استشراف موقع إيران التفاوضي بعد جولة بايدن
إذا كانت الجمهورية الإسلامية قد رفضت إدراج أي ملف غير الملف النووي والضمانات المتعلقة به في جولات التفاوض الثماني الأخيرة، فإنها أصرّت، في المقابل، على ألا تقدّم للكيان الإسرائيلي أي تطمينات تتعلّق بمحور المقاومة.
لم تكن جولة الرئيس الأميركي جون بايدن، في الشرق الأوسط، على مستوى تطلعات الأطراف الإقليمية، وخصوصاً الإسرائيلية والسعودية منها، إذ عمد إلى لجم طموحهما إلى تأليف تحالف ذي مهمة محددة، تتعلّق بكيفية تقديم خيار مواجهة الجمهورية الإسلامية عسكرياً، كخيار وحيد صالح لحل أزمتهما مع برنامجها النووي وموقعها الإقليمي.
وإذا كانت فكرة الحلف الإقليمي، المرتكز إلى محاولة إدماج الكيان الصهيوني في المنظومة الإقليمية، تقع في قلب اهتمامات البيروقراطية العميقة في الولايات المتحدة الأميركية، فإن قراءة متأنية لأولويات الولايات المتحدة الإستراتيجية، تؤكد أن فكرة الدخول في مواجهة عسكرية مع الجمهورية الإسلامية تحتل موقعاً متأخراً خلف بعض أزماتها الداخلية والخارجية، فالتضخم والتفلّت الأمني المتنقل داخل ولاياتها، إضافة إلى آثار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ومواجهة التمدد الصيني، كلها أمور تشكّل محور اهتمام الإدارة الأميركية، بحيث تربط بين تعقيدات هذه التحديات وخسارة موقعها المتقدّم على رأس النظام العالمي.
ولأن القراءة الأميركية لمسار سياساتها الخارجية، تستند إلى تقديرات دوائر القرار فيها، وفق ما يخدم مصالحها ورؤاها الإستراتيجية، فإن ما يمكن تحقيقه، كمزايا آنية، من خلال الانجرار خلف أهواء حلفائها في المنطقة، لم يُغرِ إدارة جون بايدن، التي لم تجد أي حرج، فدفعت بوضوح نحو تطويع ما يمكن اعتباره طموحاتٍ إسرائيلية وسعودية جائحة، بغية تسخيرها لخدمة أهداف تراها واقعية وعقلانية. فالإدارة الأميركية متيقنة من خطأ الانجرار إلى حرب على الجمهورية الإسلامية، إذ إن القوة التي استطاعت هذه الأخيرة مراكمتها، إضافة إلى منظومة حلفائها القادرين على المبادرة، لا تتوافق والمسار التقليدي للحروب الأميركية، إذ تحدد ساعة الصفر بعد عزل الدولة المستهدفة واستنزافها، وإفقادها أي قدرة على السيطرة. وهي تعتمد في تنفيذ هجومها على منظومة من الحلفاء القادرين، من حيث ثقلهم وعددهم، على إسباغ صفة من الشرعية على عملياتها.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد أخفقت عبر نظام معقد من العقوبات، في استنزاف الجمهورية الإسلامية، وإفقادها القدرة على السيطرة والمبادرة، فإن ما سوقّت له الولايات المتحدة، منذ أكثر من أربعة عقود، عن أنها قد نجحت في عزل الجمهورية الإسلامية وإظهارها دولةً خارجة على الشرعية، بسبب برنامجها النووي، لم يعد واقعياً منذ انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاقية النووية عام 2018 على الأقل.
في المقابل، نجح الجانب الإيراني مستفيداً من قصر رؤية دونالد ترامب، والتحولات التي طرأت على واقع العلاقات الدولية نتيجة الاندفاعة الصينية والروسية، ورفض تخلّي الولايات المتحدة عن سلوكها الأحادي الجانب، الذي مارسته منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي أدى إلى تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر، ابتداءً من قصف يوغسلافيا، وصولاً إلى حصار فنزويلا، مروراً بالعراق وأفغانستان ورؤيته إلى حل القضية الفلسطينية، فضلاً عن توتير الأجواء في أوروبا وشرقها، نجح في تجنّب عزله، وحجز موقع متقدّم له في ترتيبات النظام الدولي المستجد.
وإضافة إلى إصراره على تحديد مسار العودة إلى خطة العمل المشتركة لعام 2015، بما يحفظ حقوقه النووية كاملة، ويساعد في تحقيق الاستفادة الشاملة بحدها الأقصى من مزايا الاتفاقية، عبر الرفع الشامل للعقوبات، وضمان عدم خروج الولايات المتحدة منه، سوّق الجانب الإيراني لإظهار العودة إلى الاتفاقية على أنها حاجة غربية قبل أن تكون إيرانية. والتوجّه الأوروبي للبحث عن مصادر غير روسية، للنفط والغاز، من أجل سد النقص الناجم عن الحرب الأوكرانية والحظر الأميركي على روسيا، قد استُغل بما يؤكّد عدم استطاعة الغرب الالتفاف على المصادر الإيرانية.
ولما كان الطرف الأميركي قد سلّم بضرورة البحث عما يوفر الحاجة الأوروبية من مصادر الطاقة قبل الشتاء، فقد أمكن الجمهورية الإسلامية أن تؤكد أن فكرة عزلها تجافي العقلانية والواقعية، ولذلك أخذت تحاور القوى الغربية وفق منطق الدولة ذات الأهمية الإستراتيجية القادرة على تلبية حاجات هذه القوى متى ضمنت مصالحها.
من ناحية أخرى، استطاعت الجمهورية الإسلامية إثبات عقم الخيارات الإستراتيجية للقوى المعادية لها في الإقليم، فالموقع التفاوضي للجمهورية الإسلامية، بقي قائماً ضمن الثوابت التفاوضية نفسها، ولم يتأثر بالتهديدات المتكررة والمتواترة التي دأب الكيان الإسرائيلي في إطلاقها، وإذا كان الكيان الإسرائيلي مطمئناً إلى إصرار الولايات المتحدة الأميركية على تقييد البرنامج النووي الإيراني بغية عدم تطويره عسكرياً، فإن رؤيته الإستراتيجية تتخطى هذا الهدف، من خلال محاولته تقييد القدرات الباليستية الإيرانية، إضافة إلى ما يراه نفوذاً إيرانياً في الإقليم.
وعليه، مارس الكيان الإسرائيلي ضغوطاً كبيرة على حلفائه الموثوق بهم، في مجموعة الدول الكبرى، من أجل أن تشمل المفاوضات النووية ملفات تتعلّق بالموقع الإيراني ضمن التوازن الإقليمي، الذي قد يؤثر في أمن الكيان الإسرائيلي مستقبلاً.
وإذا كانت الجمهورية الإسلامية قد رفضت إدراج أي ملف غير الملف النووي والضمانات المتعلقة به في جولات التفاوض الثماني الأخيرة، فإنها أصرّت، في المقابل، على ألا تقدّم للكيان الإسرائيلي أي تطمينات تتعلّق بمحور المقاومة، رافضةً التطرّق إلى أي ترتيبات أمنية تتعلّق بمحور المقاومة وأطرافه. وإضافة إلى ذلك، رفضت مشاركة القوى الإقليمية في جولات التفاوض، وعملت لتنفيذ رؤيتها، في حل القضايا الإقليمية العالقة من خلال التفاوض المباشر بين الأطراف الإقليمية، ومن دون أي تدخل خارجي.
ولما كانت الأطراف الإقليمية بأقطابها الإسرائيلية والسعودية خاصة، قد حاولت تخطّي ما عدّته تراخياً أميركياً، فقد عمدت عبر محاولة تعميق علاقاتها ونسج أواصر حلف يقدّم للولايات المتحدة إغراءات من الصعب مقاومتها، إلى دفع الولايات المتحدة للقبول بإعادة ترتيب أولوياتها، وإيلاء ملف موقع الجمهورية الإسلامية أهمية أكبر من الحالية. غير أن نتائج الزيارة التي أجراها جون بايدن لـ"إسرائيل" والمملكة العربية السعودية، قد أعادت طموحات هاتين الدولتين إلى واقع تحدّد جنباته الواقعية الأميركية، المتيقنة من مركزية الدور الإيراني، وعدم القدرة على تخطيه.
إضافة إلى ذلك، لم تربط الجمهورية الإسلامية مصيرها بنتائج المفاوضات النووية، إذ وجدت في الرؤية الروسية لواقع النظام الدولي، إضافة إلى التناقضات الإقليمية التي لم تسمح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالذهاب إلى جدة، فرصة للتأكيد موقعها الإقليمي الحيوي، ولإظهار نيتها تخطي مسألة ربط مسار علاقاتها الخارجية بنتائج الاتفاقية مع الولايات المتحدة، إذ أظهرت يقينها بتراجع مستوى الأهمية الحيوية لنتائج هذه المفاوضات، وعليه، فإنها لم تراعِ وجود جون بايدن في المنطقة، وذهبت في اتجاه تنظيم قمة ثلاثية ضمت إلى رئيسها الرئيسين الروسي والتركي. ونظراً إلى ما جرى التشاور فيه في هذه القمة، يمكن القول إن الجمهورية الإسلامية قد تخطت إشكالية مركزية الولايات المتحدة الأميركية وضرورة التوافق معها.
وعليه، إذا كانت الجمهورية الإسلامية منفتحة على حل قضاياها العالقة، فإن هذا الانفتاح يبقى مرتبطاً بالرؤية الإيرانية المرتكزة إلى مجموعة من الثوابت السيادية، التي قد تُنعت في أحيان كثيرة بالمتشدّدة، نتيجة عدم ملاءمتها السياسات النمطية التي يحرص الغرب على إسقاطها على القوى الأخرى. فإذا كان الواقع الدولي يفترض انتفاء أي سبب قد يدفع الجمهورية الإسلامية إلى التغيير في سلوكها التفاوضي، فإن الواقعية الإيرانية تفترض ضرورة التوصّل إلى حلول تمنحها مزايا فقدتها منذ عقود. وعليه فإن علاقة جدلية تجمع بين الانفتاح على الحلول والتمسّك بالثوابت.