الكتائب والقوات يقعان في شرك الشركاء
ما المعطى الذي أوجد لدى الكتائبيين والقواتيين الارتياح؟ هل كذب الشركاء الأوروبيون على شريكيهما اللبنانيين؟ هل دفعوا في اتجاه تضليلهما؟ هل أسيء الفهم أم تعوّق الاستيعاب؟ أياً تكن الإجابة، وجبت المكاشفة، كما وجب فك الشراكة فوراً.
مرة جديدة يواجه مسيحيو لبنان الخيبة، وإذا ما استعرضنا مرحلة الحرب عام 1975 إلى حين انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل في العام 1988 إلى استحقاق اليوم، نجد التخبط سيد الموقف، والذي لا يراكم في حضور المسيحيين ومكاسبهم إلا الدمار... جراء خيارات لم تصب، لقادة راهنوا بخلاف ما كانت تأتي النتائج الكبرى.
في العام 1989، غطى حزبا الكتائب اللبنانية والقوات اللبنانية وبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق مار نصر الله بطرس صفير وآخرون، اتفاق الطائف، فيما عارضه مسيحيون مناوئون بقيادة رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية آنذاك العماد ميشال عون. وإذا كان الأخير شرساً في رفضه لهذا الاتفاق، وعليه خسر خياره ووجد نفسه في المنفى، فإن الأولين وإن كانا من المستشرسين في الدفاع عن هذا الاتفاق سراً، كانا في العلن مربكيْن في الساحة المسيحية التي كانت مؤدلجة على خلاف أفكار الطائف وعلى معاداة سوريا.
في حينه وأثناء مغادرة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع اجتماعاً مع العماد ميشال عون في القصر الرئاسي في بعبدا، وفي حمأة الأيام الصعبة والمجنونة، سألته وكنت من بين مجموعة من الصحافيين ننتظر أملاً نزفه إلى اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً الغارقين في بحر جهنم حربَي "الإخوة"، وبعد مراوغة من جانبه حول موقفه من الطائف: " إن الناس تريد الحقيقة واضحة وبكلمة واحدة، أنتم كقوات مع الطائف أو ضده؟ أجابني بكلام غير مفهومة مقاصده وبسؤال: "وهل تسأل القوات؟ وأردف أنا عندي ميليشيا".
ومع بدء تطبيق الطائف أودع السجن لأسباب عديدة. وبقي بطريرك الموارنة وحيداً مع رعية ساهم صوته في عظات الأحد وسواها في اقتيادهم إلى الإحباط.
ليس الإحباط وحده ما تكرّس منذ نهاية الثمانينيات، إنما والأخطر التأسيس لمعادلة الفراغ الرئاسي، مع تعطيل استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية في العام 1988 بمنع النواب المسيحيين والذين كانوا يقيمون في مناطق نفوذ الطرفين، من العبور إلى قصر منصور عند المتحف للمشاركة في جلسات الانتخاب، والذي تحوّل طوال فترة الحرب إلى مقر للبرلمان، وللريادة في ظاهرة تهريب الأموال إلى خارج لبنان.
واليوم، يقف حزبا الكتائب والقوات موقف الإرباك لكونهما شريكين في حزب الشعب الأوروبي epp الذي صوّت ممثله في الاتحاد الأوروبي مع قرار رافض لعودة مليوني نازح سوري من لبنان إلى سوريا.
وقد أحرجهما موقف يمنى بشير الجميّل الذي غزا وسائل التواصل الاجتماعي، ودعت فيه حزبَي والدها إلى تعليق شراكتهما في epp احتجاجاً على تصويته مع قرار الاتحاد.
وإذا كان موضوع النزوح السوري يوجب على لبنان واللبنانيين إنسانياً وبحكم الجيرة والعلاقات الأخوية حمايتهم، فإن السعي مع السلطات السورية لإعادتهم إلى بلدهم وديارهم أمر يعدّ من المسلمات لبنانياً وسورياً، لأن دمجهم في المجتمع اللبناني، كما يطالب الاتحاد الأوروبي وغيره من المنظمات والجهات الدولية الحكومية وغير الحكومية، يؤدي إلى ضرب قاصم لمعنى لبنان في خصوصياته التي يتصدرها التنوع الديموغرافي والغنى الثقافي، ويقضي على دوره كرسالة، إن أردنا تناول الجانب الآمن من الارتدادات لا الجانب الأمني تباعاً، ولبنان لم ينته بعد من تداعيات انغماس اللاجئين الفلسطينيين من خلال منظمة التحرير وغالبية المنظمات والفصائل في الحرب اللبنانية، التي كان اتفاق القاهرة عام 1969 وتداعيات أيلول الأسود في الأردن التي نقلتهم إلى لبنان، سبباً أساسياً ومباشراً فيها.
وإزاء هذه الحال، تأتي مواقف الحزبين ضمن استمرار جبهة رافضي الحديث مع دمشق والرئيس بشار الأسد، وعودة العلاقات اللبنانية - السورية طبيعية "مع النظام" في حين عادت جميع الدول العربية إليها قبل عودتها إلى جامعة الدول العربية، مع كسر قيود "قيصر".
قبل نحو شهر، جرت لقاءات واتصالات بين قياديين من الحزبين اللبنانيين المسيحيين نفسيهما، اللذين يعتدان أنهما الأقرب إلى الراديكالية المسيحية من سواهما، مع نواب وشخصيات أوروبية في البرلمان وفي الاتحاد الأوروبي، وتم إبلاغهم بحسب ما أعلنوا في حينها أن قراراً هاماً سيتخذه الاتحاد بشأن مسألة النازحين السوريين، وأظهروا في حينه ارتياحاً لما سيصدر من خلال المواقف التي لمسوها ممن التقوا، حتى جاء القرار الأخير الذي أقل ما يقال فيه إنه القرار التآمري الأكبر على مسيحيي لبنان، والذي يعني إنهاءً ممنهجاً لمسيحيي الشرق برمته.
والسؤال المطروح هنا، ما المعطى الذي أوجد لدى الكتائبيين والقواتيين الارتياح؟ هل كذب الشركاء الأوروبيون على شريكيهما اللبنانيين؟ هل دفعوا في اتجاه تضليلهما؟ هل أسيء الفهم أم تعوّق الاستيعاب؟ أياً تكن الإجابة، وجبت المكاشفة، كما وجب فك الشراكة فوراً.
لم يتوقف الإرباك عند حدود هاتين المحطتين، فمحطة الفدرلة التي تذر بقرونها اليابسة واليافعة لتغذي مناخاً أوجده القادة المسيحيون في نفوس قواعدهم، حاضرة وبقوة، معززة باستحضار الخوف من الآخر والتحريض على كرهه في كل مناسبة، والتجييش نحو الانعزال، "لنا لبناننا ولكم لبنانكم" و"لبنان لم يعد يشبهنا"، وإن ُغلف بعضها بلفافات الهدايا الخبيثة كطروحات منمقة في ألطفها اللامركزية الموسعة مع التشديد على تلك المالية.
من يا ترى يغذي تفريغ بعض الرؤوس من العقلانية والاتزان؟ يسبقها القطار وهي مسمّرة على المحطة تنتظر. و"ترام" التسوية يبدو مسرعاً لدرجة أن ما بلغته المفاوضات القائمة بين الجانبين الإيراني والسعودي يعدّ متقدماً وسريعاً على أكثر من مستوى.
يكشف النائب السابق علي بزي أنه في العام 2018 وكان في عداد وفد نيابي إلى الفاتيكان مع المؤسسة المارونية اللبنانية للانتشار، أن وزير خارجية الفاتيكان بول ريتشارد غالاغر أرخى ظلالاً من التشاؤم على الوضع اللبناني، خاصة المتعلق بالنازحين السوريين، وما قاله "لن أروي لكم قصص أطفال، أتكلم بمنتهى الواقعية، المجتمع الدولي برمته ضد عودة السوريين إلى بلادهم، وهذا الموضوع غير قابل للمناقشة في حساباتهم".
وحتى الساعة، وبعدما تحوّل التخوّف إلى واقعٍ، والشك إلى يقين، يبقى البعض منقاداً إلى ما يقرره ويفرضه المجتمع الدولي، ويبقى الحزب الأول، حزب الوالد والولد والوليد، والثاني المتولد عن الأول، يجابهان بلحم المسيحيين، بقطع الطريق على مسعى واقعي لإنجاز استحقاقات تملأ الفراغات المسيحية في المواقع الأساسية في الدولة والمتتالية الواحدة تلو الأخرى، التي لا تفسير لها سوى الإفادة من واقع الفراغ لتعزيز وضعية شعبية تحتاجها الأحزاب كافة، باعتبار واقع كهذا وفق توصيف البنك الدولي يخدم الجهات غير الحكومية ويساعدها كبديل يستقطب من خلال توفير بعض المساعدات للناس، والأهم قطعاً لبروز الشخصية التي ستتبوأ موقع الرئاسة كديك وحيد على الساحة قادر على التواصل مع من يجب لإعادة النازحين، وقادرٍ أن يسبقهم وبصوت عالٍ ومنفرد للصياح كل صباح، ليوقظ الوطن وينقذه.