بوتين يعيد ترسيم خارطة أوروبا الجيوسياسية
الرئيس الروسي أعلن موقفه بالفعل لا بالقول، والأوراق التي سيكسبها من هذا الفعل سيصرفها في طاولة المفاوضات، مؤسساً لمرحلة جديدة، ومسطراً تاريخاً جديداً بحبر روسي.
كانت كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية الفيدرالية الأطول منذ العام 2018، تطرق فيها إلى شتى المواضيع السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والاجتماعية التي تهمّ المجتمع الروسي، وتعبّر عن تطلعاته حتى على صعيد الأسرة واهتماماتها.
لم يفوّت الرئيس الروسي كل تلك النقاط، إضافة إلى موقف روسيا من ملفات دولية ساخنة. وكأنه كان يكلّل السنوات الماضية بكلمة تختصر مجالات التقدم التقني والتكنولوجي، خاصة وأنها الأخيرة له قبل الانتخابات الرئاسية الروسية، المزمع إجراؤها في 15 آذار/ مارس المقبل.
فتحدث عن تلاحم الشعب الروسي إزاء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وتدخلات الغرب، وتحدّث عن الأمن القومي وأهم أسلحة الجيش الروسي واستعداداته وعن الشراكات الروسية مع الدول العربية لتعزيز العلاقات، وكذلك الحال مع دول أميركا اللاتينية، وعن عدد من البرامج لنشر اللغة الروسية حول العالم.
كما أعلن عن إطلاق مشروع وطني جديد تحت اسم "الأسرة"، وكشف عن حلول لمشكلات اجتماعية داخلية، وتطرق إلى الاقتصاد والمتطلبات العلمية والصناعية للحفاظ على السيادة التقنية، وكانت كلمة بوتين تعبّر عن الثقة بمستقبل روسيا في عالم متعدد الأقطاب تسوده العدالة المجتمعية، كما قال بأنه واثق من النصر والنجاح وفي مستقبل روسيا.
غير أنّ النقطة الأهم في كلمة الرئيس فلاديمير بوتين قوله "إننا لا ننافس الدول الأجنبية بل ننافس أنفسنا، ونحدد أهدافاً تخدم مصالحنا الوطنية، ونحقق هذه الأهداف"، إذ لا يمكن للنخبة إلا أن تكون ذات توجه وطني، ومستقبل البلاد في أيدي من اجتازوا اختبار 2022-2024، وساروا إلى الأمام لتنفيذ أهداف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
كذلك أكد الرئيس الروسي ضرورة مناقشة قضايا الأمن والاستقرار العالميين بطريقة شاملة، مع مراعاة المصالح الوطنية وأمن روسيا. أما في ما يتعلق بالعلاقات الروسية – الأميركية والحوار الروسي – الأميركي فأوضح بالقول: "لدينا كل الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن كلمات السلطات الأميركية اليوم حول اهتمامها المزعوم بالمفاوضات معنا بشأن الاستقرار الاستراتيجي هي مجرد عبارات ديماغوجية.
وعشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، يريدون فقط أن يُظهروا لمواطنيهم ولكل شخص آخر أنهم ما زالوا يحكمون العالم"، مضيفاً: "يقولون في ما يتعلق بالقضايا التي يكون فيها الأمر مربحاً لأميركا، سنجري محادثة مع الروس، وحيثما لا يكون مربحاً لهم، ليس هناك ما يمكن مناقشته، كما يقولون هم أنفسهم. إنه البزنس كالعادة، فهناك سوف يسعون جاهدين لهزيمتنا، لكن هذا بالتأكيد لن ينجح".
وشدد بوتين على ضرورة مناقشة القضايا التي ترتب مسؤولية متعلقة بالأمن والاستقرار والتي تهم الكوكب بأكمله ككتلة واحدة، بما في ذلك الجوانب التي تؤثر في المصالح الوطنية لروسيا وأمنها.
ويبدو أنّ تصريحات الرئيس الروسي ومواقفه من القضايا الشائكة، على الصعيد العالمي، شكلت انقلاباً تاريخياً في الاستراتيجية الدولية، التي أظهرت بأنّ القدر لا بدّ أن يعطي كلمته ليسطّرها تاريخ البشرية الحافل بالنزاعات والصراعات، ومَن يمتلك القوة لديه الفرصة السانحة للتأثير في التاريخ، وبالنتائج، لبرهنة عظمته أو محدوديته.
ولاقت هذه التصريحات الكثير من التساؤلات، ودفعت العديد من المحللين إلى إطلاق توقعات حول مستقبل روسيا الاتحادية المرهون بالعظمة التي يتمتّع بها بوتين الذي يحظى بدعم غير محدود في المجتمع الروسي، لا بل والعالمي وهذا يعني أنه يستطيع متابعة مساره الاستراتيجي بثقة.
إن الخطط الغربية الهادفة إلى ردع روسيا واحتوائها أساءت التقدير بإمكانيات روسيا، وفق ما قاله الرئيس الروسي، الذي أبدى أيضاً استعداد روسيا للحوار حول الاستقرار الإستراتيجي والعالمي، ولكن لم يجد نية لدى الغرب في هذا الحوار، وهو الأمر نفسه الذي أعلن عنه منذ توليه السلطة عام 2000، أي استعداد روسيا للتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في جميع المجالات، لكن بشريطة أن يكون هذا التعاون مفيداً وعادلاً لكلا الطرفين. بَيْد أن الرفض الأميركي لأفكار التكامل مع روسيا توارثه الرؤساء الأميركيون الواحد تلو الآخر..
وفي العودة إلى بوتين، صاحب المعادلة الصعبة في لعبة التوازنات الدولية، نذكر أنه وبحلول عام 2000 تنبّأت معظم مراكز الدراسات والصحف العالمية، بأن يتمكّن الاتحاد السوفياتي الممزّق من إزالة الضرر والتعافي للعودة إلى الساحة الدولية من جديد كـ"لاعب قوي" نال جرعات العلاج الشافي، وإن لم يكن الاتحاد فلتكن وريثته الدولية "روسيا" في عهد بوتين تحديداً، والذي ما إن تسلّم دفة القيادة حتى بدأ العدّ التنازلي للعودة، وتحديث روسيا لمواكبة القرن الجديد. ونذكر هنا ما قاله هنري كيسنجر عن بوتين «إنه شديد الوعي وفائق الذكاء، لا يتقبّل عدم المبالاة بروسيا والتهجّم عليها".
وفي قراءة لسنوات حكم بوتين الذي رشّح نفسه للانتخابات المزمع إجراؤها في آذار/مارس من هذا العام، فإنّ ما فعله بوتين طوال تلك السنوات هو فرض الوجود الروسي على الساحة الدولية، ولكن ليس كما أراده الأميركيون تحصيل حاصل ونائب فاعل، إنما فرض عين لا يمكن تجاوزه ولا يُستثنى فاعله ومفعوله. فالتاريخ لا يعيد نفسه إنما هناك من يتعلم من أخطاء التاريخ فيعيد كتابته وفق نجاحاته ومراجعاته، فيقوم بفكفكة الأحداث وإعادة تركيبها، وفق مراجعاته للأخطاء وتركيبها وفق ما يجب عليه أن تكون، وليس وفق ما كانت سابقاً..
واليوم، يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإعادة كتابة التاريخ وفق ما يجب عليه أن يكون، فما قاله سابقاً في خطابه السنوي أمام الجمعية الفيدرالية الروسية سنة 2005 "إن الحقيقة الواضحة هي أن تفكك الاتحاد السوفياتي كان الكارثة السياسية الطبيعية الأعظم في القرن العشرين"، كان إعلاناً واضحاً عن النية لاستعادة كبرياء الاتحاد الروسي المفقودة. وها هو اليوم يبدأ من حيث انهار الاتحاد.
ولربما من المفيد العودة إلى "ما كتبه مستشار الإمبراطور "نيقولا الأول" خلال حكم محمد علي باشا في مصر والشام (1830-1840) حين قال "إن عظمة روسيا بأن تكون أول المتكلمين في كل مرة يطرح فيها مصير الشرق على بساط البحث". وهذا الشرق الذي يتحدث عنه المستشار "نيسلرود" هو الموجود على أبواب الإمبراطورية، أي الشرق الأوسط وآسيا الصغرى. وإلى جانب مصالح القيصرية الروسية وأطماعها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية في الشرق، بالإضافة إلى المذهبية الدينية التي جرى تجييرها لخدمة المصلحة السياسية، رغبت روسيا بزعامة الأرثوذكس في العالم بعد سقوط قسطنطينية بيزنطة. وما يقوم به بوتين اليوم لا ينفصل عن الأهداف الاستراتيجية السابقة بل إعادة لرسم الخطط لتحقيق تلك الأهداف الاستراتيجية.
وفي العودة إلى العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس، نذكر أحداث أوكرانيا عام 2014 فقد كتب المحلل السياسي توماس فريدمان في 8 آذار/مارس من ذلك العام "أن نكون جادين بخصوص ما يجري في روسيا، يعني أن نكون جادين في التعلم من أخطائنا الكبيرة التي ارتكبت بعد سقوط جدار برلين. كان من الخطأ أن نفكر بأنه يمكننا توسيع حلف شمال الأطلسي إلى ما لا نهاية، عندما كانت روسيا في أضعف حالاتها، وعندما تكون روسيا الأكثر ديمقراطية وأن الروس لن يهتموا لذلك. كان من الخطأ أن نفكر بأنه يمكننا معاملة روسيا الديمقراطية كعدو، كما لو كانت الحرب الباردة لا تزال مستمرة، وأن نتوقع من روسيا التعاون معنا كما لو أن حقبة الحرب الباردة انتهت، وأن هذا لن يؤدي إلا لأن نواجه برد فعل عنيف مناهض للغرب مثل البوتينية".
واليوم، نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بناء منظومة عسكرية رادعة لأعداء روسيا الاتحادية، واستعاد الاقتصاد الروسي قدراً كبيراً من العافية والانضباط والنمو المتواصل، ففي السنوات الأخيرة، سددت روسيا الاتحادية كامل ديونها الخارجية قبل موعدها. كما نجحت روسيا في تكوين احتياط ضخم من الذهب والعملات الصعبة من عائداتها المرتفعة من مبيعات البترول والغاز الطبيعي، وهو ما كان غير متوقع لدى الغرب. وباتت العقوبات الغربية ضدّ روسيا رصاصة انتحار الغرب ضدّ نفسه، ونجحت روسيا في تحقيق انتصارات عسكرية في أوكرانيا، ناهيك بإفشال الهجوم الأوكراني المضاد، وكسر القدرات العسكرية الغربية أمام نظيرتها الروسية، وتكبيدها الخسائر الفادحة التي جعلت من الخزائن المفتوحة للغرب كمن فتحها لمهب الريح فنال منها إعصار القوة الروسية في أوكرانيا
بالتالي، فإن إصرار القيادة الروسية على تلك الرسائل القوية تفيد بإعادة تأكيد مكانة روسيا الاتحادية الجيوسياسية على رقعة الشطرنج الدولية، كما أوضح ماكس هاستينجز الكاتب والمؤرخ البريطاني في كتاباته أن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الوريث الروحي لجوزيف ستالين".
وإذا أردنا تلخيص الأهداف الاستراتيجية الأساسية لروسيا فنجدها تتلخص بجمع كل الشعوب الناطقة بالروسية في دولة قومية واحدة. ففي عام 2014، وبعد ضم شبه جزيرة القرم، بموجب الاستفتاء الشعبي، أوضح بوتين أنه "بعد حل الاتحاد السوفياتي، ذهب الملايين من الناس إلى الفراش في دولة واحدة واستيقظوا في بلدان مختلفة، وأصبحوا بين عشية وضحاها عرقيين الأقليات في جمهوريات الاتحاد السابقة، بينما أصبحت الأمة الروسية واحدة من أكبر، إن لم يكن أكبر مجموعة عرقية في العالم يتم تقسيمها حسب الحدود". بالتالي، فإن ما يثير قلق الغرب ليس فقط ترانسنيستريا أو شبه جزيرة القرم أو شرق أوكرانيا، إنما المجتمعات الناطقة بالروسية في دول البلطيق وفي آسيا الوسطى. ما يعني أنّ إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي السابق كوحدة جيوسياسية واحدة، إن لم يكن دولة واحدة باعتبارها "مجتمعاً أوراسياً" باتت أمراً قريباً للتحقق إلى حد كبير، وبات العالم اليوم برمته على توقيت الكرملين..
في المحصلة، الرئيس الروسي أعلن موقفه بالفعل لا بالقول، والأوراق التي سيكسبها من هذا الفعل سيصرفها في طاولة المفاوضات، مؤسساً لمرحلة جديدة، ومسطراً تاريخاً جديداً بحبر روسي، وما أراده الغرب من خلال الضغط عليه سينعكس عليهم سلباً بعد أن بات يملك دبلوماسية القوة وقوة الدبلوماسية في الملفات الدولية كافة.
فبعد أن امتنعت الولايات المتحدة و"الناتو" عن إعطاء ضمانات أمنية مكتوبة لروسيا بشأن أمنها القومي، المهدد بالصواريخ الناتوية الموجودة في الدول الحدودية، وعدم التزام أوكرانيا باتفاقات مينسك، وبعد استنفاد كل الفرص، فإن ما يقوم به بوتين اليوم هو استجرار لتلك الضمانات بالقوة بعد فشل الدبلوماسية وكما يقول البريطانيون: "إذا أردت السلم فاستعد للحرب" وها هو بوتين يستعد للحرب بل ويدق طبولها وسط إرباك أوروبي – أميركي.
ورغم كل العقوبات التي فرضها الغرب مجتمعاً ضدّ روسيا فإنّ الغاز الروسي ما زال قوة روسية ضاغطة على أوروبا وخاصة ألمانيا، الأمر الذي سيدفع الغرب في نهاية المطاف إلى الجلوس على طاولة المفاوضات والقبول بالشروط الروسية والمعنونة بالغاز مقابل حياد دول أوروبا الشرقية عن "الناتو".