المصالح والتحديات في أجندة زيارة رشيد لإيران
القيادة الإيرانية حرصت دائماً على تعزيز العلاقات مع العراق بشتى الجوانب والمجالات، وحرصت أيضاً على أمنه واستقراره وازدهاره، وترجمت ذلك الحرص عملياً في مختلف الظروف والمناسبات.
منذ تولّيه منصب رئاسة جمهورية العراق في الثالث عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قام الرئيس عبد اللطيف رشيد بعدة زيارات وجولات خارجية، كانت الأولى إلى الجزائر في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي للمشاركة في أعمال الدورة الـ 31 للقمة العربية العادية بعد انقطاع دام ثلاثة أعوام بسبب جائحة كورونا.
وكانت الجولة الثانية إلى سويسرا في السابع عشر من شهر كانون الثاني/يناير الماضي للمشاركة في منتدى دافوس الاقتصادي السنوي العالمي. في حين كانت مدينة نيويورك الأميركية محطته الثالثة في الحادي والعشرين من شهر آذار/مارس الماضي للمشاركة في مؤتمر المياه من أجل التنمية المستدامة برعاية منظمة الأمم المتحدة.
وهذه الجولات أو الزيارات الثلاث، تمحور الهدف الرئيسي لها حول المشاركة في محافل جماعية، ولم تكن بناء على دعوات رسمية موجّهة من حكومات دول معينة أو من قبل نظراء للرئيس العراقي. وهذا يعني أن زيارته الأخيرة للجمهورية الإسلامية الإيرانية في الثلاثين من شهر نيسان/أبريل الماضي، كانت الأولى له تلبية لدعوة رسمية تلقّاها من نظيره الإيراني السيد إبراهيم رئيسي، وحملها إليه قبل أسابيع قلائل السفير الإيراني في بغداد محمد كاظم آل صادق.
ولعلّ ذلك لم يأتِ مصادفة، ففي عالم السياسة لا وجود ولا مكان للمصادفات، بقدر ما هناك حسابات دقيقة لكل الخطوات والقرارات والإجراءات. وحينما تكون طهران المحطة الأولى للرئيس العراقي الذي لم يمرّ على انتخابه سوى ستة شهور، فهذا يؤشر إلى خصوصية العلاقات التي تربط العراق بجارته الشرقية إيران.
فالانطباع الأوّلي العام عن الزيارة، أنها كانت فرصة ومناسبة جيدة لإبراز عمق وأهمية ورسوخ العلاقات والروابط السياسية والعقائدية والدينية والثقافية والاقتصادية والتاريخية بين البلدين الجارين، وطبيعة التحديات والتهديدات المشتركة التي تواجههما، والمصالح الواسعة المتبادلة التي تحتم عليهما التعاون والتواصل البنّاء على كل الصعد والمستويات.
ومعروف أنّ العلاقات العراقية-الإيرانية مرّت خلال العقود الأربعة الماضية بالعديد من المحطات والمنعطفات الحساسة والخطيرة، إذ مثّلت حرب الثمانية أعوام التي اندلعت بعد نحو عام ونصف العام على انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في ربيع عام 1979، أولى تلك المحطات والمنعطفات، لتستمرّ التداعيات والإرهاصات فيما بعد بحكم العوامل الدولية والإقليمية الدافعة باتجاه خلط الأوراق وآثار الفتن بين البلدين الجارين.
وما بين انتصار الثورة الإيرانية وحتى سقوط نظام صدام في نيسان/أبريل من عام 2003، كانت تلك حقبة زمنية مختلفة عما بعدها، في إطار العلاقات العراقية-الإيرانية، حيث أنّ رحيل النظام في بغداد مهّد الطريق لتصحيح المسارات الخاطئة وحلّ ومعالجة القضايا والملفات الخلافية بين الطرفين، والتوجّه إلى بناء علاقات قوية ورصينة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية وفق رؤى استراتيجية عميقة تأخذ بعين الاعتبار المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة بين بغداد وطهران، والحقائق والمعطيات القائمة في المنطقة والعالم.
ولا شكّ أنّ زيارة الرئيس رشيد لطهران، لم تكن الأولى من نوعها على هذا المستوى، بل إنه على مدى العشرين عاماً المنصرمة، أي منذ الإطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، زار كل رؤساء جمهورية العراق وكذلك رؤساء الحكومات المتعاقبة وكبار الساسة والمسؤولين العراقيين طهران.
وقد عكست تلك الزيارات في جانب كبير منها أهمية إيران بالنسبة للعراق، وكذلك أهمية العراق بالنسبة لإيران، ولا سيما إذا عرفنا أنّ كل الرؤساء الإيرانيين الذين تعاقبوا على التصدّي لزمام الأمور خلال العشرين عاماً الماضية قد زاروا العراق، إلى جانب كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين والاقتصاديين وعلماء الدين الإيرانيين، وشهدت مسيرة العلاقات بينهما تطوّراً كبيراً رغم الكمّ الكبير من التراكمات السلبية.
وقد كانت إيران الدولة الأكثر انفتاحاً على العراق بعد زوال نظام صدام، ووقفت إلى جانبه في الظروف الصعبة والحرجة، ولا سيما حينما اجتاح تنظيم "داعش" الإرهابي مساحات واسعة من أراضيه في حزيران/يونيو من عام 2014، فضلاً عن ذلك فإن العلاقات والروابط الاقتصادية بين البلدين قد تنامت هي الأخرى إلى حد كبير. وكذلك العلاقات والروابط الثقافية والاجتماعية، وكان ذلك كافياً لإثارة حفيظة واستياء وقلق واشنطن و"تلّ أبيب" واتباعهما وعملائهما في المنطقة والعالم. لذا تحوّل العراق إلى بؤرة استهداف أميركية إسرائيلية بطرق وأشكال ووسائل وأساليب مختلفة، باعتباره أصبح طرفاً أساسياً ضمن محور أو جبهة المقاومة.
وارتباطاً بتتابع الوقائع والأحداث، تبلورت جملة ثوابت عراقية حيال إيران والمنطقة، من بينها:
*رفض العقوبات الأميركية أحادية الجانب ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، باعتبارها تفتقد إلى الغطاء الشرعي والقانوني، وتفتقر إلى الحد الأدنى من القبول الدولي.
*دعم ومساندة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مواجهتها مع الولايات المتحدة الأميركية، انطلاقاً من المواقف الإيجابية التي تبنّتها طهران في مختلف المراحل والمحطات، ولا سيما حينما تعرّض العراق للعدوان "الداعشي" التكفيري صيف عام 2014.
*العمل على توظيف واستثمار مختلف الأدوات والوسائل السياسية والدبلوماسية من أجل حلّ وحلحلة أزمات ومشاكل المنطقة، والتقريب بين الخصوم والفرقاء، بما يفضي إلى احتواء بؤر التوتر والصراع، وبالتالي دفع الأخطار المحدقة، وتهيئة الأجواء والظروف المناسبة لتحقيق المصالحات الإقليمية الضرورية.
*رفض كل أشكال ومظاهر التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتأكيد الدعم والإسناد المستمر للقضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه المسلوبة، فضلاً عن تعزيز قوة ومكانة وحضور محور المقاومة.
وهذه الثوابت هي ذاتها التي شدّد عليها بصورة أو بأخرى الرئيس رشيد من طهران، بقوله "إن علاقاتنا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي علاقات متواصلة وقوية في مختلف الأبعاد والمجالات... وإن جهود العراق كلّها تهدف إلى تعميق العلاقات مع إيران وتنفيذ بعض القضايا المتبقيّة بين البلدين... وإننا نثمّن مساعدة ودعم إيران حكومة وشعباً في مختلف المراحل، وخاصة على صعيد مكافحة الإرهاب".
ولا يمكن لأيّ مراقب موضوعي أن يتغاضى عن حقيقة أن علاقات العراق مع إيران كانت خلال العقدين الماضيين هي الأكثر ثباتاً وتطوّراً واتساعاً مقارنة بعلاقاته مع مختلف جيرانه وأطراف محيطه الإقليمي والفضاء الدولي.
فمواقف إيران الداعمة للعراق خلال تعرّضه للإرهاب التكفيري من قبل تنظيم "القاعدة" ومن ثم تنظيم "داعش"، أشارت بوضوح إلى هذه الحقيقة، وكذلك إلى حجم وطبيعة الأرقام والمعطيات عن التعاون في المجالات الاقتصادية، فضلاً عن مساهمة إيران في مشاريع إعمار العراق رغم العراقيل الكثيرة والكبيرة التي حاولت الولايات المتحدة الأميركية وقوى دولية وإقليمية وضعها في مسار العلاقات الإيجابية العراقية-الإيرانية، وملايين الزائرين والسيّاح لأغراض مختلفة في كل عام الذين يتنقّلون عبر المطارات والمنافذ البرية المتعدّدة بين البدين.
ولأنّ إيران تقف اليوم في مقدمة قوى محور المقاومة، فإن من يتابع ويدقّق في طبيعة وجوهر ومضمون السياسات الأميركية الغربية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الوقت الحاضر يجدها لا تختلف عن سياساتها قبل أربعة عقود، أي بعد الانتصار التاريخي الكبير للثورة الإسلامية.
فقبل أكثر من أربعين عاماً شرعت واشنطن بتجنيد وتحشيد كل إمكانياتها وحلفائها وأصدقائها في العالم والمنطقة من أجل إفشال الثورة وإعادة الأمور إلى الوراء وإرجاع الشاه الهارب إلى عرش السلطة. كما نجحت في ذلك حينما أفشلت حركة محمد مصدق في عام 1953، وكانت تتوقّع أنّ الأمر سيكون يسيراً ومتاحاً لأنّ الثورة الفتية ما زالت في بداياتها ولم تتوفّر لها عناصر ومقوّمات القوة المطلوبة.
لكنّ حسابات ساسة واشنطن كانت خاطئة بالكامل، والأحداث والوقائع اللاحقة أكدت ذلك، وأبرزها الحرب التي شنها نظام حزب البعث في العراق على إيران بتخطيط ودعم وتشجيع غربيّ عربيّ. وقد خرجت إيران منها أقوى ممّا كانت عليه قبل أن دخلتها.
وكلّ ذلك ليس ببعيد عن الأجندات والمخططات التي تحاك للعراق، والتي يراد من ورائها إبعاده بأي ثمن عن إيران ومحور المقاومة، فالاستراتيجية الأميركية القائمة حالياً تقوم على أساس ضرب وإضعاف حلفاء إيران وأصدقائها في أي مكان. في الوقت ذاته الذي تواصل فيه ضغوطاتها السياسية والاقتصادية عليها، ولعل بعضاً ممّا يجري في العراق من وقائع وأحداث يعكس جانباً من تلك الاستراتيجية، التي أثبتت التجارب أنها عقيمة وغير مجدية وليست مثمرة.
فالعلاقات العراقية الإيرانية، تجاوزت كل العقد والإشكاليات والمؤامرات، وخرجت من نطاق الدوائر السياسية والدبلوماسية الخاصة، والمساحات الاقتصادية والمالية المحصورة في نطاق الشركات والمؤسسات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال إلى الفضاءات الاجتماعية والدينية والثقافية والأكاديمية والحزبية المختلفة.
ولا شكّ أنّ مناسبة عظيمة مثل ذكرى أربعينية الإمام الحسين عليه السلام شكّلت معلماً بارزاً أظهر البعد الشعبي ذا الأفق الواسع للعلاقات بين الشعبين الجارين، فضلاً عن التداعيات الكبيرة على الصعيدين السياسي والشعبي لاغتيال كل من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، والفريق الشهيد قاسم سليماني من قبل الولايات المتحدة الأميركية قبل أكثر من ثلاثة أعوام.
ولعلّ القيادة الإيرانية حرصت دائماً على تعزيز العلاقات مع العراق بشتى الجوانب والمجالات، وحرصت أيضاً على أمنه واستقراره وازدهاره، وترجمت ذلك الحرص عملياً في مختلف الظروف والمناسبات.
وقد كانت واضحة ومعبّرة وعميقة الرسائل التي أطلقها المرشد الإيراني علي الخامنئي خلال لقائه الرئيس رشيد، بقوله "إن تقدّم العراق وازدهاره واستقلاله ورفعته أمر مهم جداً بالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية"، و"إنّ توسيع العلاقات بين إيران والعراق وتعميقها يواجَه بعداء قوي، ولولا الأواصر التاريخية والعقائدية الراسخة بين البلدين، ربما لعادت العلاقات إلى ظروف عهد صدام".
وإضافة إلى ذلك، أشاد السيد الخامنئي بضيافة وكرم الشعب العراقي في استقبال الزوّار الإيرانيين في زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، رغم حرب الثمانية أعوام، معتبراً "أنّ معنى هذه الظاهرة البالغة الأهمية هو أن هناك عوامل وحدة بين الشعبين والبلدين، خارج العوامل السياسية، ولا يمكن التأثير عليها، ومن المهم جداً استثمار هذه الفرصة لتعميق العلاقة أكثر".
فضلاً عن ذلك فإنّ قائد الثورة الإسلامية في إيران، شدّد على حقيقة "أن الأميركيين ليسوا أصدقاء للعراق ولا لغير العراق، وهم ليسوا أصدقاء مع أحد، حتى أنهم غير مخلصين لأصدقائهم الأوروبيين".
ومثل هذه الرسائل المهمة كانت حاضرة دوماً في مجمل الحراك السياسي والدبلوماسي والثقافي والشعبي بين العراق وإيران، سواء حينما يكون كبار القادة والمسؤولين العراقيين في طهران، كما هو الحال مع زيارة الرئيس العراقي الأخيرة، أو قبلها زيارة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، أو حينما يكون كبار القادة والمسؤولين الإيرانيين في بغداد.
ولعلّ التجارب أثبتت أنّ علاقات إيجابية طيبة بين العراق وإيران تشكّل أحد أبرز مفاتيح الاستقرار والازدهار والتفاهم والوفاق لجميع دول وشعوب المنطقة.