هل ستنتصر "النخبة البترودولارية" فعلاً لفلسطين؟

سيكون الشكر أكثر من مقدار سُمسمة. ونحن في الانتظار. ولكن ليس إلى وقت طويل!

  • الحياة هي تفاعُل مستمر بين المكوِّن الجيو - اقتصادي وقوة الموارد الطبيعية
    الحياة هي تفاعُل مستمر بين المكوِّن الجيو - اقتصادي وقوة الموارد الطبيعية

‏في أعقاب التصريحات العلنية لبعض رؤساء الأنظمة العربية في "قمة جدة"، وعندما قاموا، في خطابهم الإعلامي السياسي، بتأكيد موقفهم تجاه الحق الفلسطيني، وما تبع هذه التصريحات من أصوات فلسطينية رسمية قليلة (من دائرة الرئيس محمود عباس، عبر تصدير الشكر لهم)، نقول إن العرفان جميل، من دون شك، والشكر من عمق القلب واجب مُقَدَّر، إلّا أنه، كي لا تبقى هذه التصريحات في إطار دائرة الاستهلاك الإعلامي، على هذا الخطاب أن يتحوّل، من مجرّد تصريحات وبيانات وخطابات، إلى أداءٍ جماعيّ ذي شروط حاسمة تجاه أميركا وجو بايدن في ‫واشنطن، ويُوضَع إلى جانبه جدولٌ زمنيّ للتطبيق؛ أي: طَبِّقوا العدالة تجاه شعب ‫فلسطين الآن، أو خلال مدة محدَّدة أقصاها تاريخ كذا وكذا، وإلّا فلن نتعامل معكم في هذه المواضيع. ووفق هذا المبدأ فقط، عندها سنحصل على مؤشر، مفاده أن هذه الأنظمة تحترم شعوبها المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، وتُثبت للجميع أنها تسهر فعلاً على المصالح العربية، وتهمّها المقدَّسات الإسلامية والمسيحية.

وحينها سيرى الشعب الفلسطيني أن هذه الخطابات الرسمية لا تعني 'البيزنس"، وليست "إنشاءً" في الفضاء العمومي، وأنها تسعى بصدق لإنهاء معاناته تحت الاحتلال الجاثم فوق صدره منذ نحو 75 عاماً. ولا يؤخَذ مما مرّ أنه ليس مرحَّباً بالخطاب الرسمي، لكن إن لم يتم تبني النهج العملي، فستبقى كل التصريحات عبارة عن حبر "مُخدِّر" على ورق، ولن تُثمر أيّ حل للمأساة الفلسطينية، بينما الصفقات بين أنظمة عربية و"دولة" الأپارتهايد الاحتلالي الإسرائيلي سارية ومطبَّقة على ما يرام، وتصبّ في الأساس في منفعة الاحتلال. وهذا ما يؤدي إلى الشعور بالمهانة المستمرة والإحباط، وإلى موقف صارم تنطلق من حناجره شعارات التخوين لأي تطبيع قائم مع الكيان الصهيوني، وتتكاثر نتيجةً له نسبة العرب المؤمنين بنهج المقاومة.

وانطلاقاً من السببية، التي أشرنا إليها أعلاه، ومن الواقعية ذاتها، نُذَكِّر بأن الحياة هي تفاعُل مستمر بين المكوِّن الجيو - اقتصادي وقوة الموارد الطبيعية (البترول والغاز وكل ما هو مستخرَج من الأرض، إلى جانب استثمارات الصناديق السيادية)، وبين المكون الجيو - سياسي، إذ يخلق هذا التلاقح عدداً من الفرص التي يُنتجها وجود شخص محنَّك، أو نظام معيَّن، في بقعة جغرافية محدَّدة، يعرف من أين تؤكَل الكتف، لتُتاح له فرصة تبنّي المواقف الخلّاقة التي قد يبلورها عن قناعة، ويتبنّاها في خدمة قضايا يؤمن بها، مثل القضية الفلسطينية. 

بكلمات أخرى، نقول إننا لا نرى منفعة من "العقائدية المتزمتة" (الدوغماتية أو التوجهات النابعة من تحجّر فكري في مشاهدة التطورات) التي يتبنّاها البعض. وبناءً عليه، فإننا نؤمن بأن الإنسان - الحاكم (أو النظام) والمطّلع على مجريات الأحداث، بطريقة علمية – مهنية، يتابع التحولات التي تجري في عالمنا عندما تحدث، ويلاحظ كل مدخلات مركباتها ونفوذ مخرجاتها.

وجزء مما نراه من متابعة عملية ضمان الأمن الروسي في أوكرانيا، وحرب الناتو على روسيا، ومعركة الطاقة الدائرة بين روسيا والصين (ودول "البريكس") من جهة، وحلف شمال الاطلسي من جهة أخرى، والتي غيّرت موازين التحالفات وحسابات الأطراف، ومنها جولة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي انكسر لمحمد بن سلمان، بعد أن كان تبنّى موقفاً ادّعى أنه متوافق مع إيمانه بـ"حقوق الإنسان"، ليتضح أنه يقايض هذه الادعاءات الزائفة بمصلحة أميركا الاقتصادية... نقول بصراحة إن هذه الوضعية منحت محمد بن سلمان (وربما السعودية وجميع دول مجلس التعاون الخليجي، الغنية بثروتها الطبيعية وصناديقها السيادية)، مساحةَ مناورة واسعةً امام أميركا والناتو (قلّما تحدث في العلاقات الدولية)، بنسبة نفوذ وقيمة غير مسبوقَين حالياً، إلى درجه أنه يمكن لهذه الدول الخليجية (محمد بن سلمان في الأساس) استخدام هذا النفوذ النادر من أجل فرض حل للقضية الفلسطينية، والذي (ابن سلمان) إن قرّر اتخاذ موقف كهذا، فسيتحول من شخصية معزولة، عندما كان في مطلع تعيينه وبداية تجربته في الحكم، إلى شخصية قد تنال إعجاب العالَمَين العربي والإسلامي وأحرار العالم، على الرغم من كل ما حدث معه في الأعوام الخمسة الماضية. 

هذا سيزاوج الحال والمزاج السائدَين في أوساط الشعب الفلسطيني. وهنا، بناءً على معرفة (تعتمد على أحاديث شخصية متعددة)، بالإضافة إلى المشاهدة الإنثروبولوجية، وإلى القراءة التي تستند إلى الإحصاء والمتابعة المستمرَّين للأوضاع، فإننا لن نجد شخصاً واحداً في السلطة الفلسطينية في رام الله، ولا حتى من أقرب المقربين إلى الرئيس محمود عباس، ولا هو ذاته، على استعداد للقول إن زيارة بايدن قدّمت أمراً قيد أنملة إلى فلسطين، في كفاحها لإزالة الاحتلال (ولمن يؤمن بحل) وإقامة الدولة الفلسطينية وفق حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، بل إنها أتت أولاً لخدمة أهداف جو بايدن في الصراع على الطاقة، وثانياً لخدمته في الانتخابات النصفية للكونغرس، وثالثاً لخدمة الاحتلال الإسرائيلي، وفي محاولة لأن يُظهر للرأي العام، عالمياً وأميركياً، أنه زار بيت لحم والقدس الشرقية المحتلَّتين ثلاث ساعات فقط، كي يوظّف ذلك في خداع أنظمة الخليج في أنه "ملتزم إيجادَ حلّ"، لا احد يعرف إن كان سيأتي من طرفه، وفي أي وقت. 

وما يحسن بنا الإحاطة به هنا، هو القول إن في التعامل عبر وضع الشروط، وفقط في إطار جدول زمني محدَّد، سنكتشف أن منسوب تبعية هذه الأنظمة وخضوعها لواشنطن أخذ بالتراجع، وأن ميزان القوة في المعادلة الدولية المتحكّمة في القضية الفلسطينية، وتحديداً عندما تنتصر النخبة العربية (النفطية والمالية) لفلسطين، تغيّر. فهل يمكن لهذا أن يحدث؟ بالتأكيد، فحيث الإرادة هناك الطريق. وعندها، سيكون الشكر أكثر من مقدار سُمسمة. ونحن في الانتظار. ولكن ليس إلى وقت طويل!