إردوغان العائد بعد الجولة الثانية.. زعامة تاريخية متعثرة

لا شك في أن إردوغان قرأ نتائج الجولة الأولى الرئاسية جيداً، والأهم أنه قرأ الخارطة السياسية لبلاده، والتي تعكس مزاج الناخبين بشكل دقيق من خلال النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية.

  • الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متحدثاً مع
     رجب طيب إردوغان 

ما قد يفوق نتائج جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التركية الحاصلة في 28 أيار/مايو الجاري، التي يستبعد أن يكون للمفاجأة فيها حيّز ونصيب، هو التكتيك الذي سيلجأ إليه مرشح حزب "العدالة والتنمية"، الرئيس التركي رجب إردوغان، لضمان الفوز بهذه الجولة، لا سيما أن تقديرات المراقبين لا تتوقع فوزاً كاسحاً، لأن الجولة الأولى دللت بما لا يدع مجالاً للشك أن الانقسام السياسي في تركيا، يتعدّى شخص الرئيس التركي وأداءه، إلى شكل النظام السياسي الذي يعدّ محور هذا الانقسام. 

فالناخب التركي كان في جولة الاقتراع الأولى يختار أيضاً بين شكلين للنظام السياسي، النظام الرئاسي والنظام البرلماني، والبعض بات على قناعة أن النظام الرئاسي في تركيا هو الذي مكّن إردوغان من القيام بممارسات اقتربت من القمعية، لا سيما في تعاطيه مع الصحافة المعارضة له. وعلى الرغم من حضور هذا الواقع في تحديد خيارات الناخبين، فإن فريق المعارضة لم يستطع تأمين الأغلبية الكافية لإحداث التغيير المأمول.

لكن، قبل الإجابة عن سؤالنا حول التكتيك الذي سيلجأ إليه الزعيم التركي، وهو ذاهب إلى جولة الإعادة، لا بدّ من استعراض أوراق القوة التي استخدمها في الجولة الأولى، وسيُبقي على فعاليتها للعودة إلى دولمه بهشه، قصر السلاطين. فبداية، الرجل يملك كاريزما اختلطت عناصر كثيرة في صناعة سحرها، مثل إطلالته، نظراته الحادة والمركّزة، صوته الرخم في قراءة القرآن وحتى في الغناء إن احتاجت الانتخابات ذلك، قدرته الفائقة على التحكم في قسمات وجهه ونقلها من وضعية المزاح الى الجِد لصيانة رهبته وفحصها دائماً، وإجادته ابتكار تصرفات شعبوية لها في الوجدان التربوي الإسلامي التركي صدى، كتوزيع المال على الأطفال في مناسبات متعددة ومختلفة. 

كما أن خطاب الرئيس التركي السياسي الشعبوي الذي أقنع جماهيره بأن ما أتيح له من هامش استقلالية في سياسته الخارجية هو من صناعته، وأنه يعكس قوة تركيا واستقلالية مواقفها إزاء القضايا الإقليمية والدولية. فنبرته العالية والحادة حيال أوروبا ودولها واتحادها، والتي يسعى لإظهارها على أنها امتداد لسياسة عثمانية موغلة في التاريخ، حين كانت السلطنة تقرّر وتملي، وليس استجابة لرغبة أميركية تهدف إلى ضبط خيارات شركائها الإستراتيجية. 

كذلك حديثه الدائم عن إعادة الوصل مع الشعوب التركمانية في آسيا الوسطى هو في إطار إعادة إحياء المجال الحيوي التركي، إذ استطاع أن يخفي ضمنه التماهي مع السياسة الأميركية حيال تلك الدول ورغبة الأخيرة في تفكيك المجال الحيوي الروسي. حتى مسألة النازحين السوريين في تركيا، استطاع أن يخرجها من سياقها، كترتيب أخير من ترتيبات إغلاق ملف سمّي "الربيع العربي"، وألحقها بسياق خطاب قومي بركيزتين اثنتين: فرض التوطين الكثيف للسوريين في مناطق من شأنها أن تلغي التأثير الإستراتيجي للانتشار الكردي في سوريا في أمن تركيا القومي، وترحيل كل الفئات غير المنتجة منهم، والتي باتت تشكل عبئاً على الاقتصاد التركي. 

ولا بد من الإشارة هنا أن تركيا كانت من أكثر الدول إفادة من النزوح السوري، إذ ساهم هذا النزوح في رفد الاقتصاد التركي بالرساميل والعنصر البشري الذي ساعده على زيادة المساحات المستثمرة في القطاع الزراعي، واقتحام أسواق تجارية عالمية لم تكن متاحة للأتراك سابقاً بحكم الانتشار السوري في أنحاء العالم، أضف إلى ذلك، الأزمة المالية التي ضربت القطاع المصرفي في لبنان ودفعت بالرساميل السورية الموجودة بالعملة الأجنبية إلى تركيا مجدداً. 

إضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار حرصه على وضع توقيعه على كل إنجاز في مجال الصناعات العسكرية التركية هو إحدى أوراق القوة التي استخدمها في الجولة الأولى من الانتخابات، مع التأكيد أن معجزته الحقيقية في هذا المجال هي "الطائرات من دون طيار".

كل هذه الأوراق التي أجاد الرجل ترتيبها واستثمارها لم تحسم رئاسته من الجولة الأولى، الأمر الذي حقّق مبتغى الدول الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية من تجميع المعارضات في وجهه، وهو إلحاق تشويه متعمّد بصورته كقائد تاريخي لتركيا. 

لكن، ماذا عن أوراقه المرشّحة للتقدم في الجولة الثانية؟ 

لا شك في أن إردوغان قرأ نتائج الجولة الأولى الرئاسية جيداً، والأهم أنه قرأ الخارطة السياسية لبلاده، والتي تعكس مزاج الناخبين بشكل دقيق من خلال النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية. هذا المزاج الذي يحسن إردوغان التقاطه وعدم استفزازه، فهو الذي ضحى بخمسة مقاعد من حزبه ومنحها لنجل أستاذه أربكان فقط ليظهر في الانتخابات أن هذا الأخير بلونه الإسلامي المعتدل ورمزيته التاريخية جزء من هذا التحالف. 

لكنّ الثابت الوحيد هو أن القوى القومية، قد حققت تقدماً في جميع التحالفات وفي لائحتها المستقلة، فالتقديرات تشير إلى أن مجموع ما حصلت عليه القوى والأحزاب القومية بلغ 23% من الأصوات توزعت على الشكل التالي: 

-حزب الحركة القومية 10,06 % 

-الحزب الجيّد 9,75 % 

-الوحدة الكبرى 0,94 % 

-حزب النصر 2,25% 

هذا إضافة إلى ما حصل عليه المرشح الرئاسي سنان أوغان من نسبة أصوات. هذه الأرقام بالتأكيد ستفرض على إردوغان تبني خطاب ثلاثي الأبعاد: 

-البعد القومي للإفادة من مزاج 23% من الناخبين، وهي النسبة الأعلى التي حصدتها الأحزاب القومية حتى الآن في تاريخ تركيا، ولقد بدأ هندسة جديدة لخطاب ترحيل السوريين، إذ راح يميز بين السوري المفيد والمنتج وسواه، في محاولة لإيجاد نقاط تقاطع مع الاتجاهات القومية المتصاعدة. 

-العودة مجدداً إلى التركيز على خطط لإعادة إعمار المناطق التي أصابها الزلزال، والتي لن يميّز فيها بين منطقة وأخرى وفقاً لتبعيّتها السياسية، كما يفعل منافسه كمال كليجدار أوغلو. 

-مواجهة الناخب بحقيقة مفادها أن تحالفه حاز الأغلبية النيابية، وبالتالي فإن الخيار البديل، أي كمال أوغلو، هو خيار تعطيلي للحياة السياسية في البلاد، الأمر الذي سيؤثر سلباً في حصاد تركيا على الصعيدين الداخلي والخارجي. 

هذه الأوراق، كما سابقاتها، ستساهم في عودة إردوغان إلى دولمة بهشه، لكن السؤال هل هي عودة مظفرة، أم عودة مضبوطة على وقع أرقام وخارطة سياسية فرضتها قوى دولية ومحلية من شأنها أن تفرمل اندفاعاته في بعض الملفات، والتي لم تتعدَ، إلا شكلاً، الخطوط الحمراء للغرب. 

 

يشهد يوم 28 أيار/مايو جولة إعادة من انتخابات الرئاسة في تركيا، حيث سيتنافس فيها رجب طيب إردوغان وكمال كليجدار أوغلو، بعد جولةٍ أولى في 14 أيار/مايو، لم يتمكن أي مرشحٍ من حسمها. وبينما اكتمل مشهد البرلمان، فإن تركيا أمام استحقاقٍ رئاسي مصيري لتحدد خياراتها.