التّجويع.. سلاحٌ استراتيجيّ نحو الإبادة
سلاح التّجويع أحد الأسلحة الفتّاكة التي تعتمدها "إسرائيل" في حرب الإبادة على قطاع غزّة، وتصرّ على استخدامه سلاحاً استراتيجيّاً عسكريّاً بعد فشل سلاح التّرويع والتّهجير وخيار المقاومة.
حرب التّجويع التي تقودها "إسرائيل" في غزّة هي نتاج لقرار سياسيّ واضح منذ بدء العدوان. في الأيّام التي تلت هجوم حماس في "طوفان الأقصى" أعلن وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي يسرائيل كاتس أنه أمر بقطع المياه والكهرباء والوقود. في إشارة واضحة منه إلى أنّ ما كان لن يكون، وأنها خطوة في إحكام الحصار أكثر وأكثر.
وفي اليوم ذاته في 9 تشرين الأول/أكتوبر أعلن الوزير غالانت فرض "حصار كامل" على القطاع وأنه لن يكون هناك طعام ولن يكون هناك وقود وكلّ شيء سيكون مغلقاً. وحينها أطلق تصريحه الشّهير سيّئ اللّفظ والسّمعة: "نحن نقاتل حيوانات بشريّة". ولاحقاً انضمّ إليه وزير الأمن القومي بن غفير حيث أكّد أنّ "إسرائيل" لن تُدخل مساعدات إنسانيّة.
أيضاً في اليوم التالي طرح نتنياهو المسألة بتصريحات صارخة بهذا الشأن وقال: "لن نسمح بالمساعدات الإنسانيّة في شكل أغذية وأدوية من أراضينا إلى قطاع غزّة".
كلّ ذلك جاء بمثابة إعلان عن نيّة الاحتلال الإسرائيلي حرمان الفلسطينيين في قطاع غزّة من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمّد عرقلة الإمدادات الإغاثيّة. كلّ ذلك كانت ترافقه دعوات إسرائيليّة تحريضيّة على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل "محو غزّة" أو "تسويتها بالأرض وتدميرها".
لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بمنع دخول المواد الغذائيّة إلى القطاع، فقام بتدمير ثلث الأراضي الزّراعيّة في غزّة وثلث البنية التحتيّة للرّي وكلّها مصادر حيويّة للغذاء.
تأثير هذه الإجراءات كان واضحاً، فقد حذّرت وكالات الإغاثة من أنّ سكان غزّة معرّضون لخطر المجاعة. كلّ هذه المعاناة كانت من صنع الاحتلال وهي نتيجة مباشرة لإدارة الحرب الإسرائيلية هناك. مثلها مثل معظم المجاعات التي اعتمدتها "إسرائيل" في تاريخ طويل، فمنذ العام 67 عندما احتلّت "إسرائيل" قطاع غزّة سيطرت مباشرة على سلّة الغذاء الفلسطينيّة وهندست بقرارات سياسيّة المدخول الغذائي لسكّانها، واستخدمت الغذاء كسلاح لإدارة شؤون السّكان في القطاع. على مدار عقود من الزّمن، وبشكل منهجي ألحقت "إسرائيل" الضّرر بقدرة القطاع على إنتاج المواد الغذائيّة الخاصة به، كما قلّلت من قدرته على الوصول إلى المياه الصّالحة للشّرب والغذاء.
إنّ فهم سياق هذه السياسات طويلة الأمد أمر غاية في الأهميّة من أجل فهم المجاعة التي تحصل الآن في قطاع غزّة. كان واضحاً منذ بدء العدوان أنّ وضع الحصار على قطاع غزّة، ووضع القطاع على شفا كارثة إنسانيّة أو مجاعة سيتحوّل إلى سلاح استراتيجي عسكري لدى الاحتلال الإسرائيلي.
الكارثة الإنسانيّة في غزّة لم تحصل كنتيجة تلقائيّة لاستمرار الحرب فقط وإنّما هي بقرار سياسيّ مقصود ومفتعل، استخدام "إسرائيل" لسلاح التّجويع يأتي من باب إعلان العدوان على كلّ شيء في القطاع بفعل التّدمير وإلحاق الضّرر الكبير والنّيل من النّاس وصمودهم نحو التّهجير أو الإبادة.
فقد بدأت "إسرائيل" حرب التّجويع باستهداف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا. ودفعت بعض الدّول لتعليق تمويلها، وجعلت الوكالة تنشغل عن خدمة الناس بالدفاع عن نفسها. نتيجة لذلك كان يصبر النّاس في القطاع على القتل والتّشريد، لكنّ سلاح التّجويع يفتك بهم. وفي قراءة أهداف تمسّك الاحتلال بسلاح التّجويع في قطاع غزة يمكن التطرّق الى أربعة عوامل:
1. "إسرائيل" ما زالت متمسّكة بخيار القتل والإبادة من أجل تحقيق شيء ما في فعل التفاوض الذي حضر مجدّداً ضمن أجندة العمل الإسرائيلي. كتجويع الناس من أجل تقوية فعل المناورة لها على طاولة التفاوض إذا استؤنفت بشكل جدّي. "إسرائيل" تسعى منذ اللحظة الأولى من أجل إحداث شرخ عميق بين المقاومة والحاضنة الشعبية. بمعنى تعتقد "إسرائيل" أنّ كلّ ذلك سيدفع النّاس لأن تنتفض على حماس من أجل الضّغط على إتمام صفقة تبادل الأسرى بأيّ ثمن.
2. إصرار "إسرائيل" بقسوة مفرطة من أجل إقناع المجتمع الغزاوي أن لا جدوى من المقاومة. الكارثة الإنسانية هي حالة مفتعلة تمارسها "إسرائيل" من خلاله عقاب جماعيّ على كلّ المجتمع الغزاوي، وتريد أن تحمّله مسؤوليّة 7 أكتوبر وطوفان الأقصى وتكلفة خيار المقاومة وجعلها تدفع ثمناً كبيراً بشكل جماعي لا يمكن تحمّله و"إسرائيل" فعليّاً تسعى بشكل كامل إلى إثارة نقاشات أخلاقيّة وجدل بين الفلسطينيّين حول الجدوى، ومن جهة أخرى حول الرّبح والخسارة في سعي "إسرائيل" لاستعادة قوّة الرّدع والسّيطرة على المشهد هناك.
ولا سيما فيما يتعلّق بقضيّة المحاصرة حول مفهوم وخيار المقاومة المسلّحة من أجندة خيارات الشعب الفلسطيني بشكل عام نظراً للتّكلفة التي لا يمكن تحمّلها كشعب من مقوّمات الحياة الأساسيّة.
3. ما زالت "إسرائيل" منشغلة فيما يسمّى بـ "اليوم التالي" خصوصاً أن الإدارة الأميركية تضغط باتجاه ذلك، خصوصاً بقضية من سيحكم بعد العدوان وأي شكل أو منظومة سياسية ستكون لغزة. التحكّم في لوجستيات المساعدات هي أيضاً استراتيجية إسرائيلية عسكرية من أجل التحكّم في طبيعة النظام الذي يصل قطاع غزة.
وبطبيعة الحال يحدث ذلك عندما يوصل الاحتلال القطاع الى حدّ المجاعة، والأهمّ تحويل شُحّ الموارد الأساسيّة وكأنّها مسألّة روتينيّة وليست أزمة عابرة، ويجب التكيّف معها، بمعنى تحويل مسألة المساعدات الإنسانيّة الضروريّة إلى أمر صعب ومرتبط بـ "جيش" الاحتلال ومنظومته كي يتحوّل فعل التعاطي معه إلى قضيّة حياة أو موت.
4. قد يكون أحد أهم الأمور التي تنجزها المقاومة في قطاع غزّة هو قدرتها على استعادة دورها الخدماتي والتّنظيمي وأحياناً الشّرطي، إلى جانب المقوّمات العسكرية التي كانت حاضرة خصوصاً في منطقة شمال القطاع بعد أن أعلنت "إسرائيل" حين انسحابها أنّها قضت على مقدّرات حماس هناك.
لذلك هي سعت منذ اللحظة الأولى إلى تجويع شمال القطاع من أجل الضّغط على المقاومة هناك ونسف قدراتها التنظيمية، خصوصاً في المناطق التي تنجح من خلالها باستعادة دورها التنظيمي. وما زال الشمال يعاني حتى هذه اللحظة من مجاعة مفتعلة اتّبعتها "إسرائيل" من أجل النّيل من رمزيّة الصّمود هناك وقوّة وقدرة المقاومة، في إشارة إلى محاولة هندسة الموت والإبادة والتهجير بطريقة التجويع كسلاح استراتيجي تتمسّك به "إسرائيل" في طريقها للبحث عن صورة نصر لها في معركتها مع المقاومة في قطاع غزّة منذ 9 شهور.
سلاح التّجويع أحد الأسلحة الفتّاكة التي تعتمدها "إسرائيل" في حرب الإبادة على قطاع غزّة، وتصرّ على استخدامه سلاحاً استراتيجيّاً عسكريّاً بعد فشل سلاح التّرويع والتّهجير وخيار المقاومة.
قد يطالب العالم "إسرائيل" بالتخلّي عن سلاح التجويع لأن المجاعة في القطاع أصبحت كارثيّة، ولكنّ "إسرائيل" ماضية في ذلك إلى جانب وسائل الحرب كافة لأنها ما زالت متمسّكة بخيار الانتقام من غزّة النّموذج، والإفراط في القوّة بعد 9 شهور جعل "إسرائيل" غير قادرة على استعادة قوة الرّدع ولا على تحقيق شيء سوى المزيد من القتل والدّمار والتّجويع.