إعلان الأطلسي شراكة أميركية بريطانية لاحتواء الصين
هل تستطيع الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفاؤها احتواء الصين وتعديل سلوكها؟
تحت مسمّى "إعلان الأطلسي" أعلن كلّ من الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك شراكة اقتصادية جديدة تهدف إلى خوض التحديات الجيوسياسية الكبيرة الراهنة، وخصوصاً في مواجهة طموحات الصين.
وينص "إعلان الأطلسي" الذي وقّع في البيت الأبيض الأسبوع المنصرم على شراكة استراتيجية في المجال الاقتصادي في قطاعات الذكاء الاصطناعي والمعادن الضرورية الحيوية، وشبكات الإنترنت 5G وG6، والتحوّل في مجال الطاقة الأحفورية، وسلاسل الإمداد والتوريد، وأمنياً في مجال الأمن الدفاعي وتعزيزه وتحديث الأسلحة المتطورة في مواجهة دول وصفت بالاستبدادية مثل روسيا والصين.
إعلان الأطلسي يكشف المزيد من الأهداف الاقتصادية والسياسية والأمنية للحليفين القديمين اللذين ينسّقان في كل شاردة وواردة، فشراكتهما تتقدّم على أي شراكة أخرى في العالم. من هنا جاء هذا الإعلان ليؤكّد رسوخ هذه الشراكة ومتانتها لمواجهة روسيا واحتواء النفوذ الصيني ولا سيما على الصعيد التكنولوجي، وهي أهداف تعمل واشنطن بشكل حثيث على تحقيقها من خلال سلسلة من الإجراءات والخطوات والقرارات مرّة بمفردها ومرّة مع حلفائها.
ومن نافل القول إنها ليست هذه المرة الأولى التي تعد فيها واشنطن العدة لردع الصين، فبريطانيا وعند إعلان تحالف أوكوس قبل نحو عامين كانت أحد الأعضاء الفاعلين فيه إلى جانب الولايات المتحدة وأستراليا، وهي موجودة في صلب مجموعتي السبع والعشرين، وهي تؤيد المناورات العسكرية التي تنفّذها الولايات المتحدة في البحار الصينية وتدعم كثيراً كلّ تحرّكاتها الميدانية.
كما لم تغب كذلك عن دعم الأميركيين في قرارات اقتصادية غايتها تقييد نفوذ الصين التكنولوجي، وتقييد انسياب البضائع الصينية والتضييق عليها عبر رسوم جمركية، والحصول على تقنيات تخص أشباه الموصلات، وهذا ما تدركه الصين جيداً، إذ تعمّق هي الأخرى تحالفاتها مرّة عبر بريكس ومرّة أخرى بمبادرة الحزام والطريق، ولا ننسى التمدّد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة النفوذ الأميركي.
فما هي الأهداف والغايات الأميركية والبريطانية من وراء إعلان الأطلسي؟
ثمة أهداف وغايات أميركية وبريطانية كامنة خلف إعلان الأطلسي نوجزها بما يلي:
1 ـــ الإعلان هو تأكيد التحالف الإنكلو ساكسوني الذي يتقدّم على كل تحالفات الولايات المتحدة، وهو التحالف الممتد لأكثر من 300 عام، هذا التحالف الذي خاض بالتكافل والتضامن حروب العقود الماضية في أفغانستان والعراق، ويخوض اليوم الحرب ضد روسيا في أوكرانيا، وبالتالي هذا التحالف سيكون حتماً رأس الحربة في أي حرب أو مواجهة مع الصين مستقبلاً.
2 ـــ جمع موارد البلدين الكبيرين، الولايات المتحدة وبريطانيا، يعزّز من قدراتهما في معركة تقييد النفوذ الصيني واحتوائه وإفشال محاولات بكين بالتمدد، وإقامة التحالفات مع الكثير من الدول حول العالم، وإضعاف حضور الصين الطاغي في الأسواق العالمية.
3 ـــ تهدف الولايات المتحدة الأميركية من خلال إعلان الأطلسي وكل تحالفاتها واتفاقاتها التي تجريها لتأكيد مجموعة المبادئ والأعراف التي تنظّم عمل النظام الدولي، مع تركيزها على الشق الاقتصادي لناحية تأكيد عدم سرقة التكنولوجيا والإكراه الاقتصادي الذي تتهم فيه واشنطن بكين، حيث تعمل الأولى على بناء إجماع حول هذه المبادئ والتوجهات وتعزيز ريادتها في هذا السياق، وهذا باعتقادها ما يمكّنها من مواجهة الصين وعزلها وتحسين موقعها التفاوضي مستقبلاً، لإجبار بكين على الانصياع للشروط الأميركية التي تصب في خانة إبطاء النمو الصيني ما يؤدي عملياً إلى إضعاف الصين دولياً.
4 ـــ تهدف الولايات المتحدة من هذا الإعلان لإشاعة المزيد من الاطمئنان لشركائها وحلفائها في منطقتي آسيا وأوروبا مفاده أن واشنطن ما زالت قادرة وقوية وهي موضع ثقة لحلفائها، وهي ذاهبة إلى أبعد الحدود في هذا العقد الحاسم في مواجهتها مع الصين، وأنها ستقف بحزم لردع الممارسات غير الجيدة والسلوكيات غير الحميدة لبكين، والتي تعتقد واشنطن أنها تهدد نفوذها الاقتصادي وهيمنتها العالمية، لذا لا بدّ للصين من وجهتي النظر الأميركية والبريطانية أن تتبع الأعراف الدولية المقبولة خاصة من الناحية الاقتصادية، وهذه الأعراف وضعتها وهندستها الولايات المتحدة.
5 ـــ هذا الإعلان يشكّل دافعاً قوياً لرؤية الولايات المتحدة لمسألة تايوان، التي يجب أن تبقى منفصلة عن الصين، التي تعد العدة لاستعادة تايوان ولو بالقوة العسكرية، فواشنطن تدرك أن ذلك إن حصل سيغيّر من موازين القوى في منطقة آسيا لصالح الصين، وبالتالي على كامل منطقة بحر الصين الجنوبي ما يعني هزيمة لها ولحلفائها في المنطقة، الذين سيسارعون للتفاوض مع بكين والاستجابة لشروطها لأن الولايات المتحدة ستصبح مقيّدة ومعدومة القدرة في الدفاع عنهم مستقبلاً.
6 ـــ يهدف إعلان الأطلسي إلى تطوير التكنولوجيا النووية "السلمية" كما يشير في أحد بنوده، وذلك برأينا لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتحديداً الروسي، الهدف المشترك من ذلك تعميق الهوة بينهما وبين كل من روسيا والصين وتحقيق التفوّق الكاسح عليهما. هذه التجربة ستغري الولايات المتحدة لتوسيع دائرة تعاونها النووي مع الدول الحليفة، وعلينا ألّا ننسى أن الولايات المتحدة أبرمت اتفاقاً استراتيجياً مع أستراليا لتزويدها بغوّاصات تعمل بالطاقة النووية، وعليه قد نرى إجماعاً ثنائياً ومتعدّداً، واشنطن طرف رئيسي ودائم فيه، لإنهاك خصوم الولايات المتحدة واستنزافهم بشكل كبير، سعياً لتحقيق التوازن المطلوب معها في هذا المضمار.
7 ـــ تحاول بريطانيا من خلال هذا الإعلان أن تطوّر علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة منذ أن غادرت الاتحاد الأوروبي، فإعلان الأطلسي يمثّل تجسيداً لهذا المحاولة والجهد البريطاني لتعزيز قدرة لندن في التكنولوجيا الصاعدة والأبحاث والتقنيات الناشئة، وتنويع سلاسل التوريد لها، لأنها تدرك أن للمصادر والموارد النادرة دورها في التطور التكنولوجي والتي تستخدمها في السيارات الكهربائية مثلاً وغيرها من أنواع التكنولوجيا.
لذا التعاون بين البلدين يخدم بريطانيا كونه يعمّق الشراكة مع الولايات المتحدة في قطاعات اقتصادية حاسمة وغاية في الأهمية، وتفتح الباب للتعاون في المجالات الأخرى. ومن الأهمية بمكان أن نشير بعجالة إلى أنّ ما يقوم به البَلدان يتوافق مع سياق عمل مجموعة السبع G7، التي اتفق قادتها في قمتهم التي انعقدت في مدينة هيروشيما اليابانية في أيار/مايو الماضي على إطلاق مبادرة أسموها "برنامج التنسيق بشأن الإكراه الاقتصادي"، وهي تشكّل نهجاً مشتركاً لهذه المجموعة تجاه الصين، للتصدي لمبادرتها المعرفة باسم الحزام والطريق.
8 ـــ إعلان الأطلسي يمثّل جرعة مهمة مدعومة أميركياً تهدف إلى ترتيب البيت الداخلي البريطاني، الذي شهد تقلبات وعدم استقرار عقب استقالة بوريس جونسون، فبريطانيا تُعتبر حليفاً موثوقاً أميركياً يعمل بوحي سياسات واشنطن في قلب أوروبا، بمعنى آخر إعادة تحديث وتجديد الدور البريطاني الذي عمل طيلة عقود على إعاقة عمل التكتلات الأوروبية، التي كانت ترى فيها واشنطن خطراً يتهدد نفوذها وهيمنتها على القارة الأوروبية التي تعتبرها واشنطن ساحة مهمة، وركيزة أساسية في معركة احتواء روسيا وتفتيتها، ولمنع أي شراكة بين روسيا وأوروبا التي تعني عملياً نهاية الهيمنة الأميركية.
9 ـــ يهدف هذا الإعلان أيضاً إلى كسر الهيمنة الصينية سلاسل التوريد، فالصين تعتبر مصنع العالم حيث تأتي منها أغلب السلع الحيوية المهمة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أشباه الموصلات والذهب وغيرها من الموارد المهمة. هذه الهيمنة الصينية وفق المنظورين الأميركي والبريطاني تسهّل لبكين توسيع نفوذها إلى مناطق تعتبر تاريخياً مناطق للنفوذين الأميركي والبريطاني.
10 ـــ يشكّل إعلان الأطلسي إشارة واضحة من قبل أكبر جهتين عسكريتين مانحتين لأوكرانيا إلى دول حلف الأطلسي قبل قمتهم المرتقبة في فيلنيوس، ليتوانيا الشهر المقبل، بأن على دول الحلف أن تبقى ملتزمة وثابتة وموحّدة في دعمها لكييف، وبالتالي فإن التوافق مع أوكرانيا أصبح أكثر تآزراً في ظل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الذي يدفع باتجاه ترشيح ودعم وزير الدفاع البريطاني بن والاس، ليكون الأمين العام القادم لحلف الأطلسي وبمباركة وتأييد أميركي، خلفاً لــ ستولتنبرغ الأمين العام للحلف الذي أوشكت ولايته على الانتهاء.
خلاصة القول إن إعلان الأطلسي يعتبر إسناداً للمهمة الصعبة التي أعلنت عنها الولايات المتحدة، وتتولّى رأس حربتها وتتمثّل بالعمل على احتواء الصين في هذا العقد الحاسم، على الرغم من تسترّه خلف عناوين وقضايا الاقتصاد، التكنولوجيا، وسلاسل التوريد والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة.
إذ بات من شبه المؤكد أن هذه المهمة صعبة على واشنطن لوحدها، فاحتواء الصين لا بدّ له من حلفاء، وهنا يأتي دور البريطانيين وغيرهم من حلفاء واشنطن في حلف الأطلسي وتحالف العيون الخمس، وتحالف كواد، وتحالف أوكوس، وسلسلة طويلة من الاتفاقات الثنائية، وليس آخرها الاتفاق الذي وقّع بين الولايات المتحدة وفيتنام.
فإعلان الأطلسي يساعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على البقاء في طليعة عالم سريع التغيّر وفق الأدبيات المعلنة في الخطاب الرسمي لكل من واشنطن ولندن، كما أنه يشكّل مدماكاً مهماً يعمل على الإكراه السياسي والاقتصادي والعسكري للدول الأخرى لدفعها للاصطفاف مع التحالف الإنكلوساكوني، الذي عبّر عن مخاوفه الرئيس الأميركي جو بايدن بعيد انتخابه حين قال: "إن الصين ستهزمنا ما لم نتحرّك".
وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفاؤها احتواء الصين وتعديل سلوكها؟ أم أن ذلك سيكون بداية الطريق الصيني لتفكيك تحالفات الولايات المتحدة لترتيب عالم ما بعد أميركا، وإعادتها إلى عزلتها من جديد؟