العودة الفرنسية إلى لبنان بين الواقع والآمال
يبقى لبنان طبقاً أساسياً على المائدة الفرنسية لاعتبارات تتعلق بجذور التاريخ وحنين الانتداب ولغة التواصل الفكري والمعنوي والنفسي.
بين واقع إنجاز الترسيم مع الكيان الصهيوني وتأليف حكومة قبل نهاية العهد والوقوع في فراغ رئاسي سبقه فراغان. الأول انتهى في أيار/مايو عام 2008 باتفاق الدوحة، حينما جرى التوافق على انتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيساً، الثاني كان عام 2014 وانتهى عام 2016 بانتخاب الرئيس عون.. وما بين توافق الكتل على انتخاب رئيس من دون أرجحية نيابية للكتل التقليدية بعد انتخابات أيار/مايو 2022، تبقى السطوة الإقليمية والدولية حاضرة لما لها من انعكاس على أي اتفاق بين الفرقاء المحليين تبعاً لتطور الأحداث من سياسية وأمنية وعسكرية في المحيط والعالم.
لم تتوانَ فرنسا عن محاولة صبغ السياسة الداخلية بطابعها الخاص منذ الاستقلال عام 1943 مروراً بأحداث عام 1958 وحتى مطلع الحرب الأهلية عام 1975 ومروراً بفترة ولاية الرئيس ديغول في الستينيات، وسعيها لإنضاج تسويات حتى عهد الرئيس شيراك الذي لم يكن لديه هالة ديغول السياسية والعسكرية ولا ثقافة ميتران وبومبيدو، ولكنه كان يملك سر العلاقة الاستثنائية بالراحل رفيق الحريري، الذي عرف كيف يستفيد من حنكته ليسخّر هذه العلاقة لخدمة قضايا لبنان والعرب الشائكة، واستمر هذا الرابط المتين منذ التسعينيات حتى مطلع الألفية الثانية حيث تراجع أمام التقدّم العسكري الأميركي والغزوات وسياسة (من ليس معنا فهو ضدّنا) وكان الدور الفرنسي قد شهد أيضاً تراجعاً في عهد ريغان وجورج بوش الأب وبعض فترة كلينتون، حتى عاد الحديث عن حيوية فرنسية بناء على معطيات كثيرة تبلورت بعد الحضور العسكري الروسي على شاطئ المتوسط والدور الاقتصادي المجابه، وراية إيران الخفاقة إقليمياً والتذبذب على كل المستويات بعد دخول روسيا أوكرانيا في شباط الماضي وما يمكن أن ينتج عنه من معاناة أوروبية وفرنسية بدأت تبعاتها تظهر في اضطرابات وتظاهرات وتبدّل تحالفات وانهيارات غير مسبوقة.
رسم الفرنسيون معالم المرحلة الجديدة مع لبنان بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وذلك بوصول شخصيات فرنسية صديقة للبنان من أمثال دومينيك شوفالييه، ولويس بيترلان، حيث عُمل على تأليف لوبي فرنسي لبناني، مهمته الضغط على الحكومة الفرنسية من أجل تغيير سياستها في لبنان، ونجحت هذه الشخصيات في إقناع الحكومة الفرنسية بتغيير سياستها تجاه لبنان، فكانت أولى ثمار هذا التغيير الزيارة الرسمية التي أجراها رئيس مجلس الوزراء الأسبق رشيد الصلح لفرنسا عام 1992 والتي صدر إثرها قرار من الرئيس الفرنسي "ميتران" قضى برفع الحظر عن المساعدات العسكرية الفرنسية للجيش اللبناني.
وتبع زيارة الصلح زيارة للمشرف على أجهزة الأمن الفرنسية الجنرال "فيليب روندو" لبيروت للاجتماع بالقادة الأمنيين، حيث قال كلمته الشهيرة لأحد السياسيين بعد زيارة رئيس الجمهورية آنذاك، "لستم بحاجة إلى أكثر من رئيس مجلس كهذا". تبعته مشكلة الملحق العسكري اللبناني في باريس التي تناولها الضابط الفرنسي مع الرئيس الحريري الذي نفى نية لبنان سحب ملحقه العسكري هناك، ثم انتقلت العلاقة إلى شخصية بناها الحريري الأب مع شيراك أثّرت إيجاباً في موقف عدد من الدول واستمالتها لمصلحة القضية اللبنانية ومقاومة الكيان الصهيوني، حيث تظهّر تفاهم نيسان 1996عام الذي نجح لبنان في فرضه مع انحياز فرنسي واضح أثمر وآتى أُكله. أما في السنوات الأخيرة، فقد ضبط الفرنسيون إيقاعهم في لبنان بناء على نقاط عدة.
أولاً: اقتناع الفرنسيين، على الرغم من الحديث عن السعي لإنجاز اتفاق جديد يصوغ عقداً اجتماعياً وسياسياً جديداً، بعدم إمكانية إعادة أي من صلاحيات رئيس الجمهورية التي كانت سائدة قبل الطائف عام 1989، بل إن أي اتفاق مزمع سيدفع طوائف إلى فرض معادلات جديدة بأطر أوسع.
ثانياً: يسعى الفرنسيون بمساعدة دول (كسويسرا) ذات باع طويل لعقد لقاءات وتسويات لإنضاج تسوية (آنية أو مرحلية على الأرجح) تشبه لوزان أو جنيف (مؤتمرات حصلت إبّان الحرب الأهلية وجمعت الفرقاء اللبنانيين المتحاربين) مع الأخذ بالاعتبار تغيّر الظروف وعناوين المرحلة والصراع العسكري، الذي كان سائداً عامي 1983 و1984.
ثالثاً: التداخل بين السياسة والاقتصاد، إذ يشكّل ذلك رافعة لفرنسا وعنواناً لتحركها بدءاً من المرفأ حتى شركات التنقيب (توتال) وصولاً إلى الأزمة الدولية الآخذة في التنامي بعد الحرب الروسية مع الغرب.
رابعاً: الدور الأوروبي، ومن خلفه الفرنسي الذي يعي معنى تفلّت المواجهة العسكرية بين المقاومة والكيان، وبخاصة بعدما وصل تحذير عالي النبرة من المقاومة إلى قنوات فرنسية بأن الوضع ليس عابراً ولا ينطلي تحت عناوين الحرب النفسية. وكان الفرنسيون قد خبروها عملياً بعد إطلاق المسيرات فوق "كاريش".
خامساً: الرسائل المباشرة وغير المباشرة إلى الأميركي، ومفادها أننا نستطيع أن نضغط وأن يكون لنا اليد الطولى في تجنيب المنطقة برمتها انفجاراً لا تُحمد عقباه، سيأتي حكماً على الترتيبات الأمنية والاقتصادية المزمع إنجازها للحد من تأثيرات الحرب في أوكرانيا.
سادساً: رغبة فرنسا في إبلاغ من يعنيه الأمر أنها لن تكسر الجرة وتستطيع أن تبقي على شعرة معاوية مع كل الأطراف اللبنانية، بمن فيهم المقاومة التي احتفظت فرنسا معها بعلاقة وتنسيق كبيرين في تسعينيات القرن الماضي.
سابعاً: تماهي القرار السياسي الفرنسي مع قرار الفاتيكان الضغط لعدم إطالة أمد الفراغ في الكرسي الرئاسي المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط، الذي يمكن أن يخسره الموارنة لمصلحة الإخوة الأرثوذوكس أو الكاثوليك، بعدما وصلت إلى دوائر فرنسية - فاتيكانية رغبة هذه الطوائف في تسيّد مقاليد الرئاسة الأولى وباعتماد المداورة، فضلاً عن حديث باقي الطوائف عن وظائف الفئة الأولى تلميحاً وتصريحاً.
بناء على ما تقدم، يبقى لبنان طبقاً أساسياً على المائدة الفرنسية لاعتبارات تتعلق بجذور التاريخ وحنين الانتداب ولغة التواصل الفكري والمعنوي والنفسي التي ينسجها البعض في لبنان مع فرنسا، وعلى الرغم من كل ما يلوح في الأفق من أوضاع غير مستقرة في أوروبا، وبخاصة فرنسا على صعيد الأمن الطاقوي أو الغذائي فضلاً عن التهديدات البيئية، يبقى لبنان حجر زاوية في السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط. ألم يقل شيراك في يوم من الأيام " لبنان حجر أساس على جبل من نار"؟ فهل تنجح فرنسا؟ أوليس الغد لناظره قريب.