المسيّرة والترسيم والبُشرى من كلِّ حدب وصوب
لقد أرست المقاومة في الصراع الطويل مع الكيان الصهيوني أسساً متينة، انطلاقاً من كليات عسكرية تصلح لأن تُدرّس، سواء من خلال التجربة الكبيرة والعميقة والدقيقة.
نمضي في لبنان على الصعد كافّة على قاعدة "سر فعين الله ترعاك"، ضاربين بعرض الحائط كلّ ما من شأنه أن يضع البلد على السكة الصحيحة في ما خصّ جعله منتجاً وصاحب رؤى واستراتيجيات اقتصادية واعدة تقيه رواسب صندوق النقد الدولي والآثار السّلبية للاستدانة المتراكمة التي لم تقدّم إلا المزيد من التقهقر الاقتصادي والمالي، وما يعكسه من أوضاع اجتماعية مزرية يرزح الشعب اللبناني تحت وطأتها.
إزاء هذا التخبّط، برز حدثان؛ أوّلهما المسيّرة التي أرسلتها المقاومة لترسخ مساراً جديداً في الصراع المستمر بين الخط الممانع والكيان الصهيوني لترسيخ معادلات جديدة لا تفضي إلا إلى مزيد من تسجيل النقاط على "مسخ" بدأ يفقد منذ ردح من الزمن عوامل المناورة والمفاجأة ونقل المعارك إلى أراضي الغير.
لقد أرست المقاومة في الصراع الطويل مع الكيان الصهيوني أسساً متينة، انطلاقاً من كليات عسكرية تصلح لأن تُدرّس، سواء من خلال التجربة الكبيرة والعميقة والدقيقة منذ العام 1982، مروراً بما أسمته "إسرائيل" "تصفية الحساب" في تموز/يوليو 1993"، و"عناقيد الغضب" في نيسان/أبريل 1996، وحرب تموز 2006، وما راكمته من الحرب السورية من تكتيكات في تفعيل حرب الانقضاض والمحاصرة وضرب أساليب الحصار التي وضعها العدو، من تنظيمات إرهابية منظمة ومؤدلجة ومعبّأة على الصعد النفسية والفكرية؛ هذه المنظمات التي تشرّبت الحقد الديني في بعديه الطائفي والمذهبي الإلغائي، وانطلقت منه لإحداث تغييرات ذهبت أدراج الرياح، مع وجود بعض النتوءات التي تُرعى إقليمياً ودولياً في أكثر من مكان، أبرزه إدلب (شمال سوريا).
لا شكَّ في أنَّ قيادة المقاومة، بجناحيها القيادي والتنظيمي، تمرّست في الحرب التقنية ومواكبة التطور العملياتي للرصد والتعقّب والمناورة وحرب العقول، مع حرب نفسيّة ضروس برعت فيها منذ عقود، وساهمت في ضرب بنية المجتمع الصهيوني المتهالك.
إنَّ هذا المسار الذي سلكته "المسيّرة" والوقت الذي استغرقته بعيداً عن الرادارات و"القبة الحديدية"، أي الخشبية بمعناها الضمني الفاعل، أصاب الصهاينة بمقتل، وخصوصاً إذا فكروا في تخيّل مشهد إطلاق عدد كبير منها من أكثر من جهة، سواء جنوب سوريا أو مزارع شبعا أو داخل العمق الفلسطيني أو أمكنة بعيدة جغرافياً إلى حد ما!
الحدث الثاني الآخذ في التوسع هو ترسيم الحدود مع الكيان الصهيوني بوساطة أميركية ورعاية أممية، والكلام عن التخلّي عن حقوق لبنان وثروته الغازية التي تعدّ الأمل الَّذي يمكن أن يُبنى عليه، إن أُحسن استخدامه، ولم يخضع لحسابات المحاصصة اللبنانية البغيضة. ولذلك، يجب الإشارة إلى عدة نقاط في ما يتعلق بهذين الشأنين:
أولاً: ضرورة تفعيل التنسيق بين رئيس الجمهورية وفريق المقاومة لإدارة الملفّ بشكل كامل متكامل ومنظّم لا يعطي مجالاً لأحد بالشك وطرح مبدأ التخوين أو التساهل أو التفريط.
ثانياً: إنَّ التشكيك فيمن فرض كلّ المعادلات وقدَّم الغالي والنفيس مرفوض، وهو يأتي من فرقاء لا تهمهم النقطة 23 أو النقطة 29، ولا يعرفون الفرق بينهما أصلاً، ولا يكترثون إلا بمحاولة تسجيل النقاط وإتهام الطرف المقاوم بالتراجع والتخاذل، وأحياناً بالتنسيق!
ثالثاً: إنَّ من كسر خطّ "هوف" لتقسيم منطقة الـ860 كلم بين لبنان والطرف الإسرائيلي، وكسر قبله النقطة 1، ليس صعباً عليه ترسيخ معادلات جديدة بين النقطتين 23 و29 وبينهما حقل قانا!
رابعاً: عدم التذرّع الدائم بضرورة الانتهاء من ترسيم الحدود بحجة الإسراع في التنقيب أو دعوة الشركات المتخصصة في هذا المجال، لأن هذا الأمر يخضع للعبة الأمم وموافقة الدول الكبرى، شئنا أم أبينا.
خامساً: ضرورة الربط بين عملية الترسيم القائمة والسباق التقني الرائد الذي انطلقت منه المقاومة والرسالة التي وصلت بأننا جاهزون براً وجواً وبحراً.
سادساً: اليقين بوصول التّشبيك الفعلي والتنظيمي والعملياتي إلى كلّ جبهات المواجهة مع الكيان وفرض معادلات جديدة قائمة تنطلق من واقع عسكري تقني متقدّم يجاري كلّ أساليب العدو التكنولوجية المتقدمة.
سابعاً: إنَّ حال البعض في لبنان يشبه قول الصحابي الجليل عمار بن ياسر في إحدى معاركه قبل استشهاده: "إنهم أناس استمرأوا الدنيا، وعرفوا أنّ الحقّ يحول بينهم وبين ما تمرّأوا فيه من شهواتهم، فوالله لو قتلونا وقتلونا وألقوا بنا سعفات هجر، ما وهن يقيني بأننا على الحق وهم على الباطل"، فالبعض في لبنان لا تشبعهم رهاناتهم وعبثهم وشهواتهم الدموية ومنطقهم المتآمر، ويوائمون بين الحق بالباطل، لكننا مستمرون رغم ترّهاتهم.
بناءً على ما تقدم، لن تثني تلك الأصوات النشاز هؤلاء المؤتمنين عن إكمال المسيرة مع مسيّرات ستُدخِل المنطقة في حفلات جنون صاخب تهلك الكيان، وتجعله يضرب أخماساً بأسداس، وتدفعه إلى محاولة ابتكار أساليب وطرائق جديدة، يبدو أنَّ أصحاب الدار أعدوا العدة لمجابهتها، وخصوصاً على الصعيد النفسي، في حرب عقول ظهرت إرهاصاتها سابقاً وستستمرّ. أبشروا والبشرى ستأتيكم من كلّ حدب وصوب.