العمل المقاوم المسلح في الضفة الغربية.. تفاؤل واقعي
لقد أصبح النموذج في الضفة أكثر وضوحاً، خصوصاً بعد معركة "سيف القدس" وما حملته إلى المشهد الفلسطيني والإقليمي من زخم.
يتساءل المتابع لتزايد زخم العمل المقاوم المسلح المنطلق من عدة مدن ومخيمات في الضفة الغربية باتجاه حواجز ومستوطنات صهيونية عن مآلاته وفرص بقائه فضلاً عن تطوره وتزايد حدته، وهي تساؤلات منطقية ومشروعة بالنظر لما تعانيه الضفة الغربية من قبضة أمنية صهيونية "محكمة"، إضافة إلى عمل أمني واضح وجاد تمارسه أجهزة أمن السلطة بقصد إجهاض أي عمل مسلح يتجه نحو وجود الصهاينة على الأرض الفلسطينية.
كل هذا يتطلب إطلالة واسعة على المشهد في الضفة الغربية بشكل خاص وفي فلسطين عموماً، إلى جانب قراءة جادة لمختلف جوانب المشهد الصهيوني خصوصاً السياسية والعسكرية والأمنية.
نحاول هنا تسليط الضوء على ما يرافق حالة المقاومة المسلحة الآخذة في التنامي في الضفة الغربية والتي أصبحت شغل المؤسسة الأمنية الصهيونية وتحديها البارز، وما يرافقها من مزاج شعبي عام في الضفة يخدم تطور هذه الحالة إلى ظاهرة موجودة بمستقبل مأمول يلبي النبض الثوري للشارع.
مخاض عسير لولادة مشرقة
تنامي الإعجاب الشديد بتجربة المقاومة في قطاع غزة وتطورها وصولاً إلى دخولها على خط فرض المعادلات والمشاركة في صنعها، بالإضافة إلى النموذج القوي للمقاومة في لبنان وصدى تطورها وتثبيتها لمعادلات معينة فرضتها على العدو الصهيوني، قاد مع ما تعيشه مدن الضفة الغربية من تضييق وقمع من جراء الإجراءات الأمنية الصهيونية وتزايد انتهاكات المستوطنين إلى تشكيل المزاج العام الثوري المتجدد في الضفَّة اليوم، وترسخ محاولات عمل مسلح مقاوم وصولاً إلى تشكيل مجموعات "عرين الأسود" و"كتيبة جِنين"، اللتين أصبحتا واجهة المشهد الوطني الفلسطيني في الآونة الأخيرة وتتجهان -على الأغلب- إلى التمدد بما رافقهما من زخم كحالة ثورية مؤثرة إلى مناطق جديدة في الضفَّة كما تفصح عنه قراءة الأحداث.
مثّلت تجارب المقاومة المسلحة الناجعة والخلّاقة مصدر إلهام للشباب الفلسطيني الثائر في مدن ومخيمات الضفة، بل وكانت محرضاً رئيساً بصداها الذي كان يدق في ضمائر هؤلاء الشباب ويؤرق عقولهم؛ فغزة التي حوصرت وحوربت ونجحت في النهوض بتجربة مقاومة فريدة هي مرمي حجر من الضفة التي لا يُعقل –في تفكير هؤلاء الشباب وتطلعاتهم- أن تبقى مكبلة وأسيرة العجز عن تفعيل حالة مقاومة مسلحة واضحة وصادحة بمطالبها المشروعة.
ويتصاعد إلى السطح رهان قوي بأن ظهور هذه المجموعات المقاومِة المسلحة في عدة مدن بالضفة الغربية وتنامي فعاليتها بصورةٍ تُمكِّن هذه المجموعات من الصمود أمام محاولات اجتثاثها وصولاً إلى تعظيم قدراتها وعديدها، يمكّنها من التصدي للاجتياحات الصهيونية لأيام من الاشتباك والصمود القتالي.
هذا الرهان يمثل في حد ذاته دعماً للاحتمالات التي يقدمها المشهد بأن الضفَّة بمدنها ومخيماتها ذاهبة إلى انفجار أمني أكثر شدة في وجه الاحتلال إلى حدٍ كبير.
هذا الرهان -الذي يطرح نفسه بقوة- تدعمه بثبات حالة التمرد القوية التي تتصف بها هذه التشكيلات المسلحة التي ظهرت في الضفة وطرحت نفسها أيضاً كتحدٍ واضح وصريح وشجاع لكل حالة الـ"لا اشتباك" التي سيطرت لمدة تتجاوز العقد من الزمان على مدن الضفة الغربية والتي تدافع عنها السلطة بدورها وتحافظ عليها بتوظيف القبضة الأمنية لأجهزتها وماكينة مؤسساتها الاجتماعية والإعلامية.
لقد أصبح النموذج في الضفة أكثر وضوحاً، خصوصاً بعد معركة "سيف القدس" وما حملته إلى المشهد الفلسطيني والإقليمي من زخم.
النموذج أصبح محمد الضيف الذي تعلو الهتافات باسمه في مدن ومخيمات الضفة الغربية -وحتى في مناطق الوجود الفلسطيني في الداخل المحتل- وهؤلاء الشبان هم رجاله، وسلاحهم هو سيفه.
أصبح الملثمان أبو عبيدة وأبو حمزة هما الأيقونة الأكثر تألقاً في المجتمع الفلسطيني، فجاء جميل العمّوري وجدد الاشتباك وانضم باسمه إلى هذه القائمة ليصبح نموذجاً يُحتذى وهادياً إلى سبيلٍ آخذٍ بالترسخ، ليتبعه إبراهيم النابلسي بشهادته المشتبكة في الأزقة حتى الطلقة الأخيرة، ثم وديع الحوح وغيرهم ممن حافظ على حالة الاشتباك وقدم نفسه لتثبيتها.
عندما يصبح هؤلاء هم النموذج والمثال نستطيع أن نفهم كيف تمددت حالة الاشتباك في الضفة وكيف أخذت بالتسارع في وتيرة تأثيرها لتصل إلى ما شكلته من زخم.
الاشتباك؛ خيار الشعب وقرار المقاومة
إن هتافات الجمهور الفلسطيني -المتمترس خلف مجموعات الشباب المقاومين- في الضفة الغربية تشي بحالة فلسطينية عارمة مؤيدة لأخذ الواقع نحو حالة اشتباك دائم وتُنبِئ عن مطلبية عالية الصوت بضرورة تغيير واقع "سنوات الهدوء" إلى الأبد.
صار الشباب الفلسطيني في مدن الضفة ومخيماتها يمشي ويردد مقدمات أناشيد وأهازيج مجموعات "عرين الأسود" و"كتيبة جنين"، من قبيل " شوف شوف شوف.. ولَّى زمان الخوف" و "خاوة، نعلِّم عليكم"، إضافة إلى "ما عاد عنّا سكوت" وغيرها.
هذه النداءات واضحة المعالم ودقيقة في ما تحمله من مطالب تتمثل في ضرورة تعظيم حالة الاشتباك المسلح مع الاحتلال، وأن المقاوم قادر على العمل وإيقاع الخسائر في صفوف "جيش" الاحتلال ولجم المستوطنين والدخول على خط فرض واقع جديد.
هذا النَفَس الثوري العارم أصبح الحالة العامة بين الناس، وهو حالة تُقرأ ويبنى عليها مع مسار الأحداث، حالة ليست وليدة مصادفة وبالتأكيد لن تفضي إلى مآلات المصادفة.
لا يخفى عن المتابع للشأن المرتبط بالمقاومة المسلحة في الضفة أنه يوجد مستوى من التنسيق -وإن كان محدوداً جداً في الوقت الراهن وغير واضح المعالم- بين المجموعات المسلحة العاملة في مدن الضفة وبين قيادة المقاومة وقواعدها في قطاع غزة.
نتحدث هنا بالخصوص عن "كتيبة جنين" ومجموعة "عرين الأسود". هذا التنسيق يختلف من مجموعة إلى أخرى بحسب عدة معطيات ووقائع أيضاً هي غير واضحة المعالم وذلك نتيجة لتعقد المشهد الأمني في الضفة وتشابك ارتباطات تشكل مثل هذه الحالة العسكرية.
هنا يجب أن نتذكر جيداً تصريح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين زياد النخالة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي في لقاء خاص عبر قناة الميادين بأن ما يحدث في الضفة ليس عفوياً وأنهم بصدد دعم هذه الانتفاضة وتمددها نحو الداخل المحتل عام 1948، الأمر الذي يشكل بخصوصيته تحدياً وخطراً داهماً إستراتيجياً على الكيان الصهيوني.
هذا الحديث عن وجود التنسيق والتوجيه والدعم يجعل تأملات جمهور المقاومة عموماً في مأمن عندما يكون قرار المقاومة -كمحور- أن مجموعات جنين ونابلس وغيرها ستتطور وتقدم، ما يؤدي إلى انتفاضة مسلحة عارمة.
ستقودنا قراءة المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية بتحري أعماقه جيداً إلى عدة استنتاجات تشكل في الواقع إجابة منطقية على التساؤل حول مآلات العمل المقاوم المسلح هناك وفرص تناميه أو تراجعه:
- يفرض وجود النموذج الفلسطيني المقاوم المسلح والواضح نفسه أمام النموذج المضاد الذي يدافع عن ترك السلاح والاتجاه بمسار سياسي أثبت فشله ومراوحته مكانه بل والتراجع السياسي الواضح على مر عقود طويلة، هذا النموذج المقاتل بروحه وبالسلاح أصبح النموذج المشرِّف والمطلوب فلسطينياً؛ وبالتالي النموذج القائد.
- إن الحالة الشعبية الداعمة للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية هي حالة موجودة واقعاً وآخذة في التوسع والانتشار لتصبح بشكل راسخ هي الحالة العامة والصانعة للحدث، ولتمثل المزاج الشعبي العام الذي يتحدث عن إرادة الشعب الفلسطيني.
- إن حالة التنسيق والدعم الموجودين حكماً بين المجموعات حديثة التشكيل في الضفة الغربية وفصائل المقاومة في غزة في مستويات معينة تجعل من النظرة التفاؤلية لمستقبل حالة عسكرة المقاومة في الضفة نظرة متناسبة مع معطيات الواقع السياسي وأنها في الطريق الصحيح نحو زيادة زخم هذه الحالة وتطويرها.
على ضوء ما سبق؛ يمكننا أن نتحدث بوضوح عن ترسخ المقاومة المسلحة في مدن الضفة الغربية والتطلع بتفاؤل كبير إلى تمددها وتكرارات آتية من عدة نسخ لكتيبتي جنين وبلاطة ومجموعة "عرين الأسود" وغيرها. نحن أمام مخاض ولادة صعب لكنه ناجح ومشرق.