الشرق الأوسط في سياق عالمي متغيّر: رؤية روسيّة
تعتبر مقالات كتاب "الشرق الأوسط في عالم متغيّر" تأسيسيّة، عمل عليها الخبراء في إطار مشروع أكاديمية العلوم الروسية "مشاكل وآفاق التحول السياسي الدولي في الشرق الأوسط في سياق التهديدات الإقليمية والعالمية".
صدر عن معهد الاستشراق التابع للأكاديمية الروسيّة للعلوم كتاب ضمّ حصيلة جهود ستة عشر باحثاً وباحثة في الشؤون السياسيّة والاقتصادية العربية والإيرانية والتركيّة، كدراسة متكاملة تهدف إلى تحليل التحولات والمتغيّرات التي تتكشف على نطاق واسع في الشرق الأوسط، وأهمّها الحضور الروسي في المنطقة وتفاعله مع مكوّناتها في الحاضر والمستقبل. وقد أسهم في الدراسة فريق من العلماء القريبين من مراكز صنع القرار في موسكو، ينتمون إلى أجيال مختلفة ويعملون في معاهد الأكاديمية الروسية للعلوم والجامعات ذوات الصلة بالعلوم السياسية والدراسات العربية والإسلاميّة.
أُجريت الدراسة التي حملت عنوان "الشرق الأوسط في سياق متغيّر" عند تقاطع مناهج العلوم التاريخية والسياسية، مع التوقف عند التجاذبات بين الاتجاهات العالمية والإقليمية. وشملت الدراسة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لقضايا العلاقات بين الأديان والطوائف والأعراق والأقليات، والعنف المدني والسياسي، وارتباط العناصر التقليدية ببعضها البعض والعولمة، انطلاقًا من التاريخ الحديث إلى يومنا الحاضر.
قدّم للكتاب، الصادر في 556 صفحة في النصف الثاني من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، الأكاديميّان فلاديمير غيورغيفيتش بارانوفسكي وفيتالي فياتشيسلاففيتش نعومكين، وهما وجهان بارزان في السياسة والدبلوماسية وباحثان ضليعان في الشؤون العربية والإسلامية. وقد اعتبرا في تقديمهما أنّ الشرق الأوسط يقع اليوم تحت تأثير موجة ضخمة ذات طاقة اجتماعية هائلة، مصحوبة بانبعاثات قوية في بيئته والبيئة المحيطة، وعلى الساحة الدولية في آن، وأن المشاكل التي تحملها هذه الموجة تعد بأن تصبح واحدة من الموضوعات الرئيسة للتطور السياسي الدولي في القرن الحادي والعشرين. واعتبرا أنّ الدراسة الجامعة للمنطقة هي رهن فكرتين رئيستين إذ ينبغي إجراؤها عند ملتقى مناهج العلوم التاريخية والسياسية لاستشراف المستقبل،
من جهة، ومراعاة التفاعل والتجاذب بين القوى المتناقضة الاتجاهات، التي تطورت على المستوى العالمي من جهة أخرى. وبصورة عامة، يمكن اعتبار الاضطرابات التي تحدث في الشرق الأوسط بمثابة تنفيس مرحلي للتطور السابق الذي استمر لقرون، مع إيلاء أهميّة خاصة للمرحلة الحالية من الصراع في "شيخوخته"، وتقييم حقائق اليوم من خلال منظور العمليات التاريخية في القرن السابق. وتوقف الباحثان عند أهميّة التركة الثقيلة المرتبطة بسقوط الإمبراطورية العثمانية، وتطوير نظام إقليمي للدول، وتشكيل ظاهرة الحكم في الأقاليم، وتطوير طرق جديدة لإشراك القوى الخارجية في المنطقة، وأن النزاعات الشديدة التفجر في أيامنا هذه، وفق وقائع تنشأ صعودًا وهبوطًا، تؤسس لتطور سريع الوتيرة في المستقبل القريب للمنطقة. وعليه فإن معرفة المخطط التاريخي للأحداث مرتبطة بفهم الديناميات السياسية الحديثة في المنطقة، فمن المهم فهم سمات أداء المجتمع، وخصائص تنظيم السلطة، وإمكانية التحول في هذا المجال، والقوى الدافعة للتحولات في نهاية المطاف. ورأيا أنّه، على المستوى الإقليمي، يمكن أن تظهر بعض الاتجاهات الدوليّة نفسها بوضوح بغضّ النظر عن إمكانية تشكّل معارضة قوية لها.
يتألف الكتاب من أحد عشر بحثًا، أوّلها من إعداد بارانوفسكي ونعومكين، حيث يقدمان تحليلاً عاماً للميول الرئيسة للتطور في الشرق الأوسط. ويلاحظ على وجه الخصوص، أنه من خلال الاتصال بالواقع المحلي، تكتسب التوجهات الدولية ميزات إقليمية محددة مع تقسيم المنطقة إلى ستة أنواع من بناء الدولة، ويخلصان إلى أن ظهور النظم السياسية المختلطة والاختلالات في التنمية المؤسسية يخلقان الأساس للصراع الداخلي.
في الفصل الثاني، يحلل البروفيسور في العلوم الاقتصادية ألكسندر فلاديميروفيتش آكيموف السمات الرئيسة للتحول الاقتصادي في الشرق الأوسط، مسلطًا الضوء على عملية تحديث المنطقة والعولمة وتأثير الإسلام على الحياة الاقتصادية. ويقارن بين حجم وخصائص التنمية الاقتصادية للبلدان، محدّداً دور مجمع النفط والغاز والتعدين في عملية التحديث. ويولي أهمية لتهديدات النموذج الحالي للحياة الاقتصادية مع تقديم سيناريوهات مختلفة للتنمية.
في الفصل الثالث، يبحث فيتالي نعومكين في عملية تطوير نظام الدولة القومية في الشرق الأوسط وأزمتها، ويبيّن أن الحدود التي تم رسمها في المنطقة بصورة تعسّفية، أفضت إلى فصل بلدان المنطقة عن بعضها البعض بموجب نظام للولايات، الذي أرسى أساسًا للصراع في المستقبل. وخلص إلى أنه في عملية بناء الدولة هناك معضلة هي: التخصيص الوطني - الإقليمي في مقابل التكاملية.
الفصل الرابع مكرّس لتطور الأنظمة السياسية في العالم العربي، وهو بتوقيع المرشح في العلوم التاريخية ألكسندر فلاديميروفيتش ديمتشينكو الذي ينطلق من الخلل في التوازن في تشكيل وتطور الأنظمة السياسية في الدول العربية، محدّدًا أربعة أنواع من هذا التطور. ويخلص إلى أن الشكل المسيطر الجديد من الهيمنة قد ساد في العالم العربي بالإضافة إلى التهجين اللاحق للأنظمة السياسية.
في الفصل الخامس، المكرّس لمشاكل المجتمع المدني في دول الشرق الأوسط، يعرض المرشح للعلوم بافل فياتشيسلافوفيتش شليكوف فكرة ارتباط ظاهرة منظمات المجتمع المدني بالدمقرطة، وكذلك يعارض فكرة الصراع بين الدولة والمجتمع المدني، خالصاً إلى أن النزعات السلطوية متأصلة أيضاً في المجتمع المدني ومنظماته، وأنه يمكن أن تستخدم كأداة للقمع، مناقشاً السمات الوظيفية لهذه الظاهرة، متوقفاً عند الاختلافات بين النماذج الغربية و"غير الغربية" للمجتمع المدني.
ويخلص المؤلف إلى أن مؤسسات المجتمع المدني غالباً ما تستخدم كأداة لتدعيم السلطة السياسية والنفوذ الاقتصادي، والمنطقة المعنية غالباً ما تكون خالية من الاستقلالية السياسية.
وفي الفصل السادس، يحلل مدير مركز الدراسات العربية والإسلامية في أكاديمية العلوم الروسية فاسيلي ألكسندروفيتش كوزنيتسوف ثقافة العنف وتحوّل النظم السياسية في العالم العربي. وتعتبر هذه المادة أساسيّة إلى حد كبير على الرغم من أن الكثير من أبحاث كوزنيتسوف تشتمل على تحليل ظاهرة تنظيم "داعش" المحظور قانوناً في روسيا. ويتجاوز البحث البيانات الإقليمية والتعميمات، مولياً أهميّة لمفاهيم التحول في النظام السياسي والعنف، مضمّناً البحث استنتاجات حول الزيادة المستمرة في التفرد في الأنظمة السياسية العربية. وفي معرض حديثه عن العنف الأفقي، يرى أن ممارساته في الدول العربية قد تشكلت من خلال تأثير التقاليد القبلية، ومعايير المجتمعات الحضرية، وكذلك الأفكار الإسلامية.
وتدرس البروفيسورة إيرينا دونوفنا زفياغلساكايا في الفصل السابع دور العناصر المسلّحة غير الحكومية في نزاعات المنطقة، محدّدة الجهات الفاعلة خارج الأطر الرسمية للدول، متوقفة عند تصنيف الجماعات المسلحة. وتلاحظ أستاذة معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية المواقف الأيديولوجية المرتبطة بحماية المصالح المحلية أو العرقية أو الطائفية، متوقفة عند تحليل ظاهرة القادة الميدانيين والمسلحين والمتنفذين.
وفي الفصل الثامن، يدرس المرشحان للعلوم التاريخية ألكسي فيكتوروفيتش سارابييف ونتاليا ألكسندروفنا بيرينكوفا العاملين الديني والمذهبي في تطورات وتعقيدات العمليات الاجتماعية والسياسية في المنطقة، محلليْن بعض القوالب النمطية في الفهم النظري للموضوع، مقدمين رؤيتهما لمعضلة المشاركة السياسية الطائفية، بناء على تجربة بلاد الشام.
ويحلل المرشح في العلوم التاريخية ألكسندر دميتروفيتش فاسيليف والباحثة في معهد آسيا وإفريقيا لودميلا ماكسيموفنا سامارسكايا، في الفصل التاسع، تاريخ ترسيم الحدود في الشرق الأوسط، معتبرين أن الحدود المرسومة أصبحت رمزاً للظلم لدى شعوب المنطقة.
وتطرح المرشحة في العلوم التاريخية داريا فلاديميروفنا جيغولسكايا، في الفصل العاشر، مشكلة الأقليات العرقية الطائفية متوقفة عند الأرثوذكس والأرمن واليهود، معتبرة أنّ الأكراد والعلويين لا يزالون عرضة لبعض التمييز في تركيا التي ورثت الدولة العثمانية، مع ملاحظة بعض التغييرات الإيجابية في علاقات الدولة بأقليات معترف بها وأخرى غير معترف بها.
في الفصل الأخير، يطرح الأستاذان في العلوم التاريخية والسياسية سيرغي نيكولاييفيتش سيريبروف وليونيد ماركوفيتش إيساييف سمات العلاقات في المملكة العربية السعودية واليمن، مشيرين إلى أزمة هيكلية حادة في السعودية وإلى "أعراض ضعف" في استراتيجيتها وظاهرة تحولها إلى دولة رائدة في المنطقة، محللين تطور الصراع في اليمن بالتفصيل إلى جانب دور التدخل العسكري والتناقضات بين قادته في السعودية والإمارات العربية المتحدة. ويقترح المؤلفان رؤيتهما في عملية تطور دول الجزيرة العربية.
تعتبر مقالات كتاب "الشرق الأوسط في عالم متغيّر" تأسيسيّة، عمل عليها الخبراء في إطار مشروع أكاديمية العلوم الروسية "مشاكل وآفاق التحول السياسي الدولي في الشرق الأوسط في سياق التهديدات الإقليمية والعالمية"، واستخدمت في صياغتها مواد وأفكار باحثين لم تخصّص لهم فصول مستقلة فيه، ومنهم مدير مركز التحليل والمعلوماتية في معهد الاستشراق الجنرال نيكولاي دميتروفيتش بلوتنيكوف، ومدير قسم الدراسات العليا في المعهد البروفيسور إلدار خارياسوفيتش مينياجيتيدينوف. ويعِد مؤلفا المقدمة، بارانوفسكي ونعومكين، بمواصلة عمل الفريق البحثي على تطوير الموضوعات المطروحة، متوقعين أن تنشر نتائج الأعمال البحثية تباعاً، لاسيما وأنّ المتخصصين معنيون "بمصير هذه المنطقة الأكثر إثارة للاهتمام في العالم".