أطروحة الثورة الإسلامية ومشروع الدولة الحديثة
إنَّ الحديث عن خطوة ثانية ومرحلة جديدة من الثورة الإسلامية فيه دلالة على أنها ثورة تمثل مشروعاً متكاملاً لكل الأجيال. هي إذاً الثورة المشروع التي اختلفت ملامحها عن كل الثورات عبر التاريخ.
بينما انحلت وتحلّلت معظم الثورات الغربية والعربية على صعيد صناعة مستقبل الدولة والاجتماع -إن لم نقل كلّها- إذ لم تقدّم أطروحة متكاملة الملامح طويلة الأمد، أو الأصح أنها تجمدت وبقيت وليدة أنساقها المعرفية والتاريخية الخاصة بها، نجد أنفسنا أمام الثورة الإسلامية، نحن جيلها الرابع، وقد ازدادت توهّجاً في نفوسنا، ورسوخاً في ضمائرنا، وتأصلاً في منظومتنا الأخلاقية والعقائدية، حتى بدأ الحديث بعد مرور 4 عقود على انتصارها، عن الخطوة الثانية، وذلك في بيان القائد السيد علي الخامنئي، فما هو هذا العامل الذي جعل الثورة الإسلامية ثورة متدفقة سيّالة لا تعرف الركود، ولا الانحلال، ولا التصلب؟ علامَ أنبنت هذه الثورة؟ وإلامَ استند بنيانها حتى أضحت ثورة متولدة تتسم بالخصب في كل زمان ومكان؟
إنَّ الحديث عن خطوة ثانية ومرحلة جديدة من الثورة الإسلامية فيه دلالة على أنها ثورة تمثل مشروعاً متكاملاً لكل الأجيال. هي إذاً الثورة المشروع التي اختلفت ملامحها عن كل الثورات عبر التاريخ.
لقد عرف الإمام روح الله الخميني (قدس سره) سيكولوجية شعبه المعنوية وإيمانه الفطري وشعور الانتماء الأصيل في نفسه على اختلاف المذاهب والعقائد الموجودة، وهو إذ كان عارفاً شاعراً فيلسوفاً ورجل دين وعقيدة وجهاد، فقد سعى بكل السبل لتطبيق العرفان النظري في الحياة العملية السياسية والاجتماعية على وجه الخصوص، بعدما تجرّع ثمار هذا المسلك على الصعيد المعنوي والروحي، إذ عده السبيل الأنجع لإخراج بلاده وشعبه من نير الفساد الذي استشرى به في زمن تبعية الملك للطاغية؛ زمن الخروج من الجاهلية ودخول حقبة الحداثة المستوردة، حيث كان الانفتاح الفجائي على ثقافة الغرب أمراً خطراً على مجتمع اعتاد الاختباء خلف نقاب الجاهلية القاجارية المتمثّلة في السلفية الفكرية والأصولية الاجتماعية.
في الواقع، لقد خلّفت عملية الخروج من الجاهلية إلى ما كان في تلك اللحظة يعتقد أنه حداثة تبعات جمة في هيكل المجتمع وبنيته الفكرية والسياسية والثقافية، فقد تكشّفت هذه المرحلة عن زيف كثير من القناعات والمبادئ الأخلاقية والدينية كذلك، حتى ذهب كثير من رموز النهضة والإصلاح في إيران آنذاك إلى وسم التشيع الحاكم في اللحظة بالتشيع الصفوي، الذي يختلف كلياً عن التشيع العلوي الأصيل.
هذا ما رأيناه بوضوح في فكر علي شريعتي المفكر النهضوي، الذي ميّز بين الإيمان عن جهل والإيمان عن معرفة، إذ يتخلّى المرء عن إيمانه أمام غزوة الحداثة، وعند أول استحقاق. وقد ضرب مثالاً من مجتمعه، نساء العصر القاجاري اللواتي تخلّت كثيرات منهن عن حجابهن في عصر بهلوي الأب، ما جسّد نموذجاً بسيطاً لزيف القناعات وأصولها التقليدية والعرفية البعيدة كل البعد عن المعرفة الحقيقية بالدين وأصوله، وهذا ما جعل شريعتي، الذي يعدّ من الممهدين للفكر الثوري الإسلامي في إيران، يذهب إلى تصنيف المرأة المسلمة كنموذج "ثالث" لا "متغربن" متفلت من الأخلاقيات ولا شرقي متزمت جاهل.
استطاع الإمام الخميني الراحل أن يجلي وجه الإسلام الحقيقي، فيكون معرفة، ويكون عرفاناً، ثم إيمانا،ً ثمّ سلوكاً. استطاع أن يحقّ حقوق الإنسان الكاملة، حقوق الطفل والمرأة، بعدما كانت حقوقها مسلوبة ووجودها غير معترف به في ميادين السلطة والحكم. المرأة التي استحالت بعد خلع الحجاب والنقاب دمية، عليها أن تقلّد إيماءات المرأة الغربية ولغتها وحركاتها، من دون أن يكون لها رأي، لأن عقلها يبقى ناقصاً.
في الواقع، الحداثة المستوردة خلال البهلوية ضربت أشكال التعبير عن الانتماء الديني والعبادات والعادات المذهبية، فيما لم تمنح المجتمع آنذاك الحقوق البديهية التي تأتي بها الحداثة حيثما حلت، من حقّ التعبير عن الرأي والحق في المشاركة في السلطة وحق التعلم...
كانت التبعية البهلوية للغرب صورة نموذجية للتقليد الفاسد للحداثة، فلا يمكن أن تحقق حداثة مشروعها ما لم تكن وليدة نسقها الزماني والمكاني. ولا يبدو أن الحداثات المستوردة تنجح، إذ تكون غالباً صورة مسقطة للنموذج الغربي على نسق لا يشبه الغرب في شيء. بمعنى أصح، من غير الممكن تذييت الحداثات الأخرى في مجتمعات لا تشبهها، ولا يمكن تأصيل ما هو غير أصيل. وبالتالي، من غير الممكن تحقيق أهداف التقدم والازدهار من خلال استخدام أدوات هذا النوع من الحداثات.
استرجع الإمام إذاً حق البلاد في التقدم وبلوغ الاكتفاء الذاتي والاستقلال الحقيقي. وبذلك، استطاع أن يقدم بثورته أطروحة أو مشروعاً للدولة القوية التي يحسب لها العالم ألف حساب. هي الدولة أو المدينة الفاضلة التي بحث عنها المفكرون والفلاسفة، والتي يحكمها رجل فيلسوف أو حكيم، كما ذهبت المثالية الأفلاطونية، وهي بالطبع، الدولة السائدة التي يحكمها رجل قوي، كما ذهبت العقلانية الكانطية.
أوليست دولة "الولي الفقيه" بتعبير آخر هي دولة "الحاكم القوي الحكيم والعادل"؟ لكننا نرى باستمرار محاولة إيجاد اللبس في مفهوم الولي الفقيه وإلباسه لبوس الأيديولوجيا والانتماء الطائفي، أو ما يسمّى في العلمانية الحديثة خلط الدين بالسياسة، وهو ما نفاه قائد الثورة آنذاك ومرشدها اليوم مراراً وتكراراً، مؤكدين أنها ثورة إنسانية ضد الفساد، وأنها جمهورية إسلامية تؤسّس لحضارة إسلامية تفضي إلى حضارة إنسانية شاملة، تبنى على العدالة والأخلاق، أبعد من المذهب، أبعد من الانتماء.
جاءت لحظة الثورة إذاً بقيادة هذا الحكيم القوي، لتكون أعظم الانتفاضات الشعبية في التاريخ، وأكبر تحوّل مفصلي في "براديغم" السياسة والاجتماع، كما رآها ميشال فوكو، وهو الذي قال إنها ثورة دشّنت نحواً جديداً من الروحانية. وعبر هذه الروحانية، تأتّى للشعب أن ينتفض على النسق الكوكبي، فراحت هذه الروحانية السياسية بتعبيره، تمضي نحو التجذر، وراح الإسلام كنمط للوجود وأفق روحي يمضي نحو محايثة السياسة. هكذا دخل عدد من مثقفي الغرب والمنظرين والفلاسفة في عمق الثورة الإسلامية بعنوان أركيولوجيا الراهن، وأقاموا حفريات ساقتهم إلى استنتاج أن هذه الثورة في هذا النسق سوف تغيّر ملامح المستقبل.
قد يكون معلوماً أن النماذج في صفوف الأنتلجنسيا الغربية، كانت بمعظمها لا ترى في الثورة الإسلامية أكثر من حركة شبيهة بكل الثورات العالمية، تعتمد على الحشد والتعبئة والشعبوية لقلب سلطة أو نظام، ثم لا تلبث أن تنتهي بتحقيق مآلاتها، غير أن الأمر لا ينطبق على الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي قدمت من خلال شخص الإمام الخميني الأطروحة الأولى من نوعها لمفهوم الثورة السيّالة والنابضة، التي عرّفت الغرب بعنصر الروحانية والمعنوية والإيمان والقوة التي يضخها في نفوسنا فتبقى القضية حية، وهذا ما افتقدته الثورات بمعظمها، فلم تتمكن من تقديم أطروحة شبيهة تكون حدثاً ميتاً-تاريخياً تنصهر فيه الإرادات والتكوينات على اختلافها، وتتعانق فيها الطموحات، وصولاً إلى الدولة النموذجية، لا إلى الطوباوية، كما وصفها بعض المنظّرين اللاأدريين المتغربنين، إذ استبعدوا نجاح مشروعها العملاني انطلاقاً من هواجسهم الموسومة بفوبيا الإسلام، فهي الدولة المبنية على أركان الإسلام الأصيل الذي يعنى بالعملي واليومي والشأن الإنساني.
اليوم، تزخر المصاديق بعطايا الثورة للشعب الإيراني حتى اللحظة الراهنة، حيث يستكمل القائد الخامنئي النهج نفسه انطلاقاً من مقتضيات العصر، لتثبت بذلك أنها ثورة أصيلة وأطروحة خرجت من النسق الذاتي، ولم يجرِ استيراد أي من مكوّناتها وأدواتها من الخارج، ما زادها تأثيراً في التيارات والحركات الخارجية المماثلة التي يروم أحرار العالم من خلالها إصلاح حال الإنسان وإحقاق الحق.