بفعل جبهة إسناد حزب الله... "إسرائيل" تفقد الجليل
حزب الله في ظلّ استئناف التفاوض يصعّد في هجومه على مواقع استراتيجيّة ويكشف أوراقه المعلوماتيّة في محاولة للضّغط على "إسرائيل" في المناورة على طاولة المفاوضات.
فرض حزب الله منذ اليوم الثاني لطوفان الأقصى جبهة قتالية أخرى على الاحتلال الإسرائيلي.
لم تكن "إسرائيل" فعليّاً قادرة على قراءة الاستراتيجيّة العسكريّة لحزب الله، وكان فعل المواجهة من قبل حزب الله مباغتاً ممّا استدعى "إسرائيل" إلى إعلان حالة طوارئ أيضاً على الحدود الشمالية، ونزوح مئات آلاف المستوطنين من المستوطنات المحاذية للحدود اللبنانيّة حتى يومنا هذا.
شكّل حزب الله في فعل المواجهة تغييراً جوهريّاً على مستوى قوّة الرّدع، ولكنّه أيضاً سلب أهمّ مركّبات معادلة الأمن القومي الإسرائيلي.
"إسرائيل" فعليّاً فقدت الرّدع والإنذار والرفاهية والأمن والتوسّع والتفوّق العسكري ممّا أحدث تصدّعاً عميقاً بين القيادات العسكرية والسياسية، وهذا ما أحرزه فعل المواجهة مع حزب الله حيث سبّب شرخاً كبيراً بين أقطاب الحكومة الإسرائيلية التي فقدت قدرتها على تشخيص وإدارة الحالة الأمنيّة والاستخبارية. لذلك فإنّ مُعضلة الشّمال ستكون لها تبعات كبيرة على المستوى الإقليمي لما بعد العدوان.
في ظلّ حدوث كلّ ذلك وقدرة حزب الله المعلوماتيّة التي جمعتها بفعل اختراق الحدود الجوية في "هدهد" الأول والثاني، وسبق ذلك استهداف المنطاد الأكثر أهميّة في منظومة "إسرائيل" الاستعلاماتيّة، يؤسس حزب الله لمرحلة جديدة في مسار مواجهة تصاعديّ.
لذلك يتّخذ الاحتلال الإسرائيلي سياسة الاغتيالات فعلاً استراتيجيّاً عسكريّاً ضمن محاولات استعادة قوّة الرّدع، ولم يفلح بذلك حتى الآن. ما زال يدير حرباً على القيادات العسكرية الميدانية لأنه يبحث عن صورة نصر له بينها أمام جمهوره الإسرائيلي. شكّل حزب الله مُعضلة جديّة في معادلة الرّدع ممّا جعل "إسرائيل" عاجزة عن إعادة المستوطنين إلى بيوتهم، وكذلك عن استعادة الأمن والرفاهيّة والرّخاء في الشّمال.
يبدو أنّ حزب الله بإصراره على استهدافاتٍ نوعيّة تُشير إلى معرفة مسبّقة عنها بمعلوماتيّة عالية، جعل منسوب القلق لدى القيادة الإسرائيليّة السّياسيّة والعسكريّة كبيراً جدّاً بفعل ما يترتّب على هذه الجبهة، ولا سيما أنّ في فعل المواجهة مع المقاومة الإسلاميّة في لبنان تفقد "إسرائيل" مكانتها وتفوّقها، ليس فقط في معادلة الرّبح والخسارة في الحرب الحاصلة وانّما ذلك يؤسّس إلى مرحلة هامّة لما بعدها، و"إسرائيل" فعليّاً ستكون الحلقة الأضعف إقليميّاً في معادلة الرّدع، وغير قادرة على تحديد وجه الصّراع في المنطقة، لذلك هي تسعى وبلهفة كبيرة إلى تغليب المسار الدبلوماسي نحو التّسوية أكثر من أيّ وقت مضى.
والمقاومة اللبنانية فرضت لعبة سياسية جديدة أيضاً على معطيات ومتغيّرات العمل السياسي الإسرائيلي، والخلاف الحاصل بين أقطاب الحكومة والقيادات السياسية والعسكرية هو نتيجة هذا القلق الاستراتيجي حول التعاطي مع معضلة الشمال.
الجليل ورمزيّته في عمق المشروع الصّهيوني
للشّمال رمزية هامّة في المشروع الصهيوني. أطلقت "إسرائيل" على مدار سنوات مسمّيات مختلفة على تهويد الجليل من أجل فرض سيطرتها وبناء المستوطنات. وفي هذه المرحلة السّياسيّة المختلفة بات الحديث عن فقدان الشمال، أي عن الجليل، على لسان قيادات إسرائيلية لافتاً إلى أنها بذلك تتحدّث عن فقدان أهم معاقل المشروع الصهيوني الذي آمنت بها.
ترصد "إسرائيل" ميزانيات طائلة جداً تحت عناوين مختلفة والتي تهدف إلى تهويد الجليل، هذا بدأ منذ عام 64 فقد حذّر في حينه رئيس الحكومة العمّالي ليفي أشكول من أنّ انعدام غالبية يهودية في الجليل يشكّل خطراً على المشروع الصهيوني. وكانت من مشاريعه وقتها إقامة كرمئيل في منطقة الشاغور لتكون مستوطنة يهودية في قلب الجليل العربي، وإنشاء كتل استيطانية بالقرب من منطقة الحدود اللبنانية من أجل بناء منظومة الحصانة.
لذلك ما يحدث وما يترتّب على الجبهة الشّماليّة بمثابة ضربة لعمق المشروع الصهيوني وما ترتّب عليه منذ عام الـ48 في قضية فرض السيطرة والاستيطان والتوسّع. الآن بفعل المقاومة الإسلامية في لبنان وتفوّقها في قوّة الرّدع الحاصلة في المواجهة، هذا ويصبح متغيّراً يضغط باتجاه التراجع والحسم في إتمام الصفقة وتراجع ثقة المستوطنين وتراجع السيطرة والأمن.
تدرك "إسرائيل" تماماً أنه بفقدان مكانة الجليل الجغرافي والرمزي ينشأ مسّ صارخ في معقل هام من مشروعها الصهيوني، وبذلك هذا يضاف إلى مجمل ما ترتّب على العزلة الدوليّة التي تعيشها "إسرائيل" من خلال تراجع سرديتها أمام العالم، وتراجع قبول المشروع الصهيوني على مستوى أوروبي وأميركي شعبي يفرض واقعاً جديداً في أزمة "إسرائيل" في التعاطي مع مركّبات أساسيّة تخدم مشروعها.
في قراءة المشهديّة كاملةً نرى أنّ حزب الله في ظلّ استئناف التفاوض يصعّد في هجومه على مواقع استراتيجيّة ويكشف أوراقه المعلوماتيّة في محاولة للضّغط على "إسرائيل" في المناورة على طاولة المفاوضات.
قد تتوقّف هذه الجبهة بفعل اتفاق ما أو إنهاء العدوان، ولكن أصبح جليّاً أنّ "إسرائيل" ستبقى قلقة وأنّ الجليل لم يعد كما من قبل. هي خشية حقيقيّة تتمثّل في إدارة أمور المستوطنات وتراجعها، أو إذا صحّ التعبير تهرّبها من الإجابة عن تساؤلات شرعيّة ستجعلها هشّة وغير قادرة في السّنوات المقبلة على إقناع المستوطنين أنها تستطيع إعادة الأمن إليهم، أو حتى تستطيع إعادتهم إلى بيوتهم في المستوطنات.