يوهان غالتونغ وأحجية الصراعات العربية
تتالت الصراعات في العالم العربي على مدى العصور، بحيث تدرّجت من زمن الإمبراطوريات والممالك إلى الاستعمار، واستمرت حتى وقتنا الحاضر. بذلك تبقى المنطقة في تذبذب مستدام ما بين الاستقرار المؤقت والصراع. نتيجة لذلك يتكرر سؤالنا عن كيفية تجدد الصراعات بشكل دائم، وعن عدم دوام الاستقرار في المنطقة. قد نستطيع العثور على جواب في تحليل يوهان غالتونغ: عالم اجتماع نرويجي والمؤسس الرئيسي لدراسات السلام والصراع التي عمل كأول بروفيسور لها في العالم في جامعة أوسلو.
فحتى في وجود سلام سلبي، قد يكون هنالك عوامل تؤدي إلى تجدد الصراع مرة أخرى. تأخذ هذه العوامل أشكالاً مختلفة، فمنها اقتصادية كاحتكار الدولة للموارد وحرمان الشعب منها، أو قد تكون العوامل ثقافية كالاختلاف العرقي والطائفي بين مكونات المجتمع. بسبب وجود عوامل تقود إلى تولد الصراع مرة أخرى في حالة السلام السلبي، أوجد غالتونغ مفهوماً ثانٍ وهو السلام الإيجابي. يتجلى السلام الإيجابي في تحقيق سلام مستدام من خلال إقصاء العوامل التي تؤدي إلى تجدد الصراع، وخلق مساواة وتمازج أكبر في المجتمع لكي لا ينشئ صراع مرة أخرى. هذا المفهوم يختلف بلا شك عن النموذج المشهور للسلام، الذي يتجسد بانعدام وجود صراع. بسبب هذا الاختلاف يصعب تحديد وجود سلام إيجابي، لأنه من الصعب علينا أن نثبت أن جميع العوامل التي تؤدي إلى نشوء صراع قد أُبطِلت. على عكس ذلك، نستطيع تحديد وجود سلام سلبي أو انعدامه بكل بساطة إذا سألنا السؤال التالي: "هل تهاجم الأطراف المتصارعة بعضها مستخدمة العنف علناً؟"
استيعاب هذا الفرق بين نوعي السلام ضروري جداً للجزم بإمكانية عودة الصراع من عدمها. فوجود السلام السلبي لا يعني انتهاء الصراع بشكل دائم بسبب وجود عوامل تحييه مرة أخرى في المستقبل. لكن في السلام الإيجابي يتم تحييد هذه العوامل وبذلك يخلق سلام مستدام.
لتسهيل فهم سبب نشوء الصراعات من السلام السلبي، أوجد غالتونغ نموذجاً للعنف سمّاه "العنف الهيكلي". في العادة، عندما نشاهد قتالاً أو عندما يتم إيذاء فرد أو مجموعة، نقول أن "العنف" استُخدم. في الواقع، يسمى هذا العنف "العنف الجسدي". إذاً فهو فقط نوع من العنف يتم توظيفه في حالة الصراع بين الأطراف المختلفة. أما في حالة السلام السلبي يستخدم شكل آخر من العنف وهو "الهيكلي". يتجلى العنف الهيكلي في ممارسة التمييز بأشكاله (مثلاً: العنصري، الطائفي) من قبل مجموعة أو فرد ضد مجموعة أخرى، بالإضافة إلى التقسيم الغير متساوي للموارد والقوة من قبل أحد أطراف الصراع. مثلاً: عندما يقوم أحد بمهاجمتك وإيذائك فهو يمارس عنفاً جسدياً. لكن عندما يتم تخفيض أجور الموظفين من قبل الدولة، فبذلك تمارس الدولة عنفاً هيكليّاً ضد الموظفين.
بعد العوامل التي تولد الصراع كفارق أول بين السلبي والإيجابي، يصبح العنف الهيكلي الفارق الثاني. فعلى الرغم من وجود سلام في دولة معينة مثلاً بنوعه السلبي، فإنَّ العنف يظلُّ مُستخدمَاً في هذه الدولة بشكله "الهيكلي"، الذي يماثل استخدام العنف "الجسدي" عندما يكون الصراع جارٍ داخل الدولة. لكن في حالة السلام الإيجابي لا يُستعمَل أيُّ شكل من أشكال العنف. نستنتج بذلك أن عودة الصراع محتمة ما دام نوع السلام في مجتمع أو دولة سلبياً.
يشير ذلك أن مصر كانت في حالة سلام سلبي، بحيث العنف الهيكلي كان يمارس بشكل فاعل وأن العوامل التي تؤدي إلى نشوء الصراع ظلّت موجودة. بما أن المصريون جابهوا العنف الهيكلي الممارس من قبل الحكم على مدى طويل، إذاً لماذا تحركوا في هذا الوقت وليس قبل 10 أعوام مثلاً؟ ولماذا قامت الصراعات الراهنة الآن وليس قبل 20 عام مثلاً؟ يرتبط هذا السؤال بالمقولة الشهيرة: "التاريخ يعيد نفسه"، فهذه الصراعات كانت موجودة سابقاً. كلنا نعرف أن التاريخ لا يعيد نفسه في ليلة وضحاها، بل يحتاج لبعض الوقت. خلال هذه الوقت، تتزايد وتيرة ممارسة العنف الهيكلي ويصبح أشداً من السابق. وبذلك يصبح تجدد الصراع وشيكاً وبحاجة إلى سبب مباشر ليبدأ، مثال ذلك هو حرق بوعزيزي لنفسه في تونس، الذي كان الشرارة الأولى لبداية الثورة عام 2010.
يعاني العالم العربي من مشكلة أخرى تؤدي إلى تجدد الصراع وهي كيفية حل الصراع في الماضي. يرى غالتونغ أن هنالك أربع طرق تقليدية غير فعالة تعالج فيها الصراعات بين طرفين: 1. الطرف أ يربح، الطرف ب يخسر. 2.الطرف ب يربح، الطرف أ يخسر. 3. تم تأجيل الحل لأن كلا الطرفين لا يشعر بالجهوزية لإنهاء الصراع. 4. تم التوصل إلى اتفاق مربك لا يتفق عليه كلا الطرفين. من المفاجئ أن الطرق الأربع السابقة استُخدمت لحل الصراعات في العالم العربي، حيث تحلم جميع الأطراف بأن تكون الطرف الرابح في الطريقة1 و2. من ناحية أخرى، توظِّف الأطراف الطريقة 3 و4 لكي تكون الطرف الرابح في الطريقة 1 و2. حتى في حال تم إيقاف الصراع والعنف الجسدي بالطرق الأربعة الموضحة أعلاه، فإن السلام الذي يتم تحقيقه هو سلام سلبي. وقد رأينا في تحليل غالتونغ أن استدامة السلام السلبي غير مضمونة، ونتيجة لذلك قد يتحول إلى صراع في أي وقت يشتد فيه "العنف الهيكلي". في هذا الصدد، يقدم غالتونغ "طريقة خامسة" لحل الصراع، وتعتمد تلك على عملية "بناء السلام" التي تنقل الواقع من السلام السلبي للإيجابي من خلال الإصرار على احترام الاحتياجات الإنسانية الأساسية - مثل: حق الحياة، الرفاه المادي، الحرية والهوية – ومن خلال بناء الثقة بين الطرفين المتنازعين بحيث يشعر كلاهما بالفوز.
لكن لم يسبق أن طُبّقت هذه العملية في العالم العربي. يدل ذلك على أن العالم العربي يحتفظ على مدى العصور على عوامل (اقتصادية، سياسية، طائفية، عرقية) تؤدي إلى تجدد الصراع. بالإضافة إلى ذلك تستمر عملية عدم بناء الثقة بين طرفين في العالم العربي تصارعا سابقاٌ. عدم بناء الثقة يؤدي إلى عودة حتمية للصراع لأن الطرف الخاسر في الماضي سيحاول الفوز الآن (كما في الطريقة1 و2)، أو لأن الطرفين لم يصلا إلى اتفاق لبناء سلام مستدام في الماضي. بذلك يُورًّث الصراع نفسه مع مرور الأجيال ويعاود الظهور مرة أخرى.
السلام السلبي والإيجابي هما وضعان مختلفان في مجتمع معين. فالسلبي يظهر كأنه استقرار دائم بسبب غياب العنف الجسدي. لكنه قد يتحول إلى صراع في أي وقت. أما الإيجابي فيؤمن سلاماً داعماً ومستداماً. للأسف لم تشهد منطقتنا سلاماً إيجابياً، بل ظلّت سلبية حتى بسلامها. هكذا يعيش العالم العربي في دوامة مستمرة لينتقل من سلام سلبي لصراع وبالعكس على مدى العصور. فهل تلبي أطراف الصراع العربية نداء غالتونغ لبناء سلام إيجابي يخلصنا من دوامة الصراعات المستمرة؟