ما بعد" الخيار الصيني"
التقارب بين طهران والرياض، رغم أهميتها، والآمال التي تثيرها، لا تزال هشة، ومعرّضة لانتكاسة، كما أن علاقات طهران مع القوى الأخرى في المنطقة مرتبطة بأمور خاصة بالدول الأخرى
تبدو خطوة إعادة العلاقات بين الرياض وطهران برعاية بكين " قفزة كبرى" في رمال الشرق الأوسط المتحركة، وتجسيداً جديداً لإرهاصات مخاض نظام عالمي جديد، وبداية حرب باردة جديدة طرفاها الولايات المتحدة والصين، وبقدر ما أثارت هذه الخطوة من آمال كبيرة وتوقعات عظيمة، فإنها تطرح في الوقت ذاته تساؤلات حول ما بعد الخيار الصيني لتسوية النزاعات مقابل " الخيار الأميركي". في هذه القراءة، سنحاول أن نرى لماذا وصلنا إلى هنا وماذا عن المستقبل؟
الملاحظة الأولى: تعدّ السعودية أحدث الأطراف التي قررت اللجوء إلى بكين لتسوية بعض قضاياها الملحّة، وأبرزها علاقتها المتوترة مع إيران. وخطوة الرياض تؤكد أن " الخيار الصيني" أكثر جاذبية، فهو يقدّم "صفقة أحسن": بناء القدرات وتحسين مستوى المعيشة، وفي المقابل، تقدم
أميركا "الوصفة القديمة": الوصفة الأمنية والتهديدات، والغزو العسكري لإعادة بناء الدول، وتمزيق مجتمعات وشعوب انهارت مستويات معيشتها. ولعلّ المثال الحيّ لوصفة أميركا والغرب هو أوكرانيا، التي باتت تعدّ تجسيداً للوعد الأميركي "دولة منقوصة السيادة والأرض"، وكومة من الدمار. وأحسب أن محاولات واشنطن و"تل أبيب" جر الرياض والخليج للتورط مثل أوكرانيا لم تلق تجاوباً.
- الملاحظة الثانية: بات واضحاً أن للصين مصالح حيوية تتطلب منها أن تنغمس في قضايا المنطقة، ولكنها مصرّة على شروطها وأسلوبها وتوقيتها. الصين بدأت تهتم بقوة بتطورات الشرق الأوسط، وتتصرف كدولة عظمى لها أذرع ودرجات من النفوذ، وبإمكانها أن تقرأ الأحداث وتؤثر فيها. ومؤخراً، وعد الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يتبوأ هذا المنصب لولاية ثالثة، بأن يكون عند الثقة التي منحته إياها البلاد، ووعد بأن يركز على تطوير الاقتصاد ويرفض ضغوط الخارج، أي الولايات المتحدة.
الملاحظة الثالثة: أن احتمالات المصالحة السعودية -الإيرانية الشاملة تقلل بشكل كبير من مخاطر التصعيد العسكري في الشرق الأوسط، وبالتالي المخاطر على الاقتصاد الصيني. ومن نتائج ذلك حدوث انفراج في دول الشرق الأوسط الأخرى.
- الملاحظة الرابعة: أن استئناف العلاقات السعودية الإيرانية خطوة مهمة ستتبعها تغييرات إقليمية، والوضع في لبنان مرشح للاستفادة من توافق بين طهران والرياض، والحرب على اليمن تتجه نحو آفاق حل، وضربة شديدة لمحاولات الإغراء والضغط على السعودية للتقارب مع "إسرائيل"، وبات واضحاً أن السعودية لا تعتزم التطبيع مع "إسرائيل" في الوقت الحالي، والاتفاق يوجّه ضربة لمحاولات "تل أبيب" إقامة تحالف شرق أوسطي ضد طهران. وأغلب الظن أن الحديث عن "الناتو" العربي قد دخل مرحلة" تأجيل عميقة."
الملاحظة الخامسة: أن بكين بهدوء تبدد الادعاء الغربي بأن الصين غير راغبة وغير قادرة على الانخراط في أزمات الشرق الأوسط، وفيما تبدو الرياض أكثر إصراراً وعلانية بل وتحدياً، في جهودها الدؤوبة لتنويع سياستها الخارجية، فإنها تنجذب بشكل متزايد نحو الصين وروسيا. وأغلب الظن أن النسخة الأميركية -الصينية من الحرب الباردة تقترب بسرعة من الشرق الأوسط.
- الملاحظة السادسة: أن الصين مصرّة على" القوة الناعمة" وليس" القوة الخشنة". وسوف نشهد في المرحلة المقبلة حرصاً على تقديم
رؤاها الثقافية، كما أنها أدركت جوهر اللعبة سواء داخلياً أو خارجياً، والتي تتلخص في شعار "الاقتصاد يا غبي".
- الملاحظة السابعة: لم يكن ما حدث إلا قمة جبل الثلج في جوهر الحضور الصيني، ويعكس تفاعلات ضخمة في طريق ذو اتجاهين، كما أن حرص الرياض وطهران على إعطاء " جائزة كبرى" لبكين يعكس حرصاً كبيراً من القوتين على " تموضع علاقاتهما" مع العملاق الصيني بصورة متميزة. وهنا سؤال: ماذا تريد الأطراف في المقابل؟
الملاحظة الثامنة: أن الصينيين مولعون دوماً بالسؤال عن اليوم التالي، وبعد نجاح بكين، أحسب أن أطرافاً عدة سوف ترغب، بل سوف تطلب أن تتولى بكين الوساطة وحل المشكلات. ويبدو أن الحرب على اليمن وتسوية الأزمة السياسية في لبنان ربما تكون الأقرب لعقد صفقات تسهل تطبيع علاقات الرياض وطهران.
لكن قائمة النزاعات المتفجرة تطول في المنطقة. وليس بالضرورة أن تدوم النجاحات. والسؤال الآخر: هل ستقف واشنطن والغرب متفرجين؟ الإجابة هي قطعاً، لا.
- الملاحظة التاسعة: دعونا لا نستعجل الحديث عن "قفزات كبرى" وحلول سريعة للقضايا المعقدة. في ما يخص خطوة الرياض وطهران، فإننا أمام إجراءات بناء ثقة، وعملية هشة بحاجة إلى رعاية وحرص من الأطراف كافة، ويمكن البدء بمحاولات لفض الاشتباك ووقف التراشق الإعلامي، وفي اعتقادي، الامتناع عن إثارة "توقعات مبالغ فيها"، و تزامناً مع ذلك، حث أطراف الحرب في اليمن على تجديد الهدنة، واستمرار تبريد الموقف في ملفات أخرى وتشجيع طهران والرياض على الوصول إلى تسويات مريحة في لبنان وقبول دخول أطراف أخرى في مسألة تسوية أزمة سوريا.
الملاحظة العاشرة: أغلب الظن أن منطقة الشرق الأوسط ومشكلاتها، بل وتسوية صراعاتها، لم تعد ساحة خاصة بواشنطن والعواصم الغربية حصراً، بل تزايدت أعداد اللاعبين، وبدأ لاعبون إقليميون في البحث عن أدوارهم القديمة بصيغ جديدة. وهنا، يمكن القول إن روسيا ومصر وتركيا والعراق وسلطنة عمان والجزائر بلا شك سوف تلعب أدواراً مهمة في تقرير مستقبل التسويات أو بقاء الأوضاع تراوح مكانها.
الملاحظة الحادية عشرة: يبقى سؤال جوهري عن تأثير خطوة تقارب طهران والرياض في تقارب مصر وإيران، وهنا إجابة الوزير عمرو موسى مؤخراً لـ"الشروق" يقول فيها إن "الرئيس الأسبق حسني مبارك كان قد التقى نظيره الإيراني محمد خاتمي شخصياً، وكان متوقعاً أن تسير الأمور نحو تطبيع ما في العلاقات مع مصر، وحاولنا بالفعل أن يكون هناك كيان دبلوماسي مصري في إيران وكيان دبلوماسي إيراني في مصر، وبالفعل حدث ذلك". وأعتقد أنه من السهولة بمكان أن نرتقي بالعلاقات في الوقت الحالي، خاصة أن الأمور تتحرك في الإقليم بمنطق لا يصح أن تكون مصر بعيدة عنه.
ما نحاول إيضاحه هنا هو أن خطوة التقارب بين طهران والرياض، رغم أهميتها، والآمال التي تثيرها، لا تزال هشة، ومعرّضة لانتكاسة، كما أن علاقات طهران مع القوى الأخرى في المنطقة مرتبطة بأمور خاصة بالدول الأخرى، بعيداً من علاقاتها مع الرياض.
والأمر الأكثر أهمية هنا هو " رهان القوى الإقليمية والدولية" على نجاح الصين أو فشلها، فالجميع يترقب مسار "ما بعد الخيار الصيني"، وهل سيصمد التنين في رمال الشرق الأوسط المتحركة؟