دير الزور.. إبداع عسكري في الشرق السوري

بعد حوالى ضعف عدد أيام حصار ليننغراد السوفياتية في أربعينيات القرن الماضي، تمكّنت قوات الجيش السوري من فك قوس الحصار الأول عن القسم الشمالي الغربي من مدينة الزور التي تعرضت لحصار كامل من عناصر داعش منذ نيسان/ أبريل 2014. تحليل هذا الإنجاز بموضوعية وإنصاف يستدعي مراجعة تطورات الميدان السوري منذ منتصف هذا العام لنفهم على نحو أوضح حجم ونوعية الإنجاز الذي تحقق على الأرض والذي يتعدى بمراحل كسر الحصار عن المدينة.

المحوران اللذان تمّ فتحهما باتجاه دير الزور هما محور "خط الشامية" و"جبل البشري"

في حزيران/ يونيو 2017 كان الوضع الميداني في المنطقة السورية الوسطى بعيداً كلّ البعد عن أي توقع باحتمالية قريبة لفك الحصار عن دير الزور أو حتى الوصول إلى تخومها. كانت القوات السورية على خط يمتد شمالاً من مسكنة بريف حلب الشرقي نزولاً إلى خط خناصر – أثريا في ريف حلب الجنوبي الشرقي مروراً بالسلمية في شرقي حماه وتدمر شرقي حمص وصولاً إلى مناطق في ريفي دمشق والسويداء. بدأت القوات السورية منذ ذلك التوقيت سلسلة من العمليات المكثفة متعددة المحاور والتي تم فيه اتّباع تكتيكات مختلفة بهدف أساسي هو التقدم شرقاً من المحاور كافة ونقاط الانطلاق بشكل شبه متزامن يغطي فيه كل محور المحور الآخر ويحقق معه تماساً أو تقابلاً إن أمكن حسب المقتضيات الميدانية.


كانت الجبهة الأولى هي الجبهة الشمالية ومحورها الأساس هو محور ريف حلب الشرقي. العمليات في هذا المحور انطلقت باكراً بهدفين رئيسيين الأول هو السيطرة على مدينة مسكنة آخر معاقل داعش في الريف الشرقي ومن ثم تطوير العمليات للاندماج مع محور عمليات خناصر من جانب وتطوير الهجوم باتجاه الجنوب الشرقي للوصول إلى دير الزور، سيطرت القوات في المرحلة الأولى للعمليات على مناطق هامة مثل مطار الجراح وتلال كشيش والحمراء إلى جانب قرى ومناطق أخرى، ثم تمكنت في المرحلة الثانية من السيطرة على مدينة مسكنة ومناطق أخرى شمالها وجنوبها وغربها مثل رسم غزال وشعيب مسكنة ومجمع حطين ورسم فالح والجويم ومشرفة والمفتاحية وجديعة كبير وجديعة صغير وسمومة والفيصلية، في المرحلة الثالثة فعّلت القوات اتجاهين: الأول غرب منطقة سحم الجبول باتجاه شمال شرق مدينة خناصر والثاني جنوباً باتجاه الرقة.


بحلول نهاية شهر حزيران/ يونيو تمكنت القوات السورية من تحقيق الاتصال بمحوري خناصر وأثريا من نقطتين بعد تحقيقها تقدماً كبيراً غرب وجنوب مطار الطبقة العسكري لتقضي تماماً على الجيب الذي تواجدت فيه قوات داعش في مثلث مسكنة – خناصر –أثريا، خلال هذه المرحلة أيضاً سيطرت القوات على ناحية الرصافة في ريف الرقة الجنوبي ومن خلالها تم إطلاق اتجاهين هجوميين إلى جانب أول محورين من محاور التقدم باتجاه دير الزور، الاتجاهان كانا غرباً نحو أثريا لتأمين وتوسيع نطاق السيطرة حولها، وجنوباً لمحاولة تحقيق اتصال مع قوات محور السخنة.

 

حققت القوات في الجهتين نجاحاً كبيراً، فبحلول منتصف آب/أغسطس الماضي نجحت في تحقيق الاتصال مع قوات محور السخنة بسيطرتها على منطقة الفهدة لتحاصر عناصر داعش في جيب يقع ما بين غرب السخنة وشمال غرب تدمر، ومن ثم تمّ تطهير هذا الجيب بشكل كامل بحلول أواخر الشهر.

 

المحوران اللذان تمّ فتحهما باتجاه دير الزور هما محور "خط الشامية" و"جبل البشري"، المحور الأول وإن كانت التطورات فيه خلال الشهرين الماضيين لم تؤدِّ إلى الوصول إلى دير الزور من الجهة الشمالية الغربية، إلا أنّه كان الأهم ميدانياً لاعتبارات كثيرة، ففيه تم تنفيذ التفاف على مواقع قوات سوريا الديموقراطية جنوبي الطبقة والرقة باتجاه أهم معاقل داعش شمال غرب دير الزور وهي مدينة معدان. وتمكنت القوات من الوصول إلى أطرافها التي حصّنها تنظيم داعش بشكل كبير اعتقاداً منه أن المجهود الرئيسي للجيش السوري باتجاه دير الزور سيكون من هذا المحور، هذا الاعتقاد أثّر كثيراً على خطط داعش لمواجهة تقدم القوات السورية من بقية المحاور، المحور الثاني "جبل البشرى" كان هو المحور الذي تمكنت القوات السورية من خلاله من الوصول إلى مواقع فوج المشاة الميكانيكية 137 غرب دير الزور لتكسر فعلياً طوق الحصار الأول عن المدينة.


الجبهة الثانية كانت الجبهة الوسطى ومحورها الأساس هو محور شرقي مدينة تدمر، بدأت في هذه الجبهة منذ شهر أيار/ مايو الماضي اتجاهات هجومية عدة بهدف مرحلي وهو تحقيق الاتصال مع بعضها البعض ومن ثم توحيد المحاور في اتجاه غرب دير الزور، كانت التحركات الأكبر هي في محور ريف حمص الشرقي بالتزامن مع تحركات هجومية في جنوب شرق القريتين وفي ريف دمشق الشمالي الشرقي من جهة مثلث تدمر - بغداد - الأردن. خلال أشهر أيار/مايو وحزيران/يونيو وتموز/يوليو نتج عن التحركات في هذه المحاور الثلاث تراجع كبير لتنظيم داعش الذي سحب معظم عناصره باتجاه مدينة السخنة شرقاً لتفادي محاصرتها، حققت القوات اتصالاً مع بعضها البعض في ثلاثة مواقع، الأول كان في مثلثي خنيفيس والبصيري بين قوات محور جنوب غرب تدمر وقوات جنوب شرق القريتين، والثاني كان في قرية خان العنيبة بين القوات القادمة من مثلث تدمر - بغداد - الأردن و قوات محور جنوب شرق القريتين، والثالث تم عقب السيطرة على كتيبة الدفاع الجوي ومنطقة العليانية وجبالها، وكان بين القوات المتقدمة من مثلث البصيرى مع القوات المتواجدة في حاجز ظاظا الواقع شمال بادية دمشق في المحور الهجومي الثالث، ليتم حصار بعض المجموعات المسلحة في جيب يبلغ طوله 50 كم ما بين مثلث البصيرى شرقاً والمعضمية غرباً ويضمّ منطقتي جيرود والناصرية، وانتهت بذلك هذه المرحلة من العمليات بتحقيق العزل التام للقلمون الشرقي والتحرير الكامل للريف الجنوبي لحمص.

من الواضح أن التكتيكات التي استخدمها الجيش السوري منذ مطلع أيار/ مايو أدّت إلى تحرير عشرات الكيلومترات المربعة في حيز زمني محدود

كان من أهم نتائج عمليات هذه الجبهة تحقيق اتصال شمالاً بين محور حقل الشاعر شمال غرب تدمر بمحور أثريا مما سمح بمحاصرة عناصر داعش في جيب بريف حماه الشرقي شرق مدينة سلمية يقع بداخله أحد أهم معاقل داعش المتبقية في المنطقة وهي مدينة عقيربات التي تمّ بنجاح اختراقها من الجانب الشرقي خلال الأيام الماضية، وبتطهير هذا الجيب ينتهي بشكل تام أي تواجد لتنظيم داعش في المنطقة الوسطى. نتج أيضاً عن عمليات هذه الجبهة السيطرة أوائل شهر آب/أغسطس الماضي على حقل آراك النفطي ومدينة السخنة، لتبدأ مرحلة هجومية جديدة انفتح فيها محوران آخران باتجاه مدينة دير الزور، الأول هو محور السخنة والثاني هو محور حميمة. في المحور الأول تتقدم القوات في الهريبيشة والخميسية بوتيرة سريعة وتتمكن من الوصول إلى بلدة كباكب ومفرق الشولا لتصبح على بعد كيلومترات قليلة من الدخول إلى دير الزور بموازاة الاتجاه الذي دخلت به قوات محور جبل البشري المدينة. المحور الثاني في حميمة تنقسم العمليات فيه إلى اتجاهين الأول بموازاة الحدود العراقية والثاني انطلاقاً من بلدة حميمة وفيه التقدم مستمر من الضليعيات بهدف مرحلي وهو دعم العمليات في دير الزور بالوصول إلى بلدة معيزيلة ومن ثم طريق دير الزور – البوكمال لقطع أي تواصل بين داعش والحدود العراقية، ومن المتوقع أن يتمّ شن تحرك باتجاه كباجب شمالاً لعزل الجيب الأخير لداعش جنوب شرق تدمر.

 

الجبهة الثالثة هي الجبهة الجنوبية، والعمليات فيها لا ترتبط مباشرة بالمجهود العسكري شرقاً لكنها تكتسب أهمية خاصة، تقترب القوات في هذه الجبهة من إحكام الحصار على الفصائل المسلحة في ريف دمشق الجنوبي الشرقي إذا ما حدث الاتصال بين القوات في منطقة رجم الأرنب بالقوات المتقدمة من شمال شرق سدّ الزلف، في اتجاه بادية دمشق الشمالية تحافظ القوات على مواقعها في حاجز الظاظا وتلول المحدد وخربة الشحمي ومفرق الشلغيم على بعد نحو 60 كم من معبر التنف الحدودي، كما يستمر تقدم القوات في بادية السويداء الشرقية وحررت خلال الفترة الماضية نحو 1300 كيلومتر مربع من بينها نقاط حدودية عديدة مع الأردن.

 

من الواضح أن التكتيكات التي استخدمها الجيش السوري منذ مطلع أيار/ مايو الماضي وحتى الآن، وطريقة المزج بينها أدّت إلى هذه النتيجة الباهرة التي تم فيها تحرير عشرات الكيلومترات المربعة في حيز زمني محدود وفي نطاق جغرافي واسع جداً يتسّم بتضاريس صعبة، ما بين استراتيجية تكثيف المحاور والدمج بينها ثم عزل وتطويق الجيوب وصولاً إلى التحريك المتزامن والمتوازي للمحاور الهجومية، تمكنت قوات الجيش من تحقيق إنجاز عسكري قد يفتح باب الفصل الأخير من الحرب على الإرهاب في سوريا، تحتاج القوات السورية لإدامة التحرك نحو الشرق في المحاور الأربعة وخاصة محور حميمة لأن استمرار الاتصال بين عناصر داعش في الأراضي السورية والعراقية عبر البوكمال يمثل خطورة مزدوجة على البلدين.

اخترنا لك