"الكيان المؤقّت": دور اللغة المستقبليّة
الكلمات تغيّر معرفتنا بالواقع، ويفترض أن تلفتنا إلى الزوايا المغفلة والمهملة منه، وهو ما يفضي بنا إلى السؤال عن درجة الإيمان الحالية بزوال الكيان.
تعمل الحركات الثورية على صناعة المفردات الإعلامية الطموحة التي تعبر عن الحالة المنشودة أو تشير إلى الطريق المناسب للوصول إليها، وذلك للعبور بالوعي العام من إدراك الواقع الحالي إلى تأمل الواقع المراد والمرغوب واستشرافه، مع تأكيد إمكانية الوصول إليه.
وبذلك، تستطيع حركة التغيير أن تجعل حالة الثورة متشكّلة في لغة متداولة تحافظ على الوعي المستقبلي واستدامته، حتى الوصول إلى الهدف وتحقيقه في الميدان التاريخي. "الكيان المؤقت" هو واحد من تلك المفردات التي تنطوي على غاية ثورية تغييرية تصدم الواقع الجاري المتمثل بوجود المستوطنين الصهاينة على أرض فلسطين، مسلّحين ومستقرين سكانياً.
ونظراً إلى حجم التحدي الّذي تعبّر عنه، فإنَّ المسافة القائمة بين مفردة "الكيان المؤقت" والواقع الحالي في الأراضي المحتلة من جهة، وبينها وبين الوعي الصهيوني والعربي والإسلامي من جهة أخرى، هي مسافة تحتاج للتأمل والعناية، وذلك لتحديد كيفية عبورها وتحويل هذه المفردة إلى فكرة معيشة، بل شعور فعال ومؤثر.
علاقة المصطلح بالواقع الحالي
يفترض بالكلمة أن تعبر عن واقع معترف به أو هناك ترجيح مقبول حوله. أما عندما يراد للكلمة أن تشير إلى أمل ووعد مستقبلي يمثل حقاً إنسانياً وأخلاقياً مطلوباً ومرغوباً، فإنها تحتاج إلى زخم من المعاني والمعلومات والمشاعر التي تدعم هذه البصيرة المستقبلية.
يرتبط إنتاج المفردات واستحداثها من الناحية العملية بإنتاج الوقائع، سواء كانت مفردة علمية تقنية أو تاريخية سياسية. وثمة انطباع بأنَّ القوى المعادية للعدو المحتل لم تنتج ما يكفي من المفردات إلا حين بدأت بصنع الانتصارات وتغيير شروط الميدان.
إنَّ المفردة المستحدثة تعبر عن الانخراط في تشكيل الوقائع، بحيث نحتاج إلى تسميتها بمفردة جديدة تناسب التحول الذي أحدثه الفعل الثوري المقاوم. من ناحية أخرى، لا يمكننا أن نحدد كيفية تعاملنا المناسب مع الواقع المتغير إلا بعد تشخيصه وتوصيفه، ومن ثم استحداث الكلمة التي تستطيع أن توجِد التوافق الاجتماعي حول هذا التوصيف، وبالتالي توجد كيفية التعامل معه. وهنا بالذات، تتمحور معركة الوعي التي تحدد لنا نظرتنا إلى الحاضر والمستقبل ودورنا في بنائه وإنتاجه.
في الواقع المباشر، لدينا مجموعة من الوقائع التي تشكك في بقاء الكيان، فهناك سيل من التصريحات من شخصيات رسمية وثقافية في الكيان تتحدث عن القلق الوجودي والتشكيك في البقاء أو تتناول حتمية الزوال، إما لأسباب تاريخية، وإما استناداً إلى مقولات عبرانية دينية.
من ناحية أخرى، لدينا مجموعة من القوى التي تنمو باستمرار، وباطراد، والتي جعلت إزالة الكيان هدفاً حاسماً لها، مهما احتاج إلى مقدمات، ومهما احتاج إلى وقت. وقد خاضت مجموعة من الاختبارات ابتداءً من العام 1985 وحتى الآن، أثبتت من خلالها أن التفوق القتالي في مقابل "الكيان المؤقت" ممكن التحقق.
هذا الواقع، إلى جانب التحولات الإقليمية الدولية الجارية، يدفع إلى جعل هذه المفردة أكثر قرباً من الحقيقة والوقائع المعيش، وهو ما يسهل تداولها وتحويلها إلى حامل للثقافة العامة ومرتكز للنظرة المعتمدة نحو هذا الوجود المصطنع على أرض فلسطين.
خصائص مفردة "الكيان المؤقت"
تتميز هذه المفردة بأنها لا تصف حالة ثابتة، بل حالة جارية متقدمة ومتجهة نحو التحقق الكامل في التاريخ، فهي لا تصف الواقع الحالي فحسب، إنما تعبر عن تفاعل جماعي تجاه قضية محددة، فاللغة تمثل حالة تعاون اجتماعي وتبادل وتفاعل لا تقوم بفعل الفرد، وإنما بفعل التعاون المشترك بين الجميع، ويمكن للقائد الاجتماعي أن يملي لغة تناسب النظام الاجتماعي والثقافي القائم، ويبقى على العموم أن يحولوها إلى حالة تبادلية وتداولية.
اللغة من ناحية أخرى هي فعل بحد ذاتها، وهي تمثل وتملي التغيير في العالم. لذلك، حين نستخدم عبارة تعكس أملاً مستقبلياً، فإننا نحاول تشكيل العالم بما ينسجم مع العبارة والفكرة الموجودة في المصطلح، فنحن نحاول أن نقرر ما ينبغي أن يكون، وما نريد للواقع أن يكون عليه.
إذاً، الكيان المؤقت مقولة من وجهة نظر الفاعل في التاريخ الذي يعمل لتشكيل الظروف بما يتناسب مع الفكرة. إنَّه مصطلح ينقلنا من حالة المراقب الواصف للواقع إلى حالة المتحرك الفاعل المشكِّل للتاريخ، بما يحمله من توصيف للواقع المأمول.
هذا الفعل في التاريخ، لا يمكن أن يحصل من دون توافق اجتماعي مستند إلى وقائع فعلية، فاللغة الطموحة تحاول أن تقرب المسافة بيننا وبين المستقبل. وكلما كانت هذه المسافة معقولة وغير متجاوزة لإمكانية تحقق الأمل المستقبلي، كانت اللغة أكثر إقناعاً، وكانت إمكانية قبولها للتداول أكثر واقعية.
من هذا المنظار، حين يرجح "الكيان المؤقت" فرضية زوال الكيان من بين عدة احتمالات، فإنه يستند إلى استشراف متنوع الجهات والمستويات والخلفيات حول إمكانية الزوال، فهناك صهاينة ويهود معادون للصهيونية وخبراء متعددو الجنسيات وعرب ومسلمون ودينيون ولا دينيون وعلمانيون يتوقعون زوال هذا الكيان.
دور هذا المصطلح، إذاً، أن يجسّر المسافة بين الحاضر والمستقبل المتوقع والمحتمل. ومن خلال الأمل الذي يختزنه، يحل المشكلة النفسية التي تصاحب الشك المتضمن في نظرتنا إلى الواقع المأمول، كما يتجاوز إشكالية حسم التوقع، ويثبت وعداً وأملاً.
التأثير المنشود
ساعدت اللغة والشعارات على إنشاء الكيان الصهيوني المختلق، مثل مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" التي شكلت ورسخت طموح الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في تحويل فلسطين فعلاً إلى أرض بلا شعب، وافترضت مسبقاً أنها أرض خالية، رغم ما تطلبه التهجير من عمليات إجرامية هائلة استغرقت عقوداً، ولا تزال جارية حتى الآن بطرق شتى.
في المقابل، إن تفكيك هذا الوجود غير الأصيل وغير المنسجم مع الجوار، يحتاج إلى تشكل وعي مستقبلي يسترجع الوضع الطبيعي لفلسطين، كأرض ذات شعب وسيادة وهوية، وهذا ينطوي بالضرورة على الإيمان بزوال هذا الكيان.
في الجهة المقابلة، ترمي كل الجهود الصهيونية والغربية والخليجية، الحربية والإجرامية والدعائية والثقافية والاستخباراتية، إلى زرع اليأس من إمكانية هذا الزوال، بحيث تحبط القدرات والدوافع لإزالته، ما يؤكد ضرورة إحياء الوعي بهذا الأفق المنظور والمحافظة عليه بشكل مستديم.
الكلمات تغيّر معرفتنا بالواقع، ويفترض أن تلفتنا إلى الزوايا المغفلة والمهملة منه، وهو ما يفضي بنا إلى السؤال عن درجة الإيمان الحالية بزوال الكيان لدى الشرائح المنخرطة في المواجهة على كل المستويات. لقد شكلت معركة "سيف القدس" مفصلاً مهماً جداً على هذا الصعيد، إذ أثبتت وجود هشاشة عميقة في المظلة الأمنية العسكرية الحامية للكيان المؤقت، وخصوصاً الظاهرة غير المسبوقة المتمثلة بانخراط الفلسطينيين القاطنين في الأراضي التي احتُلت في العام 1948، والتي لم يتحرك بعضها منذ العام 1936، ما شكل صدمة وجودية للقيادة الأمنية الصهيونية. الأمر المهم هنا هو أن قاطني تلك المناطق المحتلة منذ عقود طويلة بدأوا يسترجعون الإحساس بإمكانية التغيير وإمكانية استعادة الحق.
وإضافةً إلى حمل هذا الأمل الفلسطيني المتجدد، يسهم هذا المصطلح في جوانب متعددة من وعي المتلقي والمستخدم تجاه القضية المركزية في فلسطين. إنه يحاول أن يركز في وعينا بأننا قادرون، وسيكون لدينا مستقبل أفضل، كما أنه ينبهنا دوماً إلى أن العدو في حالة ضعف من دون أن نشعر بالاستخفاق بوجوده، وإلى أن المشكلات الحالية سوف تنتهي، وإلى اقتراب الانتهاء من حالة المهانة والتعدي على حقوقنا، ويضع عملية التطبيع في موضع الضعف وعدم الخوف منها، كما يحيلنا إلى عدم الاهتمام بحالة الانشغال الحالي الرسمي والنخبوي والشعبي العربي عن القضية. ومن الناحية العملية، فإنَّه يثير لدينا الانتباه إلى أنَّ لدينا مهمة قابلة للتحقق، وعلينا العمل عليها لكي ننجزها.
وإذا دقَّقنا في تفصيل تأثير استخدام هذا المصطلح، فإننا نلاحظ أن تعاملنا مع الكيان على أنه كيان مؤقت هو حالة مختلفة عن تعاملنا معه عندما نغفل هذه الحقيقة، فماذا يتغير بالتحديد؟
يشمل التغيير مجالات عدة؛ أولها اتجاه التركيز، إذ تصبح الأولوية إزالة الكيان بما تمثله من مدخل لحل أزمات كبرى تعيشها المنطقة، ويسبّبها التدخل الغربي المرتكز إلى وعي الهزيمة والدونية العسكرية والثقافية لشعوبها، وثانيها يفترض أنَّ تنامي الإيمان بحتمية هذا الزوال وتعمقه، من خلال التداول المستمر للمصطلح، يزيد من حجم تركيز الجهد في هذا الاتجاه.
وثالثها أنّه يسهم في ترتيب الأولويات، ويجعل الهدف المأمول والمحتمل التحقّق والمؤثر عند تحققه في مختلف مناحي حياة شعوب المنطقة أولوية ماثلة وحاضرة في خضم صراع الأولويات الناتج من كثرة الأزمات والتحديات التي تعيشها دول المنطقة، بحيث ينظر إلى إزالة الكيان كمدخل لحل الكثير من المشكلات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية.
ورابعها ناتج من الآثار الثلاثة المذكورة آنفاً، وهو تقريب الأفق الزمني للعملية الرامية إلى إزالة الكيان، بفعل الجهوزية العامة نفسياً وسياسياً للتغير التاريخي المنشود لهذه المنطقة. وأخيراً، الاستعداد في شتى المجالات لمرحلة إزالة الوجود الغاصب وما بعدها. هذا من جهة الفئة التي تتداول هذا المصطلح وتتبناه. ولا شكّ في أن هذا التداول ينعكس لدى العدو شعوراً بالقلق وفقدان الثقة، مقابل الشعوب المقاوِمة التي تحافظ على وعيها ومعنوياتها وتحرسها باستمرار.
إن كان هذا هو المتوقّع عموماً من استخدام هذا المصطلح وتداوله، ففي التفصيل، ما هو التأثير في الشرائح المستهدفة بتلقي هذا المفهوم؟ يمكن تصنيف درجات الشريحة المتلقية إلى مستويات عديدة، يفترض أن يترك تداول المصطلح عليها مقداراً متفاوتاً من التأثير.
لدى الفاعلين العاملين في ميدان المواجهة المتنوع مع الكيان الغاصب، يتحوَّل الوعي الكامن إلى لغة متداولة تؤكد الثقة والغاية والهدفية، وتنقلها إلى المقبولية العامة لدى الشرائح المحيطة والقريبة منها. لدى الموقنين بزوال الكيان، ينتقل اليقين إلى مستوى التعبير عنه، وبالتالي نقله إلى الشرائح الأخرى بثقة وتحويله إلى حقيقة معيشة.
لدى المتأملين والراجين زوال الكيان، يتحول هذا الرجاء إلى حالة أقرب من الإيمان والثقة واليقين من خلال التداول والتكرار. ولدى المحايدين، في حال أُتيح لهم استخدام هذا المصطلح أو الاستماع إليه أو تلقيه قراءةً من خلال النصوص المنشورة، سيولد لديهم تحيز جديد يبتعد عن المراهنة على استمرار الظرف القائم حالياً.
لدى الذين يحملون شكوكاً تجاه إمكانية زوال الكيان، ستصبح شكوكهم أقل، وسيبدأ لديهم السؤال حول جدية بقائه. لدى اليائسين من إمكانية زوال الاحتلال، ستطرق جدران يأسهم رسالة جديدة مختلفة تدفعهم إلى التساؤل عن مدى رسوخ هذا اليأس واحتمال تغير الظروف.
أما منكرو إمكانية الزوال، فإنهم حين يرون أنَّ ثمة حقيقة متداولة تتشكل في الوعي المحيط بهم، سيصبح لديهم قلق تجاه الوعي الذي يحملونه، وستبدأ رحلة التغيّر بقناعاتهم.
فعاليات التّداول
يحتاج التداول الَّذي يمكن أن يوصلنا إلى هذه النتائج إلى مجموعة واسعة من النّشاطات الَّتي تحيي هذا التداول وترسخه لدى الشرائح المختلفة، تتراوح بين نشاطات فنية وثقافية ونشاطات حرب نفسية تجاه المجتمع المعادي؛ نشاطات وفعاليات ميدانية نخبوية وجماهيرية.
ولا شكّ في أنَّ المفردة بحدّ ذاتها لا تكفي، بل هي مجرّد مفتاح يحيل إلى دلالات ومرجعيات معرفية ومعلوماتية متوفرة بكثافة، وتستطيع أن تحيط المفردة بكلِّ المعرفة الواقعية التي تسندها وتؤيدها.
في المقابل، يبذل العدو جهوداً كبيرة لمنع هذا الأمل من الانتشار والترسخ والظهور كحالة معترف بها اجتماعياً لدى شعوب المنطقة، وهو يعمل على نشر الإحباط من خلال الإجراءات الإجرامية والقهرية والدعاية والحرب الثقافية، كما يعمل على تشتيت الاهتمامات من خلال الثقافة والدعاية، وكذلك عبر إنتاج الأزمات، ويعمل على خلق الحروب والعوائق العسكرية والأمنية، ويبني التحالفات التي تساهم في بناء صورته كحالة طبيعية ومستمرة في المنطقة. لذا، يكون ترسيخ هذه المفردة وتكريسها كتسمية نهائية للكيان، جزءاً من مواجهة عمليات اختلاق الوقائع وفرضها على الوعي العربي والإسلامي.