"دومينو الصراعات": تحوّلات البيئة الإستراتيجية في الشرق الإوسط

يهدف كتاب "دومينو الصراعات" للباحث يوسف نصر الله إلى دراسة التحوّلات التي عصفت بالبيئة الإستراتيجية الشرق أوسطية، وفي رسم ملامحها وتحديد اتجاهاتها وما ستؤول إليه طبيعة التفاعُلات والتحالفات.

دومينو الصراعات.. في الشرق الإوسط ليوسف نصرالله

يبدأ الباحث اللبناني يوسف نصرالله كتابه "دومينو الصراعات: تحوّلات البيئة الإستراتيجية في الشرق الإوسط" بالحديث عن التحوّل الملحوظ في دورٍ غير لاعب إقليمي، إذ تصاعد دور بعض الفاعِلين في مقابل تراجُعٍ حاد في أدوار دول أخرى.

فالصراع على القيادة الإقليمية قد أوقدَ جذوة السباق إلى ملء الفراغ الإستراتيجي الناجم عن تراجع مكانة واشنطن في المنطقة، وفاقم من التوتّرات الطائفية والمذهبية، ورفع منسوب التنافس الإقليمي، وعزَّز مَيْل اللاعبين إلى انتزاع مواطئ أقدام جديدة لهم. وأطلق طموحاتهم لإعادة رسم الخرائط. كما أنه نال من مكانة الدولة القومية، بنحو أفضى فيه تراجُع قدرتها على السيطرة إلى تعاظُم دور الفاعِلين من غير الدول، وإعادة الاعتبار للهويات الصُغرى.

يرى نصرالله أن البيئة الإستراتيجية الشرق أوسطية، تتحرَّك فيها الكيانات الدولية على إيقاعٍ مُنضبِط كمثل قِطَع الدومينو التي تهتزّ جميعها بضربةٍ واحدةٍ، إذ تميل مؤثّرة على بعضها البعض على شكل موجة لا تنتهي إلا بعد أن تتحرّك اَخر قطعة، ذلك أن فُقدان القطعة الأولى لتماسُكها يفضي بالضرورة إلى اهتزازها واضطرابها.

يهدف كتاب "دومينو الصراعات" كما يقول مؤلّفه إلى "دراسة التحوّلات التي عصفت بالبيئة الإستراتيجية الشرق أوسطية، وفي رسم ملامحها وتحديد اتجاهاتها وما ستؤول إليه طبيعة التفاعُلات والتحالفات بين الفاعلين المؤثّرين في موازين وفي معادلات القوّة في المنطقة".

  ويضيف: "عَكَفت الدراسة على مُقاربة مُتأخّرة لظاهرة الربيع العربي، التي كان يؤمَل منها أن تحمل في رحمها بُشرى لحظة تاريخية مفصلية تقطع مع ما مضى، وتضع الحاضر على عتبة التحوّلات الكبرى".

ذلك أن ما خيّل أنه كان كامِناً منذ عقود، قد استيقظ على وَقْع عَصْفٍ ثوري زلزالي ضرب في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010: نظام زين العابدين بن علي في تونس، وامتدّت نيرانه المُحرِقة بتأثير القوّة الجبّارة للعدوى مزعزعة غير نظام عربي.

ويرى نصرالله أن المُثير للغرابة أن ماَلات هذا الحراك الشعبي على خلاف المأمول منها، قد أفضت إلى انتكاساتٍ حادّةٍ وانزلاقاتٍ خطرة، قاد إلى إنتاج استتباع ذيلي، بفعل قدرة الأميركي ليسعى لاحتواء الحراك وتطويعه وفرملة اندفاعته وحسب، بل أيضاً على تدجينه وحَرْف مساراته، بنحو أعاد ضَبْط الإيقاع وفق أجندة السياسات الأميركية، وحال من دون الإضرار بمصالحها في الشرق الأوسط.

إن إصابة الولايات المتحدة بالعجز عن الإستثمار في الفوضى، وتقهقر مكانتها وتراجع مركزيّتها في الإقتصاد العالمي، وانكفاء أدوات الهيمنة التاريخية لديها من نُخَبٍ سياسيةٍ وأُسَرٍ ومرجعيات ومشيخات حاكمة، وضعف الكيانات الوظيفية التي كانت تعوِّل عليها في تنفيذ مشاريعها وفي إملاء إرادتها، في قبالة صعود قوى إقليمية قطبية وتعاظم دور الجماعات الراديكالية المُتطرّفة، وتأصيل العداء والكراهية في نفوس الجماهير والشعوب العربية ضدّ السياسات الأميركية، شكّلت مُجتمعة مُحرّضات مُحفزّة دفعت الإدارة الإميركية إلى إعادة هيكلة سياساتها ذات الصلة بالشرق الأوسط، بهدف خَفْض تكلفة الإنخراط في قضايا المنطقة، وزيادة التركيز على مواجهة التهديدات الروسية والصينية، وبالتالي إلى إختلاق قواعد عمل التعامُل مع الجديد النوعي المُفارق.

ولتحقيق الأهداف الأميركية يستشرف نصرالله في كتابه الوسائل الأميركية لتحقيق غايتها، قد نقع على سعي أميركي حثيث إلى الاستنجاد بتجربته القديمة التي لطالما وفّرت له خلال حقبة الحرب الباردة ظروفاً مؤاتية للإنصراف الكلّي لمواجهة الدبّ الروسي، مع الإطمئنان إلى خارطة تثبت الإستقرار في الشرق الأوسط من خلال الإستعانة – اَنذاك – بمعادل ثالوث القوّة ( الإيراني – التركي – الإسرائيلي)، ثم إسقاط هذه التجربة على ظروف المواجهة المُفترَضة مُستقبلاً مع التّنين الصيني الصاعِد في شرق اَسيا.

يتناول نصرالله أن الإستراتيجية الأميركية الشرق أوسطية ما بعد الحرب الباردة  ويقول إنه ما إن شرعت الحرب الباردة في وضع أوزارها على هزيمة مُنكرة أصابت مقاتل الإتحاد السوفياتي بالإنكشاف والتصدّع، وأفضت إلى انهيار منظومتها الإشتراكية وتفكيكها إلى دويلاتٍ هشّة، حتى شرع في المقابل منظّرو الإستفراد الإميركي في صَوْغِ المُقدّمات العلمية لفلسفة السيادة المُطلقة ولنظريات الهيمنة السياسية والأمنية.

ويتوقّف نصرالله عند التغيير الذي شهده النظام السعودي منذ مطلع عام 2013. فالنظام السعودي الذي استمدّ تقليدياً مشروعيّته من حامِل النفط وحامِل الزعامة الإسلامية السنّية، بوصفهما شكّلا رافعته ورسّخا سلطانه في العالمين الإسلامي والعربي، قد وجد نفسه أخيراً عند مُفتَرق طُرق حاد، وأفضى إلى تراجع في قيمة كل منهما:

- لم يعد بمقدور حامِل النفط مثلاً أن يوفّر للمملكة حظوتها العالمية بعد ظهور مؤشّرات راجِحة على اكتشاف تقنية النفط الصخري في الولايات المتحدة، وبعد العودة المُظفّرة لإيران إلى أسواق النفط العالمية.

وما يزيد هذا التراجُع حدّة حسبما يرى نصرالله هو الامتناع الأوروبي وغير دولة محورية وكبرى عن الإستمرار في الإلتزام بفرض عقوبات إقتصادية على طهران.

ويكمل نصرالله تحليله عن تراجُع الدور السعودي بقوله: لم يعد بمقدور حامِل الزعامة الإسلامية ، أن يحفظ للمملكة مكانتها كراعٍ وحيدٍ للإسلام السنّي، فقد وضعت هيبة المملكة الدينية على محكّ التساؤل والتشكيك من قِبَل شريحة وازِنة من المسلمين السنّة، وذلك بسبب ضلوعها في إسقاط حُكم الإخوان المسلمين في مصر، والإشتباك مع رُعاتهم الإقليميين أي تركيا وقطر، بحيث بدا أن شريحة وازِنة من المسلمين السنّة أخذت الوجهة الإخوانية، وباتت تنظر إلى السعودي نظرة ازدراء وارتياب.

ويشير نصرالله إلى تنامي الحديث عن تعاون سعودي – إسرائيلي استخباراتي وأمني على غير صعيد.

ويستأنف الكاتب شَرْح رؤيته لتراجُع الدور السعودي بقوله: من أهم أسباب التبدّل الحاصِل في المزاج السنّي، هو الإحتضان الإسرائيلي للجماعات التكفيرية المسلّحة المدعومة سعودياً ، مثل التعاون والتنسيق بين جبهة النصرة والجيش الإسرائيلي في القرى الممتدّة على طول الحدود السورية مع فلسطين المحتلة، قبل تقهقرها وإنسحابها إلى إدلب. فضلاً عن إعلان تنظيم داعش لدولة الخلافة المزعومة، قد أفضى إلى إحداث صَدْعٍ في المشروعية المؤسّسة لهوية المملكة، وهذا يعني كما يقول نصرالله إلى مُزاحمتها على مكانتها الدينية وعلى زعامتها الإسلامية، التي كانت معقودة لها طيلة عشرات السنين، باتت اليوم أمراً خلافياً مُتنازعاً عليها بين جهات متعدّدة.

ويعتبر نصرالله أن الإنتكاسة الأخطر التي مُنيت بها السعودية، تتمثّل في حجم المخاطر والتهديدات التي تُحدِق بمصالحها كمُحصّلة لانغماسها في أزمات المنطقة. فقد أفضت السياسات السعودية المُعتمدة في مُقاربة ملفات المنطقة إلى خسارتها مُحيطاً إقليمياً لطالما كان مُتصالحاً معها، وإلى تمزيق مروحة وشبكة علاقاتها العربية والإقليمية والدولية، بنحو يحمل في طيّاته ارتدادات ونتائج خطيرة على أمنها القومي والإستراتيجي.

توجد اشتباكات (سعودية - إيرانية) و(سعودية – سورية) و(سعودية – عراقية) و(سعودية – تركية) و(سعودية – قطرية) واشتباكات سعودية مع حزب الله ومع أنصار الله وجماعة الإخوان المسلمين، ومع حركة حماس، فضلاً عن تبايُنٍ شديدٍ مع غير دولة من مجلس التعاون الخليجي.

تجادل هذه الدراسة - حسبما يقول نصرالله – في المخاض الولادي العسير الذي تشهده البيئة الإستراتيجية في الشرق الأوسط الذي يتنبّأ الكاتب بأنه سيكون واقفاً على مُفترق طرقٍ  تتجاذبه خيارات مُتنازعة: إما الإنزلاق إلى حروبٍ كبرى شاملة وإما الإنخراط في تسوياتٍ شاملةٍ وحلولٍ كليّةٍ شاملة.

وينهي نصرالله دراسته الشاملة في تعقيدات الشرق الإوسط بقوله: إلى أن تتبلور مخرجات هذا الصراع والوقوع على نظام إقليمي جديد، يبقى خيار المراوحة قائماً، يُرهِق الجميع، ويُنهِك قواهم، ويستنزف قدراتهم ومواردهم المادية والبشرية.