 

توقفت عند هذه الجملة: "العالم يدرس الآن من هو يائير لبيد" وسألت نفسي: ما الذي يفعله كل هؤلاء "الخبراء" من القوميات المختلفة في الشأن الإسرائيلي إن لم يسمعوا عن يائير لبيد، خلال العقود الأربعة المنصرمة تقريباً، ومنذ شبابه ووكالات التنشئة التي أثرت في حياته؟ قلت في نفسي:"لبيد هو ابن لبيد يا جماعة". صحيح، ليس كل ابن هو ابن أبيه أو أمه البيولوجيين، سياسياً، على الإطلاق...والأمثلة كثيرة. لكن، هناك ضرورة للتعرف إلى الخلفية السياسية للأسرة (كوكالة تنشئة اجتماعية) في حالة غوص أي فرد منها في المعترك السياسي لأجل الفحص والمقارنة. يائير لبيد هو الابن المدلل لوالدين يهوديين أوروبيين صهيونيين يمينيين علمانيين، عمل كل واحد منهما، يوسف (تومي) لبيد الأب (من مواليد صربيا) والأم شولاميت في ترسيخ القصة الصهيونية، وصقل الرأي العام الإسرائيلي اليهودي بشكل شبه فاشي عبر النتاج الثقافي بأساليبه المتنوعة خلال عشرات السنين. 

فبينما عملت الأم في النتاج الأدبي ككاتبة روائية تخصص مساحات واسعة للهجرة اليهودية – الصهيونية إلى فلسطين المحتلة، فيما عمل الأب في التلفزيون والإذاعة شاغلاً مناصب مهنية تضع السياسات الإعلامية – الثقافية للأجيال اليهودية، لكي ينتقل بعدها إلى العمل السياسي- الحزبي مع اليمين العلماني "الليبرالي" أمثال حزب "شينوي" (تغيير)، ليصبح في النهاية وزيراً في حكومة المجرم شارون. 

كما كان علينا أن نفعل، فقد تابعت كتابات يائير لبيد منذ أن كنا معاً في المهنة في منتصف الثمانينيات ("زميلان"في المهنة لكن غير رفيقين) بما في ذلك بعد مغادرتي فلسطين في التسعينيات من القرن الماضي، ولا أستطيع إلا أن أخلص إلى نتيجة (ومع الوقت يمكن أن نقدم الإحصائيات والدراسات العلمية) أن يائير لبيد هذا هو لبيد الصغير ابن لبيد الكبير، وبالتحديد عندما أعلن، قبل عقد، أنه جلس لمشاهدة عيّنة نتائج الانتخابات في البيت مع والدته شولاميت (لكتابة خطاب النصر)، وبعدها شمل خطابه حكايات عن والده (الذي توفي عام 2008). فهذه التنشئة السياسية التي يمكن وصفها بالقومجية والعنصرية، هي ذاتها التي أدّت إلى تسريب أخبار عن أنه مع عاصمة القدس المحتلة كعاصمة أبدية للإدارة الإسرائيلية، ويجلس مع المستعمر المتسلسل بينيت.. وهي ذاتها التي جعلته في العام 1989 يترك الفحوى السياسية لمؤتمر الليكود، ويشير إلى امتعاضه عن "كيف" صُعق عندما اكتشف أن الفلسطيني مكرم خوري- مخول "الذي تجرأ أن يؤدي دور المراسل العسكري" دخل إلى القاعة وجلس إلى جانبه، معبّراً عن رفض الآخر بشكل فظ وفج، لأنه أراد "القدس" واحدة له فقط.. حقاً، إن الشخصي هو السياسي. وقد نسمع أصواتاً مثل "لا يا عمي انتظر وسترى أنه مختلف"... أقول: عندما "يتغير" لبيد ويقبل الفلسطيني والحق الفلسطيني وليس الدجل والخداع (والتعاون مع العملاء) الفلسطينيين... سأكون على استعداد لمراجعة كلماتي وبصراحة واستقامة تامتين.