انتخابات لبنان.. قليلٌ من الشيزوفرينيا وكثيرٌ من سياسة الإلهاء
ثمة استسلام تامّ يسيطر على وعي اللبناني، وخضوع لطبقة استحكمت في سياسات لبنان الاقتصادية منذ الطائف إلى اليوم.
حدّد رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي الاتجاهات الفعلية للمرحلة المقبلة، قائلاً: "لطالما نادت شريحة واسعة من اللبنانيين بالتغيير. فلتكن، لأنّ الانتخابات الحالية هي الفرصة المناسبة لبلورة هذا التغيير بالأطر الدستورية"، وأعلن خلال استقباله وفد بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات النيابية أن "الحكومة أنجزت كل الترتيبات لإجراء الانتخابات النيابية بكل حرية وديمقراطية، ويبقى أن يقبل اللبنانيون على الاقتراع بكثافة لإيصال صوتهم واختيار من يريدونه من المرشحين".
من الناحية اللوجستية، نجحت حكومة الرئيس ميقاتي في إنجاز الاستحقاق النيابي بأقل مغالطات تذكر. لهذا، من الطبيعي أن يكون ما بعد 15 أيار/مايو ليس كما قبله في الحياة السياسية اللبنانية، فمن شاهد حماسة الجماهير للتغيير بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وكيف ملأت الساحات مطالبةً بنظام جديد، يتوقع حتماً أن يكون لبنان أمام مشهدية جديدة في سلطته التشريعية التي تُنتخب من الشعب، ولكن هل هذا ما أفرزته صناديق الاقتراع؟ هل كانت انتخابات لبنان البرلمانية فعلاً مدخلاً للتغيير أو أعاد الناخب إنتاج الطبقة نفسها مع بعض الخروقات التي لن تؤثر في الحياة السياسية؟
"حفلة جنون" عاشها اللبناني في زمن الانتخابات بأبعادها كافة، من خطابات رنانة أطلقتها حناجر المرشحين، شملت كلّ أنواع التخوين والتهجم على الآخر، إذ لم يكن هناك سقف للخطاب الانتخابي، فتمّ نبش صور الماضي في الحرب الأهلية، وكان للتراشق الإعلامي دوره الكبير لشد العصب الجماهيري عند الأحزاب الناخبة. وزعت الوعود الانتخابية، ورفعت معها شعارات فضفاضة في سماء لبنان، إلى درجة أعادت إلى ذاكرة اللبناني ذلك اللبنان الجميل يوم أطلق عليه "سويسرا الشرق".
تحوّل لبنان في شهره الأخير قبل الاستحقاق النيابي إلى ساحة حرب حقيقية استخدمت فيها كل وسائل القتال بين المرشحين في خطاباتهم وضمن حملاتهم التي جالوا بها الداوئر الانتخابية. استخدام السلاح نفسه كان حاضراً، الأمر الذي زرع الخوف من إحداث فوضى أمنية تطيح العملية الانتخابية. في هذه الحرب، تسقط الحيل الجيوسياسية، ليحلّ مكانها اللعب على تعزيز الديماغوجية العبثية التي ترتكز على سياسة إلهاء اللاعب الوحيد والأساسي فيها، وهو الصوت المقترع.
في تحليله "استراتيجية الإلهاء"، يقول المفكر الأميركي نعوم تشومسكي إنّ العنصر المهيمن على الرقابة الاجتماعية هو "استراتيجية الإلهاء"، لتحويل انتباه الجمهور عن القضايا المهمة والتغييرات الحاسمة، من خلال تقنية الطوفان أو غمر المشتتات المستمرة والمعلومات غير المهمة. ويستخلص تشومسكي أنَّها عمل لإبقاء "الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً، من دون وقت للتفكير، للعودة إلى المزرعة مثل الحيوانات الأخرى".
عملية الإلهاء متعمدة بهدف تمييع الحقيقة عن المواضيع الرئيسية عند الناخب، فتجعل اهتماماته مشتتة نحو قضايا غير أساسية، كالحديث عن الصوت التفضيلي وعن نسب المقترعين، ما يعزز روح الانتماء الآلي المرتبط بغريزة الطائفة أو الحزب أو القرابة الدموية على حساب روحية الانتماء العضوي، الذي يتعزز فيه تضامن الفرد مع الجماعة، لما فيه مصلحة البلاد. لهذا، يبدأ المرشح الحديث عن نية إلغاء الوجود عند الخصم، الأمر الذي يشدّ عصب الناخب ويدفعه، وبطريقة مسيّرة، إلى انتخابه من جديد.
لم يعلُ شيء فوق صوت المعركة الانتخابية، إذ عاش اللبناني عبر شاشاته وفي ساحاته ضخاً مخيفاً للمعلومة الكاذبة على طريقة وزير الدعاية في عهد هتلر جوزيف جوبلز: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، الأمر الذي وضع اللبناني أمام انفصام في شخصيته تمثل بثورة على الطبقة الحاكمة وإعادة انتخابها.
لقد أصيب اللبناني بـ"شيزوفرينيا نفسية"، وهو فصام عبارة عن اضطراب يؤثر في طريقة تفكير الشخص وشعوره وسلوكه. من جهة، ترى اللبناني يئنّ تحت وطأة أزمة اقتصادية أفرغت جيوبه وأفقرته، سببتها الطبقة السياسية التي اعتمدت على ممارسة سياسات النهب المبرمج والإفلاس، فكان حراك 17 تشرين الأول 2019، حين نزلت الجماهير غاضبة مطالبة بمحاسبة الطبقة الحاكمة تحت شعار "كلن يعني كلن". من جهة ثانية، أعاد اللبناني انتخاب هذه الطبقة التي سببت انهياره، ليكرس واقعاً مأساوياً على حياته لأربع سنوات.
ثمة استسلام تامّ يسيطر على وعي اللبناني، وخضوع لطبقة استحكمت في سياسات لبنان الاقتصادية منذ الطائف إلى اليوم. لهذا، لن يتوقع حدوث التغيير في بلد نما فيه سكانه على الطائفية والمذهبية، ويقوم دستوره على مبدأ المحاصصة والعيش المشترك.
صحيح أن لا شيء سيتغير، إلا أنَّ البلاد ستدخل في استحقاقات كبرى ستعيد التعطيل في مؤسساتها من جديد، ولا سيما أنَّ القانون لا يسمح بوجود خصوم على لائحة واحدة. لهذا، إن انتخاب رئيس للمجلس النيابي، وتشكيل حكومة جديدة، وانتخاب رئيس للبلاد، لن يكون إلا بفرض التسويات الكبرى التي لطالما كانت على حساب مصلحة لبنان واللبنانيين.
أخيراً، إنَّ انتظار التغيير في لبنان هو طريق الألف ميل الذي يجب أن يبدأ بالخطوة الأولى، حيث تعديل قانون الانتخابات الذي وضع ليحافظ المسؤولون على كتلهم النيابية، تكريساً لزعاماتهم، وتحجيماً لأيِّ صوت معارض.