"سلام فرمانده" أبلغ من نشيد وأقوى من سلاح حرب!
الحرب الناعمة التي شُنت لسنوات خلت لمحو القيم ومفاهيم الإسلام الأصيل كانت أكثر ضراوةً من حرب السلاح والدبابات.
شاعرٌ غير معروف في إحدى المدن الإيرانية الصغيرة كتب كلمات نشيد "سلام فرمانده"، وفرقة إنشاد متواضعة لم يسمع بها أحد سابقاً أنشدتها بمبادرة فردية، لتنطلق من محافظة كيلان حاملة معها حلماً كبيراً، هو أن يتجاوز نجاحها حدود المحافظة، ويصل إلى طهران وكل المحافظات الإيرانية.
سرعان ما تحقق الحلم وفاق ما كان متوقعاً، فتجاوز نشيد "سلام فرمانده" حدود إيران ليصل إلى كل العالم، من دون أن تتكلف الفرقة بأيّ بروباغاندا مدفوعة للانتشار الإعلامي السريع، وصدرت نسخات بلغات أخرى بسرعة قياسية، ما جعل النشيد ظاهرة اجتماعية وثقافية يتوجب الوقوف عندها.
هذه المبادرة الفردية لم تكن لتتحقق لولا توجيهات مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي منذ سنوات طوال، والذي كان يؤكد في لقاءاته مع الناشئة والشباب دور النشيد في بناء الثقافة والمجتمع في 20 حزيران/يونيو 2016: "النشيد هو حاجة. إحدى ميّزات النشيد أنه يبني ثقافةً في المجتمع، وهو لا يعرف المستويات والحدود، بحيث يعبر من المستويات العليا للمعرفة والعلم وما شابه، وصولاً إلى المستويات الشعبيّة لعامّة الناس، ويشمل الجميع بانتشاره السريع".
كذلك، يشير المرشد في لقاءات أخرى إلى عوامل انتشار النشيد، ويقول في 20 حزيران/يونيو 2016: "النشيد مثل النسيم العليل يتسلّل كهواء الربيع، لا لزوم لأن يفرض أحد ترويجه أو يكتب له مقدمة ويدعو له. لا، النشيد نفسه عندما ينظم بشكل جيد، فإنه سينتشر ويؤثر في الناس"، وكأن المرشد يتحدث مسبقاً عن نشيد بمستوى هذا النشيد، فكان "سلام فرمانده" الذي تضمن في نسخته الأولى أسماء قادة محليين من ولاية كيلان، كالعالم الديني الشهيد بهجت والعالم والقائد الإيراني المناهض للاستعمار ميرزا كوجك خان، وتناول شخصيات أخرى في النسخ الأخرى، كالقائد قاسم سليماني وعماد مغنية والسيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب في النسخة اللبنانية.
يقول المرشد الخامنئي في 4 أيار/مايو 2015 في رسالة أخرى وجهها المرشد الخامنئي إلى الشباب: "ينبغي الاستفادة من الفنّ إلى أقصى الحدود، وقد أشرتم إلى الأناشيد. هذا مهم جداً، فإذا استطعتم إنتاج نشيد جميل مؤثر حسن المضامين، بحيث تلهج به ألسنة الأطفال والشباب عندما يسيرون في الشوارع والأزقّة من البيوت إلى المدارس، فإنكم تكونون قد أنجزتم عملاً كبيراً جدًا، أي الاستفادة من الفنّ بشكل صحيح. هذا ما يسهّل أعمالكم ومهماتكم".
بالفعل، هذا ما تحقق، فكان هذا النشيد نتيجة جهد وعمل ترجم ما أراده المرشد السيد خامنئي. وبعدما دخل هذا النشيد إلى قلوب الملايين، هل يمكن أن نختصره بتسمية تقليدي، أو يحق لنا أن نسميه بمسميات أخرى، وأن نحمله مضامين على مستوى أكبر؟!
الحرب الناعمة التي شُنت لسنوات خلت لمحو القيم ومفاهيم الإسلام الأصيل كانت أكثر ضراوةً من حرب السلاح والدبابات؛ حرب أرادت القضاء على البنية الثقافية لمجتمعاتنا الإسلامية، وعلى رأسها المجتمع الإيراني، من خلال محو هويتة الثقافية والعقائدية وتغيير معتقدات الشعب الإيراني عبر مسح ذاكرته التاريخية الثورية، تمهيداً لخلخلة نظامه وتقزيم دور الثورة الإسلامية وعلماء الدين في إدارة البلد وجعل كلمة القائد غير فعالة.
وكان المحك الأساسي والمستهدف الأول من هذه الحرب فئة الشباب والناشئة، التي عانت لفترات طويلة خواء البدائل الأخرى وغياب معالم التصدي الجماعي الذي بات حاجة ملحة في هذه الحرب الضروس.
لقد دأب المرشد السيد خامنئي على التحذير، وخصوصاً في خطبه الأخيرة، من مخطط أميركي جديد يندرج في سياق الحرب الناعمة، يتمثل بمحاولة تغلغل الغرب سياسياً وثقافياً في إيران، عبر الاستفادة من الأجواء التي أوجدها الاتفاق النووي، وذلك بعد فشل كلّ الضغوطات والعقوبات والمحاولات الأميركية السابقة في زحزحة إيران عن مواقفها الداعمة للمقاومة.
ظنت هذه القوى أنها استطاعت بالفعل تفكيك منظومة إيران الدينية والثقافية والاجتماعية، وإذ بنشيد "سلام فرمانده" يعيد تصويب الأمور، ويعيد صناعة الهوية الثقافية الجماعية للأمة بامتياز، وبأسلوب فني سلس، ليس فقط في إيران، بل في كل أصقاع هذه الأمة. وبعدما ظنّ الغرب أنه فتك بأجيالنا، ردت عليه فتاة الزند الشريف التي أدهشت العالم بعفتها البريئة الصغيرة التي ملأت قلوبنا أثناء تأدية النشيد في لبنان.
ثمة مشاهد أخرى شاهدناها تأثرنا بها حد البكاء. نسأل أنفسنا مثلاً: هل تدربت ابنة الشهيد اللبناني جميل فقيه على مهارات التأثير والذكاء العاطفي، لتجبرنا على البكاء في كل مرة نشاهد دموعها؟ بالتأكيد لا، في الأمر سر لا مرئي هو ذاته السر الذي يجعل أم الشهيد تزف ابنها وتتلقى المباركات والتهنئة بشهادته التي هي في العادة موضع حزن وأسى. هو ذاته السر الذي يجعل سيد المقاومة سيداً أممياً، من دون أن يكون لديه مدربو مهارات ومستشارون، كما قادة العالم!
هذا السرّ هو شيفرة الصمود والانتصار لمجتمع يصعب على أي كان أن يفهم رموزه وقيمه العالية؛ شيفرة تعتمد على القيم النادرة التي تخترق المجتمع المادي بجدارة، قوامها ببساطة الصدق والصبر والبصيرة والتضحية التي تبدأ من كبار القادة إلى أصغر مجاهد في هذا المحور. هي شيفرة أساسها "ما كان لله ينمو" و"هيهات منا الذلة" وتراث كبير من الآيات والأحاديث الشريفة.
هي شيفرة مجتمع الإسلام المحمدي الأصيل الذي دُفعت مليارات الدولارات لتشويهه وإزالته من النفوس. وفي الوقت الذي تصدّت إيران وأخواتها للحفاظ عليه من خلال الاقتدار السياسي والعسكري والاقتصادي، كانت بالتوازي تدهش العالم بأنها صاحبة المنظومة القيمية الأكثر جسارة، وكيف لا؟ ففي الوقت الذي تسعى إيران لتطبيق عدالة الله على الأرض، من خلال نصرة المستضعفين في العالم ودعم المقاومات الشريفة، نرى الغرب يتحدى الشرائع السماوية، ويسعى لتشريع زواج الشاذين جنسياً وتغيير سنة الله على الأرض وفي خلقه.
في هذه الحرب، هناك من يتحدى الله في خلقه، وهناك من يحاول تطبيق العدالة الإلهية في خلقه، ويطبق أوامره ونواهيه، وينتظر حجة زمانه، فمن، في رأيكم، سيكون المسدد والمنتصر؟
هذا التسديد الإلهي هو الَّذي جعل نشيد "سلام فرمانده" يذهل العالم، ويتوقف عنده العدو والصديق، المحب والكاره. لذلك، يمكن القول إنَّ "سلام فرمانده" ليس مجرد نشيد، بل هو بداية مرحلة في الحرب الناعمة التي تتفوق فيها إيران مجدداً، من خلال إعادة صنع اللاوعي الجماعي للأمة بما يليق بقيمها الأصيلة.
لقد أصبح هذا النشيد إحدى الوسائل القوية للوصول إلى الغاية الأعلى المتمثلة بتوق العيون الباكية إلى عدالة إمام زمانها على هذه الأرض التي أحرق الظلم فيها نفوساً كثيرة. لذلك، لا نبالغ إذا قلنا إنَّ "سلام فرمانده" أبلغ من نشيد وأقوى من سلاح حرب.