السودان والدفع نحو التطبيع.. كيف فعلوا ذلك؟
ينتقد أحرار السودان الذين يرفضون أن تملي الولايات المتحدة، ومعها "إسرائيل" والغرب، على بلادهم سلوكها وقرارها، وكثيراً من الخيارات السياسية في الفترة الانتقالية.
انضمَّ السودان في كانون الثاني/يناير 2021 إلى البلدان العربية التي طبّعت علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي، وهي الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب.
حكام الخرطوم "الجدد" أقبلوا على "اتفاقيات أبراهام" أو "الاتفاقيات الإبراهيمية" التي عملت على صياغتها الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بعد سلسلة من الاتصالات والمحادثات التي شارك فيها الخرطوم و"تل أبيب"، وجرت بوساطة أميركية وإماراتية مكثّفة، لتبدأ تلك المحادثات باتّخاذ طابع رسمي بعد فترة وجيزة من إطاحة نظام الرئيس السابق عمر البشير في نيسان/أبريل 2019.
لطالما مثّل السودان دولةً عربيةً جامعة وملتزمةً بقضايا الشعوب العربية على مرّ عقود الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. وعلى عكس بعض الدول العربية التي روّجت للتطبيع مع "إسرائيل"، فقد أرسل السودان قوات للقتال ضد "إسرائيل" في الحروب العربية الإسرائيلية الكبرى، وحافظ طوال تاريخه على اعتبار "إسرائيل" دولةً معادية.
في 6 نيسان/أبريل 2021، وافق مجلس الوزراء السوداني على مشروع قانون يقضي بإلغاء قانون 1958 الخاص بمقاطعة "إسرائيل"، ودخل القرار حيز التنفيذ بعدما وافق عليه مجلس السيادة الانتقالي في جلسة مشتركة مع مجلس الوزراء. وبذلك، دخل السودان "الرسمي" في ركب الدول والحكومات المطبعة مع كيان الاحتلال.
وزار لاحقاً وفدٌ سوداني عسكري رفيع المستوى "تل أبيب" سراً في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2021. تكوّن الوفد من اثنين من كبار القادة العسكريين، الفريق حميدتي قائد قوات الدعم السريع، والفريق ميرغني إدريس سليمان، مدير منظومة الصناعات الدفاعية السودانية.
وجرى خلال الزيارة التطرّق إلى الأزمة السياسية في السودان، لا سيَّما بعد مطالبة قوى الثورة عبر تنظيمها عدة تظاهرات بتسليم السلطة للقوى والأطر المدنيّة. وقد مثّلت هذه الزيارة إقحاماً كاملاً للعسكر في جهود تجهيز عملية التطبيع، إيذاناً بتنفيذها لاحقاً بإشراف عسكري واضح.
واستمر التقدّم المدروس بعناية في مسار التطبيع، ليصل بالفريق حميدتي، بصفته قائد قوات الدعم السريع، إلى دعوة وفد أمني إسرائيلي "رفيع المستوى" لزيارة السودان في كانون الثاني/يناير 2022، لتتكرّس ملامح الاستناد إلى الدور الإسرائيلي المتدخّل في تفاصيل المسار السياسي السوداني وعسكرته.
واتضح ذلك أكثر عندما انحصرت لقاءات الوفد الأمني الإسرائيلي - من حيث الأهمية - بقيادات عسكرية وأمنية سودانية، شملت قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق حميدتي ومدير الاستخبارات العامة الفريق إبراهيم مفضل.
تحسين الاقتصاد الوطني.. ذريعةٌ مخادعة
تؤكّد متابعة فاحصة للتسلسل الزمني الخاص بالجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات بين الخرطوم و"تل أبيب"، والمستمرة إلى اليوم، الرهانات المطروحة، وفي مقدمتها سعي حكّام السودان لتوفير موارد نقدية جديدة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية القاسية التي تعيشها البلاد، ولتحقيق درجة من الاستقرار السياسي - لا سيّما أن الواقع السوداني وارتباطاته الدولية مستمران بالتقلّب - سواء تحقق هذا الاستقرار باستخدام قوة السلاح وسطوة العسكر أو بإغداق المال وشراء الأمن.
يواصل المدافعون عن تطبيع السودان علاقاته مع "إسرائيل" إقحام الجانب الاقتصادي في كل طرح للموضوع تقريباً، فالسودان مثقل بدين خارجي قفز من 50.5 مليار دولار أميركي عام 2019 إلى أكثر من 77 مليار دولار عام 2020، أي في غضون عام واحد فحسب - وهي قفزة موجّهة بحسب رأي التيار المضاد للتطبيع - ومعدلات تضخم عالية تقدّر بمئات الأضعاف (أكثر من 300% في بعض الإحصاءات).
لذلك، إنّ مؤيدي خيار "ضرورة السلام" مع "إسرائيل" يتذرعون عبر معاودة استهلاك نقطة أساسية في دفاعهم عن هذا المسار، وهي أن السياسة الواقعية تفرض على السودان سعياً نحو تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" لتلبية المطالب الأميركية وتحقيقها توافقاً مع خيارات الرعاة الإقليميين، وفي مقدمتهم المملكة السعودية والإمارات المتحدة.
وفي نتيجة هذه السياسة - بحسب طرحهم - فإن الاقتصاد السوداني سيتجه نحو التحسن الذي ستفعّله الاتفاقيات والتفاهمات و"المنح" المرتبطة بأخذ هذا الخيار والسير باتجاه تعميقه.
ونظراً إلى حالة الاقتصاد السوداني الذي يشهد انهياراً متواصلاً وسريعاً، فإن الخطة المعلَنَة للحكومة الانتقالية لإنقاذ الاقتصاد كانت تتمثل منذ البداية بالحصول على قروض جديدة، وهي الخطّة التي منحت واشنطن فرصة المقايضة القوية وحرية تقرير السياسات المتّبعة في الخرطوم.
بناء عليه، لجأت الولايات المتحدة – كعادتها - إلى اغتنام فرصة ذهبية لاستخدام سياسة ليّ الذراع في وجه واحد من أفقر البلدان لتطويعه سياسياً، بعدما كانت تنتظر نضوج الظروف السياسية في السودان لتستخدمها.
يرى هذا الفريق أن التطبيع مع "إسرائيل" سيحقق المصلحة السودانية، وخصوصاً في ما يتعلق بالنهوض باقتصاد البلاد، ويعتبر أنّ مزيداً من السير في هذا المسار سيصل بالسودان إلى بوابة ستفتح أمامه طريق الانفتاح على العالم، وصولاً إلى التعاون مع المجتمع الدولي، كما يرى معظم الجنرالات أن لا نهاية لأزمات السودان إلا بالعودة إلى المجتمع الدولي، وأن هذه العودة، أمام الضغط الأميركي، لن تتم إلا عبر التطبيع.
إن الدوافع التي جعلت تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" أولويةً للنظام السوداني في مرحلة ما بعد البشير ترجعنا إلى مقايضة سبق أن عرضتها "إسرائيل" على البشير في 2016، لكنه تردّد في قبولها خوفاً من حدوث رد فعل سياسي من بعض الجهات القريبة منه، لتعود واشنطن وتطرحها على الخرطوم كمقايضة مباشرة، ليتلقّفها حكّامه الحاليون الذين رأوا أنَّهم، بتمثيلهم النقيض التام لنظام البشير في ما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة والقوى الغربية، مطالبون بالحرص على إثبات ذلك تطبيقياً، وفي النتيجة الحرص على إثبات "جدارتهم".
مبررات التطبيع.. خداعٌ مكشوف وهشّ
يقف في السودان تيارٌ واسعٌ يرفض كل هذا السلوك السياسي الرسمي نحو التطبيع. وعلى المستوى السياسي، كما على المستوى الشعبي، ثمة تيارٌ يعارض عملية التطبيع بشدة، ويرى أن هذا الاتجاه لن يكون أبداً حلاً لمشكلات السودان، وأن الحكومة الانتقالية التي تحكمه حالياً لا تملك أصلاً الصلاحيات الدستورية اللازمة لدخول البلاد في اتفاقيات من هذا القبيل.
ويؤكد هذا التيّار الذي يعبّر عن غالبية الشعب السوداني أنّ من دفع باتجاه التطبيع مع "إسرائيل" هم حكّام السودان الحاليون، وبلا أي تفويض شعبي حقيقي يؤهلهم للسير في مثل هذا المسار، وأنّ المستفيد الأول والوحيد منه فقط هم الجنرالات الذين يحتاجون إلى غطاء خارجي.
ويعتبر هذا التيار المناهض للتطبيع والداعي للالتزام بمبدئية السودان التاريخية نحو فلسطين، أنّ هذا المعسكر الذي دفع باتجاه التطبيع صدّر للسودانيين خطاباً مغلوطاً ومبالغاً فيه عن تردي الوضع الاقتصادي في السودان، وعن أن الحل لن يكون إلا عبر التطبيع مع "إسرائيل"، ومن خلال الرضا الأميركي عن السلوك السياسي السوداني.
وينتقد أحرار السودان الذين يرفضون أن تملي الولايات المتحدة، ومعها "إسرائيل" والغرب، على بلادهم سلوكها وقرارها، كثيراً من الخيارات السياسية في الفترة الانتقالية، وعلى رأسها تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، التي يرون أنها تتناقض تماماً، بل وحتى تهزأ، مع الدوافع الثورية التي خرج لأجلها السودانيون في الشوارع مطالبين بالحرية والعدالة والمستقبل والانعتاق من الديكتاتوريّة، بل يرون أنّها تواصل السير بالبلاد على الدروب المعهودة ذاتها من النفعيّة والانتهازيّة.
ويذكر المعترضون على السير بالسودان في طريق التطبيع أنّ محاولات دفع السودان الرسمي نحو التطبيع هي جهود قديمة ومتواصلة، فلا يمكن فصل فرض الولايات المتحدة حظرها التجاري الشامل على السودان عام 1997، وفرض الاتحاد الأوروبي حظره على بيع السلاح للبلاد عام 1994، وحذو الأمم المتحدة حذوه بفرض حظر على بيع السلاح عام 2004، بالتلازم مع عقوبات على السفر، وتجميد حركة الأصول، ثم تشديدها عقوباتها في الأعوام 2005 و2010 و2012، عن محاولات التأسيس لمثل هذا السلوك.
وقد بدأت الولايات المتحدة برفع العقوبات تدريجياً عن السودان عام 2017، مع انتقاله إلى الصف الخليجي ومشاركته في حرب اليمن، لترفعه من قوائم الإرهاب في أيّار/مايو 2021، مع انخراطه في مسار التطبيع الذي "قرره" الجنرالات وساروا نحوه مسرعين.
يبدو واضحاً أنّ الدور الإسرائيلي في المشهد السياسي في السودان مستمرٌ وآخذ في التجذّر، ولن ينتهي أو يتوقف حتى يتم ضمان نجاح الجهة المطلوب وصولها إلى سدّة الحكم في الخرطوم، لاعتبارات ترتبط بالخطط الإستراتيجيّة التي تضعها واشنطن للمنطقة، والتي تمثّل "تل أبيب" مركزاً فيها، ولكن يظهر جلياً أنّ السودان سيكون فيها الخاسر الأبرز، ولن "يربح" منها إلا مزيداً من الاحتقان الشعبي وتدهور "الشرعية" التي بالكاد يحصل عليها الحاكمون هناك.
ويظهر واضحاً أكثر أنّ تبرير جنرالات السودان تطبيعهم لا يعدو أن يكون خطاباً محشوّاً بمغالطات كثيرة، وبمحاولات خداع لا تنتهي، يستهدفون بها الشارع السوداني الرافض هذا المسار المهين الذي يحاول – عبثاً - فصل الشعب السوداني عن امتداده العربي والإسلامي الموجود في عمق قضايا الأمة، وفي مقدمتها فلسطين الجرح الدامي الذي يزداد تفتّحاً.