أحداث الضفة الغربية.. ومؤشرات جديدة

للمرة الأولى منذ أمد طويل يتخذ الاشتباك مع الاحتلال هذا المدى الواسع في كل أنحاء الضفة والقدس، الأمر الذي يذكرنا بأحداث الانتفاضة الثانية.

  • أحداث الضفة الغربية.. ومؤشرات جديدة
    تنبئ الحال الراهنة بنضج العوامل الموضوعية لانفجار شعبي واسع

تتصاعد الأحداث في الضفة والقدس المحتلتين، وتتخذ أبعاداً لم تصل إليها منذ ستة عشر عاماً. للمرة الأولى منذ أمد طويل يتخذ الاشتباك مع الاحتلال هذا المدى الواسع في كل أنحاء الضفة والقدس، وجزء منه بشكل ملحّ، الأمر الذي يذكرنا بأحداث الانتفاضة الثانية مع أن لا مقارنة حقيقية بين أحداث الانتفاضة الثانية وما يحدث اليوم.

إن ما يحصل اليوم يشكل مزيجاً جديداً قد يراه البعض مشوّهاً لما أنتجه الشعب الفلسطيني من وسائل مقاومة في الانتفاضتين الأولى والثانية، بيد أنني أميل إلى رؤيته كحالة ولادة انتقالية، أو إرهاصات لشيء يلوح في الأفق، لم يتبلور بعد، فهو لا يزال في مرحلة الجنين، التي يصعب التنبؤ بها عند النضج، إلا أن هناك إشارتين تلوحان في الأفق يجب أخذها على محمل الجد، فما هي بعض هذه الإشارات الأولية إلى ما يحصل الآن؟

تنبئ الحال الراهنة بنضج العوامل الموضوعية لانفجار شعبي واسع. فبجانب ما يتعلق بسياسات الاحتلال على جميع الصعد التي نلحظ اتخاذها أبعاداً تصعيدية خطرة، وصل فيها الفلسطيني إلى حال من عدم القدرة على العيش بالطريقة القائمة حالياً، وفيها يجري التعامل معه كعبد أجير أو كإنسان بيولوجي أدنى من الإنسان العادي.

من جانب آخر، توالت أزمتان على العالم: كورونا، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، وهذا انعكس انكماشاً في الاقتصاد العالمي، وهو ما يرخي بظلاله على الحال الفلسطينية. وما يزيد الطين بلة استمرار الاحتلال الإسرائيلي في اقتطاع أموال المقاصة على السلطة، فضلاً عن الإجراءات المالية التي تحددها "إسرائيل" بدقة، وتلاحق بموجبها أي أموال من مصادر ترى أن لها علاقة بالمقاومة. كل هذا يزيد الضغط المادي على الفلسطينيين.

هذا المزيج من انسداد الأفق السياسي وتدهور الحالة الأمنية وتصاعد عمليات القمع على جميع الصعد وتدهور الحالة الاقتصادية، ينتج مركّباً من الشعور العالي بالقهر والظلم وفقدان الأمل، وهو ما يجعل الظرف الموضوعي ناضجاً لانتفاضة شعبية واسعة. بيد أن التاريخ يعلمنا أن نضج العوامل الموضوعية لا يكفي، فالموضوعي يحدّد فيما الذاتي يحسم، فماذا عن الظرف الذاتي؟

حول العامل الذاتي، من المؤشرات العامة والجلية غياب الفصائل الفلسطينية عن أداء دور قيادي في الأحداث. فهناك مستوى شعبي سابق للفصائل، وربما يتجاوزها.

تعلمنا تجارب التاريخ أن الشعوب تتقدم الصفوف وتسبق الأحزاب وقيادتها، وهو ما نستطيع ملاحظته ببساطة بمراجعة الثورة الفرنسية مثلاً، والثورة الاشتراكية الروسية، وانتفاضات الشعب الفلسطيني، والانتفاضات العربية، بعيداً من مآلاتها.

الأحزاب، والحركات الثورية التي تلتقط الحراك الجماهيري وتغذيه هي فعلياً التي تحصد ثماره فالجماهير في الحال الثورية تعود إلى الشارع، وتنخرط في أكثر القوى فاعلية، وتمثيلاً لها ولمطالبها.

أما في حال غياب قوى سياسية، كما هي الحال الآن في الضفة، فيقف الشعب أمام ثلاثة خيارات.

الأول: انطفاء الحال الثورية بعد جولة أو جولات من المواجهة والقمع التي خلالها تستهدِف القوة الغاشمة الجامعة بأكبر قدر من وسائل القمع لوقف التمرد وتغييب إمكانات ومقدّرات الناس للمواجهة.

الثاني: إحياء قوى وأجسام سياسية شاخت، بيد أنها على الرغم من هرمها، حافظت على خط سياسي اجتماعي يمثل الناس، أي تجديدها، وهذا يتطلب مرونة لدى الرأس القيادي لهذه القوى، وهذا البعث لا يكون بالعودة إلى الماضي بقدر ما يكون ولادة جديدة تأسس لمنطلقات جديدة، لا عبر العودة إلى الماضي، بل بعملية جدلية معقدة، تأخذ الحي والإيجابي والجيد من القديم وتمزجه بالجديد. لكن حتى هذا الاحتمال يبدو ضعيفاً لكون عملية التجديد والإحلال عملية صراعية، وليس بالضرورة أن يقبل فيها القديم أو ينتصر فيها الجديد، وتحتاج إلى عقل سياسي وقيادي وإبداعي تفتقده قيادتنا.

الثالث: ولادة قوى سياسية جديدة، داخل الحال الثورة تستطيع تمثيل الشعب وحقوقه ومطالبه وتعبر عن قواه الحية، بخاصة أكثر الفئات الشابة راديكالية.

ما يحدث الآن يشير بوضوح إلى غياب القوى المنظمة التقليدية المقاومة (حماس، الجهاد، الشعبية) وبهتان دور فتح على الرغم من كل برغماتيتها وقدرتها الإعلامية في محاولة احتفاء بموجة التصعيد. وعندما أتحدث عن الغياب، أقصد فيه غياب قوة تنظيمية لها قيادة وخطة عمل وبرنامج، أي غياب الفاعلية والقدرة. أما عن وجود أعضاء الفصائل في جميع المواجهات فهذا أمر مختلف ولا يعني أبداً الوجود التنظيمي. فلكل الفصائل تيارات شعبية بحكم سنوات النضال الطويلة، لكن التيار الشعبي لا يعني وجود منظم، وأسهل طريقة لرصد هذا الوجود غير المنظم هي السجن. فالأسرى الجدد الوافدون إلى السجون، وتحديداً معتقلي عوفر ومجدو نجد أن غالبيتهم شبان في مقتبل العمر ما بين 16 و22 سنة، غير منتظمين في أي فصيل، بيد أن السجون لا تستوعب سوى خمسة فصائل هي فتح، حماس، الجهاد، الشعبية، الديمقراطية، ويلزمون اختيار أحدها. وبالعادة يبنى الاختيار لدى الأسير الجديد على أسس عديدة مثل (الراحة، المقاومة، المال، الثقافة) قد يستهين البعض بهذا المؤشر، بيد أنه مؤشر مهم جداً، لأن من يجري استهدافهم واعتقالهم هم في العادة ناشطون ميدانيون في ساحات المواجهة.

بالعودة مرة أخرى إلى العامل الذاتي. غياب الفصائل أوجد حالاً مركّبة جديدة أنتجها الناشطون، ومثال على ذلك عرين الأسود، وهي ظاهرة مسلحة تضم شباناً من جميع الفصائل، وما يجمعهم رفضهم للاحتلال، وبشكل نسبي للسلطة، يعبّرون عن أنفسهم بالعمل المسلح. ولنلاحظ أنهم أعلنوا مرتين الإضراب الشامل في الضفة، الأولى عقب استشهاد عدد من الشبان المقاومين في جنين، والثانية عقب استشهاد عدي التميمي، وفي المرتين سارعت حركة فتح إلى إعلان الإضراب الشامل في الضفة.

قد يقول قائل إن عرين الأسود جزء من فتح! وفي قوله هذا جزء من الصحة، لكن هم يضمون شباناً من حماس والجهاد والشعبية، وهذا لا يعني أنهم جزء من، بل يعني أن ما يحصل ولادة ربما ترى النور، وربما تجهض، المسألة مرتبطة بعوامل عديدة، أهمها: قيادة جادة وحازمة، برنامج ساسي، ودعم مالي وخطة، وربما تجهض حتى لو توافرت هذه العوامل، لتكون بشارة لقوة سياسية موجودة بالقوة الآن بلغة الفلسفة، وسننتقل إلى الوجود بالفعل عندما تنضج الظروف كافة. وهنا أشير إلى أن من المبكر الحكم على تجربة بالسلب أو الإيجاب، كما من الخطأ إعلاء أو تقديس ظاهرة فقط لكونها مسلحة. والحال لا تتوقف عند عرين الأسود، وإذا تتبعنا أغلب مناطق الاشتباك الحاصلة نجد تشكل أجسام شعبية للحماية، والمواجهة تحمل مضامين شبابية، وشعبية، ومواجهة عابرة للفصائل كحال مخيم شعفاط مثلاً.

هل هذا يعني أن الشعب تجاوز الفصائل أو بعضها؟

من المبكر الحديث عن هذا، لكن هذه المحطة ستطرح أمام الشعب تجاوزاً، أي فصيل يغيب عن الساحة والمواجهة، في الوقت نفسه تضاؤل وتراجع من لا ينخرط فيها. كما ستنمو أي قوة سياسية تنخرط بكل فاعلية ميدانياً. وبالعودة إلى الماضي قليلاً نجد أن نابلس كانت تحوي 53 عضواً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مطلع عام 1987 عقب اندلاع الانتفاضة الأولى، تضاعفت نسبة العضوية جراء انخراط الجبهة الفعال حينذاك في مظاهر الانتفاضة ليصل تعداد الأعضاء في منتصف عام 1989 إلى ما يناهز 500 عضو. باختصار، حول هذا المؤشر، بلغة الفيلسوف غرامشي "القديم يتحلل والجديد لم يولد بعد".

وهذا مؤشر تقني يرتبط بتأثير مواقع التواصل الاجتماعي في الأحداث السياسية مستقبلاً. يتحدث عدد من الناشطين والمختصين الاجتماعيين عن أثر العالم الافتراضي في الحركات الاجتماعية، ومنهم من يتحدث عن معضلات مثل غياب الفصل السياسي الحقيقي، واللاسرية، ومعضلة التماثل.

وقوام معضلة التماثل أن هندسة الخوارزميات في مواقع التواصل الاجتماعي تعمل لوضع إمكانيات للاتصال وخيارات تشبهنا، من حيث الآراء والأفكار والتوجهات السياسية، ما يجعل الإنسان يدخل في دائرة الأصدقاء الذين يشاطرونه التوجهات السياسية نفسها، ما يجعل تالياً مواقع التواصل أقرب إلى غيتو مغلق من أناس شبيهين بما نفكر فيه. وهو أمر بحسب علم النفس الاجتماعي وسيكولوجيا الجماعات يجعل الناس أكثر تعصباً، فهم لا يسمعون إلا صدى أصواتهم.

من وجهة نظر أصحاب هذه المواقع، يخدم هذا الأمر عملية توجيه الرأي العام، أو تحريك قوة الإنتاج وتحفيزها لإعداد بعض الأهداف، أو ربح أفكار ثقافة معينة. وهو أمر غالباً ما يستخدمه من يمتلك قوة السلطة والسيطرة، بيد أنه لم يجرِ التفكير فيه من المنظور النقيض، لجهة من يفتقدون السلطة، وهذه نقطة سنعود إليها. لكن قبل ذلك، يؤكد علماء النفس أن أثر العالم الافتراضي في الأجيال الصاعدة هائل، وتحديداً في طبيعة الشخصية، إذ إن التطبيقات الاجتماعية تعزّز وتنمي نمطاً معيناً.

 إلا أن هناك أمرين مهمين ساهمت فيهما الفصائل الفلسطينية على طول فترة الصراع، الأول: تثبيت الهوية الفلسطينية والحق، والعدالة لقضية فلسطين، وهذا ما يعبّر عنه شعبنا بوطنية كاملة عالية. والآخر: ترسيخ نزعة مقاومة كفاحية لإحقاق الحق الفلسطيني. وهذا يتجلى في النزعة الدائمة للمواجهة، حتى ولو بالسكاكين، كما حصل عام 2015. فالشعب الفلسطيني يسعى لأن ينصفه التاريخ، لن تهدأ جذريته الكفاحية واستعداديته للتضحية، على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على الصراع مع الاحتلال البريطاني والإسرائيلي. وكأن عبد القادر الحسيني قرأ المستقبل عندما قال "إما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل".

أما الحقيقة الثانية فمرتبطة بالأولى. إن أكبر محرض على مواجهة الاحتلال، وعلى استقرار الصراع هو الاحتلال نفسه، فكل ممارسات الاحتلال لم تصبّ في طاحونة تركيع الشعب! بل من الواضح، أنها تصبّ في طاحونة إبقاء الصراع وجذوته مستمرين. ألم يقل درويش "لولا قطرة الدم، لا ملامح للدروب الطويلة".

هذا المؤشر أو الدلالة الرابعة يقول بوضوح لكل أولئك الذين يخوضون هذه الطريق الوعرة، والموحشة أن ما يقومون به هو ذو جدوى ومعنى، وإن لم يتجلَّ في اللحظة الراهنة الآنية، وهنا يحضرني قولان لشهيدين: الأول هو الشهيد عدي التميمي الذي قال ببساطة الفدائي المغوار لأمه "أنا على يقين أنني لا أستطيع تحرير فلسطين، لكن هذه هي الطريق التي يمكن بها تحرير فلسطين" أما الثانية فللشهيد باسل الأعرج، الذي قال "إن المقاومة جادة ومستمرة" إن مجمل المؤشرات الأربعة توحي لنا بأننا على أعتاب مرحلة أخرى، فيها أبطال وقوى جديدة، وتحوي دلالات جديدة. وفي الأرض سماد وماء ما يكفي لنمو حقول خضر جديدة.