المشروع النهضوي في خطاب السيد نصر الله... المقاومة العابرة وبناء الدولة

لقد عبّر خطاب السيد حسن نصر الله عن رؤية وطنية تتجاوز الطرح المعهود في الدفاع عن سلاح المقاومة والوجود، عندما قدّم رؤى تأسيس نهضوية لمشروع المقاومة.

  • المشروع النهضوي في خطاب السيد نصر الله... المقاومة العابرة وبناء الدولة
    المشروع النهضوي في خطاب السيد نصر الله... المقاومة العابرة وبناء الدولة

يُعدّ الخطاب السياسي أبرز مواد التحليل في المضمون ودراسة المعطيات الكمّية والنوعية، في قراءة أدبيات الخطاب والمفاهيم التي يطلقها أو يتبنّاها، فضلاً عمّا توفره العملية من فهم سلوكي معيّن في إطار ما. وتمثّل خطابات الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، مادة دراسية دسمة لأهل البحث والتحليل، ومنها خطابا المهرجانين الانتخابيين للعام 2022، في منطقة الجنوب، صور والنبطية، ومنطقتي بيروت وجبل لبنان. ولطالما تُطلَق أوصاف وسِمات تاريخيّة واستراتيجيّة، غالباً ما تلقى إجماعاً لدى العدو قبل الصديق والحليف، عند تحليل الخطاب ورسائله. وفي الخطابين المعنيين، يمكن القول إنّ السيّد نصر الله قدّم خطاباً وطنيّاً تأسيسيّاً للمرحلة المقبلة، تخطّى عناوين المهرجانات الانتخابية، ومحدودية برامجها.

لقد عبّر خطاب السيد نصر الله عن رؤية وطنية تتجاوز الطرح المعهود في الدفاع عن سلاح المقاومة والوجود، عندما قدّم رؤى تأسيس نهضوية لمشروع المقاومة، يمكن معها القول إنها تفتتح مرحلة جديدة في بلورة مفهوم "المقاومة" عموماً، وفي صياغة تاريخ لبنان المقاوم، بشكل خاص. وتتقوّم هذه الرؤية بركيزتين متوازيتين: المقاومة العابرة للحدود وبناء الدولة. وإنه لا تناقض بينهما أو تضادّ، بل يكاد يكون التكامل في وحدة الأهداف وتوزيع الأدوار في ما بينهما ضرورة جوهرية في تحقيق النجاح المطلوب والأهداف المرجوّة والحفاظ على التوازن في ما بينهما، بما يوفّر استمرار تنامي قوة كل منهما بالتوازي، لكن مع التقاطع عند المصلحة الوطنية ورفد أحدهما الآخر بالقوة اللازمة. 

تفيد الركيزة الأولى بقابلية المقاومة كي تكون عابرة للحدود والتأطيرات الوضعية على تغيّر مفهوم الحدود واختلافه؛ الجغرافية والطائفية والمذهبية والاقتصادية والقانونية، وغيرها. بهذا المعنى، يخرج مفهوم المقاومة من الإطار الطائفي المذهبي الضيّق إلى الفضاء الإنساني الأرحب حيث يتحرر المفهوم من كل ما يقيّده بأرض أو فئة، أو مذهب وما شابه من المحددات. وتالياً، تصبح المقاومة حسّاً ووعياً وإرادة ومسؤولية على عاتق كل حرّ يأبى التبعية قولاً وفعلاً. وقد أظهر الخطاب هذه الركيزة عبر استراتيجيتين: الأولى، استنهاض روح المقاومة في كل من الشارع الشيعي والشارع المسلم والمسيحي، مستنداً لذلك من جهة إلى إعادة إحياء الذاكرة التاريخية لجبل عامل المقاوم، ومن جهة أخرى إلى التمحور حول قضية القدس كهوية ورمزية دينية، وبوصلة إنسانية جامعة في نصرة الحق ومواجهة الظلم. والثانية هي التأسيس لمقاومة متكاملة الأبعاد: عسكريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً. 

 أما الركيزة الثانية في بناء الدولة فتعبّر عن ثقافة المقاومة في الحاجة إلى الدولة والسلطة والاحتكام إلى قوانينها منعاً للفوضى والضياع. من هنا، يتبنّى الخطاب مشروعاً إصلاحيّاً في النظام والدولة يحترم طبيعة التركيبة السكانية اللبنانية، ويتناسق مع النظام الطائفي، إلا إذا تم التوافق على تغييره، ويسعى إلى معالجة المشكلات وتقديم البدائل والحلول، مع احترام الفوارق والاختلافات. وبناءً عليه، يقارب المشروع النهضوي في خطاب السيد نصر الله صورة الدولة العادلة المقتدرة القادرة. إنها الدولة التي يمكن لها بمقاومتها العسكرية والسياسية والاقتصادية أن تنهض بعيداً عن الارتهان للحسابات الضيّقة والتمييزية؛ الحزبية والفئوية والطائفية، وتحمي السيادة والثروات من أي هيمنة أو عدوان خارجي، وتدعم حلولاً أهدافها وطنية غير مرتهنة للإملاءات الخارجية.

تمثّل إنجازات المقاومة الاستراتيجية نموذجاً عمليّاً في حيوية المشروع العسكري المقاوم وقابليته للتطبيق، وفي طليعة تلك الإنجازات تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة كافة عام 2000؛ القدرة على كسر صورة "إسرائيل العظمى" وترسيخ مصطلح الكيان المؤقت؛ استعادة الثقة بصنائع الدماء؛ وفرض معادلة توازن الردع. كما تَظهر حساسية تموضع الاستراتيجية الدفاعية ضمن ثوابت المقاومة ومبادئها من خلال إصرار السيد نصر الله على التمسك بها، حيث تتعزّز معها المعادلة الذهبية الوطنية: الجيش والشعب والمقاومة. 

وانطلاقاً من هذه المباني، تصبح المقاومة العسكرية لتحقيق الأمن والاستقرار وحفظ السيادة مسؤولية مشتركة بين قوى المقاومة وجاهزية الدولة الدفاعية بجيشها ومؤسّساتها، وصمود الشعب وثباته وإيمانه بالقضية التي يصبر ويتحمّل لأجلها. وفي المقاومة السياسية، فهي شرعية النهج المقاوم ومشروعيته قانونيّاً، ورسميّاً وشعبيّاً، بحيث يجسّد ملف الاستحقاق الانتخابي أحد تمظهراتها الأساسية في حماية أمانة التمثيل. وعادة ما تعبّر المقاومة السياسية عن حاجة ملحّة إلى تأمين الدرع والغطاء للمقاومة العسكرية، وهي في الميزان السياسي حركة تعبيرية عن نضج مسار شرعية حركات المقاومة، ومرونة العمل السياسي في احتواء كل موارد القوة تحت إطار الشرعية القانونية. 

أمّا في المقاومة الاقتصادية، فيفرض المنطق وجوب مجابهة السياسات الخارجية في حصار الشعب اللبناني اقتصاديّاً والضغط لرهن الدولة لصندوق النقد الدولي وفق الشروط والسياسات المجحفة التي لا يدفع ثمنها إلا المواطن. من هنا، تدفع المقاومة الاقتصادية باتجاه تحويل التهديدات والتحديات إلى فرص للنهوض والتعافي باستثمار المقدرات والموارد والطاقات الكامنة واجتراح الحلول الإبداعية في معالجة الأزمات. ويُعدّ موضوع ترسيم الحدود البحرية ضمن المشروع النهضوي أبرز ملفات المقاومة الاقتصادية التي يمكن أن ترسم معادلة جديدة مع توافر اللُحمة والتماسك الداخلي وجدّية القرار. وكما يعبّر السيد نصر الله، فإن الحل موجود لِما يملكه لبنان من قوة وغنًى؛ فهو قوي بمقاومته العسكرية وغني بثروته النفطية.  

واستخلاصاً لما سبق، فإنّ المشروع المقاوم الوطني المطروح هو بمنزلة نواة مشروع خلاص لبنان وإنقاذه في طريق بناء الدولة القوية المتمحورة حول الأهداف الوطنية، والمتماسكة في تحمّل المسؤولية والصمود والسعي في توظيف العلاقات الخارجية لخدمة المصلحة الوطنية. ولا بد من التأكيد أنّ تحويل الدولة إلى أفضل صيغة تكون فيها عادلة لا يتبلور إلا مع تضافر الجهود والمسؤوليات وتكافلها في ترسيخ مفاهيم الشراكة وعدم الإلغاء أو الإقصاء، وتخطّي تحدّيات المرحلة المقبلة بوعي ومسؤولية، وبحماية الهوية اللبنانية الوطنية الحرة في الكلمة والموقف من الشعبوية والمزايدات. وحيث إنّ لبنان أمام حتمية التأثّر بتبدّل المعادلات في العالم والتحوّلات الجارية في المنطقة، يصبح التوافق الوطني الداخلي على الاستفادة من قدرة المقاومة على رسم المعادلات أو المشاركة في صياغتها مسؤولية تاريخية وجودية، وستطال تبعات القرار من عدمه أبناءنا من الأجيال القادمة، أيضاً. فأيّ مصير نريده لوطننا، ولأبنائنا؟!