انتفاضة فلسطينية ثالثة خيار لكن.. ولكن

تشير التقارير الأمنية الإسرائيلية إلى تخوفات من انفجار الأوضاع، جاء من يؤكدها عبر رسائل أمنية استخبارية مصرية أرسلت للإسرائيليين.

  • انتفاضة فلسطينية ثالثة خيار لكن.. ولكن
    انتفاضة فلسطينية ثالثة خيار لكن.. ولكن

تتصاعد الأوضاع الأمنية في الضفة المحتلة بشكل متسارع، فميدانياً تتواصل عمليات جيش الاحتلال في كل مناطق الضفة والقدس، عبر عمليات التصفية الميدانية للمدنيين الفلسطينيين، العزل واعتقال النشطاء السياسيين من كافة الفصائل، وهدم ومصادرة بيوت وأراضي وممتلكات الفلسطينيين في بقاع مختلفة من الضفة والقدس.

وفي المقابل تشهد الضفة تصاعداً في عمليات المواجهة والتصدي لاقتحامات جيش الاحتلال تتجلى بعضها بأشكال مسلحة مثلما يحدث في نابلس وجنين وفي مناطق أخرى بتصدي شعبي واسع.

على ذات الصعيد ترتفع وتيرة عمليات المقاومة الفردية، فيما تشهد نابلس وجنين مظاهر مسلحة مقاومة تذكرنا بأحداث إبان انتفاضة الأقصى 2000 إضافة الى مشاركة شعبية واسعة في جنائز الشهداء التي تؤشر إلى وطنية كامنة وغضب والتفاف شعبي ينمو حول خيارات المقاومة.

على المستوى الأمني تشير التقارير الأمنية الإسرائيلية إلى تخوفات من انفجار الأوضاع، جاء من يؤكدها عبر رسائل أمنية استخبارية مصرية أرسلت للإسرائيليين، أن الضفة تغلي على صفيح ساخن فيما تعلن السلطة الفلسطينية عدم قدرتها على ضبط الأوضاع نتيجة اجراءات الاحتلال وتضييقاته الأمنية والمالية والميدانية.

من زاوية سياسية يجد فريق السلطة الفلسطينية نفسه أمام مسار مسدود على صعيد المفاوضات والعودة إليها، فلا بوادر مع الإسرائيليين تلمح بالأفق، فيما يستمر الانقسام الفلسطيني الذي ينخر النسيج الاجتماعي والسياسي ويعكس نفسه على غياب الفاعلية السياسية المنظمة لكل من حماس، الجهاد، الشعبية، في الضفة كنتيجة لتواصل التنسيق الأمني الذي لا يرتكز على منع أي عمليات مقاومة ضد "إسرائيل" فقط، بل منع وتصفية أي بنى حزبية سياسية منظمة قد تظهر بالضفة بشكل يبقي الساحة خالية من أي فصيل باستثناء حركة فتح.

وعلى صعيد آخر... اجتماعياً لم ينفك قمع الحريات الاجتماعية والسياسية كما حصل في واقعة نزار بنات واقعاً متواصلاً تعمل السلطة مراراً على قمع أي صوت معارضة إسلامي، يساري، ديموقراطي تحت حجج مختلفة وفي وقائع متباينة، بهدف التطويع وفرض الطاعة على أي قوى معارضة.

فيما اقتصادياً يشير تقرير اقتصادي دولي إلى أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في الضفة الغربية وغزة وصلت 36% فيما يعاني 23% من انعدام الأمن الغذائي بالضفة، 53% في غزة، علماً أن مؤشر البطالة الرسمي كان يتحدث عن 28% بالضفة قبل أزمة كورونا، في الحال الأن بعدها وبعد الحرب في أوكرانيا التي تتسبب بركود تضخمي في أوروبا وأميركا وهو ما سينعكس علنياً بالضرورة بحكم ترابط الاقتصاد العالمي، وبالإشارة إلى تقارير عام 2019 تتحدث عن 450 ألف مُعطل عن العمل نصفهم خريجون جامعيون.

بشكل مكثف تجد السلطة نفسها دون رصيد على الصعيد السياسي أمام انسداد الأفق للحلول التفاوضية إضافة إلى مديونية اجتماعية بقمعها الحريات السياسية والاجتماعية، وهو خطاب مفاضلة كانت تقدمه السلطة لتقارن نفسها مع حماس سابقاً، دون امكانيات اقتصادية لرفع مستوى المعيشة للفلسطيني، الآخذ بالانحدار بحدة، اضافة الى الازمة المالية التي تعاني منها السلطة جراء اقتطاع اموال المقاصة وتقلص الدعم من الدول المانحة.

هل كل هذه العوامل تفضي الى اندلاع انتفاضة؟

من ناحية موضوعية نعم، فمجمل الظروف التي يعيشها الفلسطيني، وصفة مناسبة لاشتعال البيدر، بيد ان العامل الموضوعي لا يكفي وحده دون تكامل مع العامل الذاتي، فالانقسام الفلسطيني ما زال يحطُ بثقله على كامل الشعب والفصائل، كما ان التنظيمات الفلسطينية تفتقد الى الفاعلية والقدرة الميدانية بالضفة والقدس نتاج غياب ادواتها واجسامها وشبكاتها المنظمة التي تستهدف باستمرار بالاعتقالات والملاحقات الأمنية.

وهنا قد يكون من الجدير العودة الى الخلف قليلاً الى زمن انتفاضة 1987، نجد عاملان هامان شكلا عاملاً اساسياً في تصعيد الانتفاضة الشعبية لشكل انتفاضي واسع، الأمل بانعقاد المجلس الوطني التوحيدي في الجزائر بين فتح والشعبية قبل شهور من الانتفاضة الاولى 87، وهو ما ساهم في توحيد الساحة الفلسطينية قبل اشتعال شرارة الانتفاضة والذي هيأ الى تشكيل قيادة وطنية موحدة في الأرض الفلسطينية.

الثاني: وهو مرتبط بالأول، حيث كانت الفصائل في مستوى جاهزية تأطيرية عالية نتاج تراكم عقد من العمل الجماهيري والتنظيمي فقد كانت الفصائل ( فتح، الشعبية، الديموقراطية، الحزب الشيوعي) قد وسعت عضويتها وبنت شبكاتها التنظيمية، الاجتماعية والجماهيرية التي ساهمت سريعاً بتشكيل لجان المقاومة الشعبية ولجان الأحياء ولجان الضاربة كانت بمثابة دينامو الانتفاضة وأداة  القيادة الوطنية الموحدة في الميدان .

هذان العاملان؛ الوحدة السياسية ومظهرها القيادة الموحدة وجوهرها الأدوات الفاعلة التي نجدهما غائبان عن الساحة الفلسطينية الآن، وهما في الحقيقة ما سوف يحولان دون تصعيد شعبي طويل وواسع ومستمر.

هل يعني هذا أن احتمال تحول ما يحدث الى انتفاضة هو احتمال ضعيف؟

في السياسة لا سيناريو غير ممكن ما دام له مقدمات معطى في الواقع، لكن لكل معطى حجم وتأثير بنسبة معينة وتتصاعد إمكانية كل سيناريو مع تعاظم ضرورة ما يدعمه، لكن كما أشرت سابقاً يصعب تجاوزها.

يبدو للمتابع بوضوح تيارات متصارعة داخل فتح، فهناك تيار غير راضي عن المسار السياسي للحركة، وهناك تيارات تتنازع على خلافة أبو مازن، هذا الصراع هو ما يفسر هذا التحرك الواسع من قواعد فتح، علماً ان هناك اشاعة تقول أن تحرك فتح بالضفة يأتي لقطع الطريق على حركة حماس والتي تدعي مصادر الاشاعة أنها جلست مع الأميركان وأنهم عرضوا عليها (إعادة الإعمار، الميناء، المطار، خط آمن مع الضفة، السماح لعناصرها بالعمل السياسي في الضفة كمقدمة لاستلام السلطة). وهي اشاعة تتناقض مع معطيات الواقع، مثل تعميق علاقة حماس بإيران وحزب الله ولمصالحته الأخيرة مع حكومة دمشق، هذا علاوة على التغيرات الدولية العميقة باتجاه عالم متعدد الأقطاب، وهو ما تدركه حماس.

يبدو أن مختلف التيارات الفتحاوية معنية بالتصعيد، لكن بأهداف متباينة، فهناك تيار مقاوم يرفض الحالة الفلسطينية الحالية، ويدعو للعودة للمقاومة، وهناك تيار أمني يسعى للتصعيد لهدفين تحديداً، الاول، النيل من خصومهم (أصحاب الرؤوس الحامية) وهو ما سيتم بحال تصاعد المقاومة عبر استهدافهم بالقتل والاعتقال وهو ما سيفرغ الساحة لهم، اما الثاني فهو مرتبط بالأول، فيربطون بين ضبط الأمن مقابل تحسين شروط الحياة المعيشية عبر توسيع صلاحيات السلطة في مدن الضفة، تخفيف الحصار المالي عن السلطة واستعادة أموال المقاصة، تفعيل اللجنة الأمنية المشتركة (إسرائيل، مصر، الأردن، السلطة)، وتحسينات اقتصادية للفلسطينيين، وهو بذلك يقدم نفسه للأميركان والإسرائيليين كمنقذ من تصاعد الأحداث، فيما يقدم نفسه للفلسطينيين كمحسن لشروط حياتهم!

من جهة مختلفة، قد يكون هناك سيناريو تسعى له "إسرائيل"، فاندلاع أعمال مسلحة بين الفلسطينيين أنفسهم، سيساهم سريعاً بانهيار السلطة وهو ما سيهيئ الأجواء لمشروع طرح سابقاً من قبل اليمين الإسرائيلي عبر تحويل مسؤوليات مدن الضفة للوصاية الأردنية، فيما تعلن هي ضم مناطق c وبالتالي تحويل مهام الأمن الأردني ومن ثم يلحقها التمثيل السياسي تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية. هذا الخيار نوقش سابقاً مع الأردن الذي كان قد رفضه نتاج انعكاسات خطوة كهذه على مصير المملكة.

اذن نحن على أعتاب مرحلة جديدة، بدأ التحضير لها مبكراً حتى قبل رحيل ابو مازن وباعتقادي لا يزال مبكراً الحديث عن صيرورتها ومآلاتها، وإن كنت أميل لكفة عدم تحول الحالة الانتفاضية، لكن بالوقت نفسه دروس الانتفاضة الثانية ما تزال تلوح أمامنا فعندما سعى ابو عمار لإشعال الانتفاضة كورقة ضغط على الإسرائيليين في المفاوضات، انفلتت الأمور من بين يديه وتحولت لانتفاضة شاملة وكان من ضمن نتائجها انتصار حماس في انتخابات عام 2006، كما وفرضت سيطرتها على القطاع عام 2007، فيما ازدادت مدن الضفة انعزالاً واستباحة وسط تحولات يمينية عميقة بالأجهزة الامنية الفلسطينية.

هكذا هي السياسة تعلمنا دائماً انها جبر لا حساب.. سيأتي ثائر ويسأل هل معنى هذا الجلوس والتفرج؟ 

رغم أن هذا السؤال يحتاج لإجابة في مكان آخر، بيد أن الواقع يلقي على القوى المقاومة حمل مهمتين بالتوزاي (البناء، المواجهة) فلا فعل وفاعلية وتأثير دون مواجهة وانخراط بالمعمعان الميداني، ولا مواجهة متواصلة واستراتيجية دون بناء صلب.