"ذكرياتي في السجن": في ذكرى رحيل المطران كبوجي
عندما تبدأ بقراءة مذكرات "المطران إيلاريون كبوجي: ذكرياتي في السجن" للكاتبين سركيس أبو زيد وأنطوان فرنسيس (دار أبعاد ـــ 2018)، تأسرك المقدمة التي سردا فيها بشكل مشوق قصة هذه مذكرات، التي رواها المطران لهما بعد عامين على خروجه من المعتقل الإسرائيلي بتهمة "تهريب السلاح".
في 18 اَب/ أغسطس 1974 دخل المعتقل الإسرائيلي بعدما حكم علية بالسجن لمدة 12 عاماً. أمضى منها خلف القضبان 3 سنوات و3 أشهر و16 يوماً، بعد أن تدخل البابا بولس السادس مباشرة في قضيته، وتفاوض الفاتيكان مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي لإطلاق سراحه في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977.
غادر المطران كبوجي المتهم "بتهريب السلاح، والتعاون مع خلايا إرهابية لضرب دولة إسرائيل"، سجن "الرملة" في فلسطين المحتلة بعد مفاوضات مضنية استمرت بضعة أشهر، بعد أن وضعت سلطات الإحتلال الصهيوني شروطاً كثيرة على الفاتيكان للإطلاق سراحه. أهمها فرض الإقامة الجبرية في المنفى على المطران المحرر، وأن يكون في أرض بعيدة عن فلسطين، وأن لا تسمح مرجعياته الروحية بعودته إلى أي دولة عربية، ولا سيما لبنان وسوريا، فانتقل سيادته ليعيش في روما، بعد أن أمضى أكثر من سنة في أميركا اللاتينية.
يوم عاد المطران كبوجي إلى روما كان الصحفي أنطوان فرنسيس، بحكم عمله كصحفي في إحدى الصحف العربية في بريطانيا، يتابع قضيته التي شغلت الرأي العام العالمي منذ خروجه من السجن، حتى استقراره في دير جمعية "راهبات الصليب" اللبنانيات في روما.
في تلك الفترة كان الصحفي سركيس أبو أبو زيد يعمل كصحفي وكاتب في بيروت. وقد جمعته إلى إنطوان فرنسيس صداقة ما تزال مستمرة منذ أيام الصفوف الإبتدائية مطلع ستينات القرن العشرين. وتخرجا من الجامعة في اليوم نفسه عام 1974.
كانت الراهبة الأم "جان دو لاكروا أبو زيد"، عمة سركيس أبو زيد، رئيسة لدير جمعية راهبات الصليب في جل الديب، قبل أن تنتقل إلى روما، في بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976. حيث أنشئت لذات الجمعية ديراً جديدأ.
كان فرنسيس يزور برفقة أبو زيد عمته الراهبة باستمرار قبل انتقالها إلى روما، لذلك عندما قرأ خبر إقامة المطران كبوجي في ضيافة راهبات دير الصليب في روما، سارع إلى الإتصال بسركيس أبو زيد، الذي أكد له أن المطران يعيش في الدير نفسه الذي ترأسه عمته "جان دو لاكروا أبو زيد".
في هذه اللحظة أقترح فرنسيس على سركيس العمل للحصول على مذكرات المطران كبوجي لنشرها في كتاب، لا يمكن إلا أن يحقق نجاحاً كبيراً، نظراً للعمل الكبير الذي قام به سيادته، ولمقدار التعاطف العربي الواسع مع قضيته والقضية الفلسطنية في تلك الحقبة.
وبعد أيام أتصل سركيس بفرنسيس، وقال له بفرحٍ كبير: "وافق المطران كبوجي أن ننشر مذكراته".
في مطلع تشرين الأول/ اكتوبر 1979 اجتمع المؤلفان مع المطران كبوجي في دير راهبات الصليب في روما، في لقاءات يومية متتالية، كانت تستمر لساعات، قبل الظهر وبعده، على مدى اسبوعين، سجلت كلها على الاشرطة المسجلة. وبمباركة المطران انتقل الكاتبان إلى لندن، وعملا طوال أكثر من شهر على تفريغ الأشرطة وصياغة النصوص.
وتوجه فرنسيس إلى باريس، ليعرض على دار "هاشيت للنشر" إصدار مذكرات المطران باللغة الفرنسية تحت عنوان "الاسقف الثائر"، وحصل على الموافقة المبدئية بالنشر فور إعداد الكتاب.
بعد أن انهى الكاتبان تنقيحهما للكتاب وإعداده للطبع، أرسل فرنسيس مسودة الكتاب إلى روما للمطران إلتزاماً بشرطه الأساسي الذي يقضي "بعدم نشر أي كلمة قبل أن يراجع النصوص بنفسه".
وبالفعل بعد عشرة أيام أعاد المطران كبوجي مسودة الكتاب إلى لندن مدوناُ عليها بعض الملاحظات، فبدل كلمات، وأضاف عبارات، وشطب مفردات، وأعاد فرنسيس صياغة الكتاب مرة ثانية استعداداً لنشره بحلته الجديدة كما أراد سيادته.
بعد أربعة أيام من إعادة النصوص إلى لندن، رن جرس الهاتف في منزل فرنسيس في العاصمة البريطانية، ففوجئ بصوت الأم "جان دو لاكروا أبو زيد" تقول له: "سيدنا يريد أن يتحدث إليك. أطلب منك، وانت عندي بمعزة سركيس، أن تتفهم موقفه، وتلبي طلبه، لأن الظروف أقوى منه، ومنا جميعاً".
طال الحديث ذاك المساء بين المطران وفرنسيس على الهاتف، وكان الانزعاج واضحاً على صوت أسقف القدس. تحدث بلباقة، وأبوة، ولطف، وكان خلاصة ما قاله:
"لن أستطيع أن أنشر أي شيئ عن حياتي الاُن، وخاصة فيما يتعلق في فترة سجني في "إسرائيل". أرجوك يا أنطوان أن تتفهم موقفي وتتخذ القرار المناسب. أنا محرج تجاهكما. لقد تحدثت إلى سركيس في بيروت، وأبدى كل استعداد للتجاوب مع رغبتي بالإمتناع عن النشر، وأخبرني أن النصوص بحوذتك أنت، وانت قادر أن تنشرها إذا أردت ولا يمكنني أن أنفي مصداقيتها لانها مسجلة بصوتي".
وجد فرنسيس نفسه في موقف لا يحسد عليه، فطلب من المطران أن يشرح له السبب الخطير الذي جعله يبدل رأيه فجأة "بعد شهرين من العمل الشاق، إضافة إلى ما تكبدناه من مصاريف سفر إقامة في روما".
وأكتفى المطران كبوجي بالقول: "صدقني الأمر خارج عن إرادتي ولا تطلب مني إيضاحات أكثر".
وبعد تفكير طويل قرر الكاتبان عدم نشر المذكرات رغم الخسائر المادية والمعنوية، واعتبرا أن المطران كبوجي لا يمكن أن يطلب منهما عدم نشرها، لو لم يتعرض لضغط كبير من الفاتيكان التي عملت على إطلاق صراحه، وتعهدت لإسرائيل إلتزامه الإمتناع عن اي نشاط سياسي أو نضالي في سبيل القضية الفلسطنية طوال إقامته في روما. واعتبرت الكنيسة الكاثوليكية أن نشر المذكرات سوف يعد طعناً بمصداقيتها، وسوف يسبب لها مشاكل كثيرة على الصعيد الدولي، اَثر الفاتيكان أن يتجنبها بعدم نشر الكتاب.
اليوم بعد 38 سنة على لقاءات روما، رحل المطران كبوجي في اليوم الأول من عام 2017، إلا أن مذكراته بقيت محفوظة في أحد الصناديق العتيقة.
قررنا إخراجها للنور للاسباب التالية: تحية للمطران الذي أمضى حياته مدافعاً عن فلسطين، ولم يصدر أي كتاب يوثق حياته داخل السجن. ولأنه بات رمزاً لتمسك المسيحيين المشرقيين بالقضية الفلسطينية. ولان هذه المذكرات تتضمن معلومات قيمة وغير معروفة، ننقلها للاجيال القادمة.
ويروي صديق المطران كبوجي الحميم الكاتب حسن حمادة في مقدمة الكتاب الثانية أن المطران كان يقول إن "الأراضي المقدسة تظل مقدسة إذا ما بقي أهل فلسطين في هذه الاراضي، وإن استمرارهم فيها هو الذي يعزز ويثبت صفتها المقدسة".
وينقل حماده عنه قوله: "الغرب بربري في طبعه وهو يراهن على تواطؤ الحكومات العربية معه ومع الصهيونية". ومن قناعات المطران التي كان يعبر عنها باستمرار "بأن الله أنعم علينا بـ "لاهوت قومي" يتمثّل بالرسالتين المسيحية والمحمدية".
ويضيف حماده: صودف أن استمعنا مرات عدة إلى مقطوعات من الموسيقى الكلاسيكية، فكان يقول لي إن "أجمل لحن يمكن أن أسمعه في حياتي هو صوت أجراس الكنائس والاَذان من مساجدها. يا له من حرمان".
وعن رأيه في أداء الكنيسة يقول المطران إن "ظاهرة "كنيسة الشعوب"و "الكهنة الحفاة" في أميركا اللاتينية من شأنها أن تسهم في إصلاح أداء الكنيسة. إن كل الحملات التي تشن ضد "لاهوت التحرير" هي التي تشكل خروجاً عن المسيحية وليس العكس.
وعندما قال له حماده إن ما فعله وما يفعله هو على صعيد فلسطين ينسجم تماماً مع "لاهوت التحرير". فضحك وقال: "لذلك ينزعجون مني".
وعن انخراطه في القضية الفلسطنية يروي المطران: "كان بداية انخراطي في القضية الفلسطينية"، منذ بدأ الإجرام الإسرائيلي ما قبل النكبة عام 1948. وتكرّس اقتناعي بـ"أن المسيح كان الفدائي الفلسطيني الأول".
يتحدث المطران كبوجي في مذكراته عن فلسطين قائلاإن "واجبي وضميري يفرضان عليّ خدمة القضية. يوم سيامتي الأسقفية، وضع ربُّنا في عنقي أمانة هي فلسطين والفلسطينيين. ويوم الحشر سوف يحاسبنا حساباً صارماً على الأمانة".
وعلى إثر احتلال الصهاينة للضفة الغربية قدم المطران كبوجي الإعانات للمنكوبين، وتعاون مع الرهبان والراهبات وبعض السكان على دفن جثث الشهداء "كنت أصلي على أرواح الشهداء مع أحد المشايخ في آن واحد قبل دفنهم".
وعن علاقته بالثورة الإيرانية يقول المطران كبوجي: "تنطلق محبتي لإيران واحترامي لثورتها من أنني أرى أصبع الله فيها. إذا سخرّنا المنطق وحاولنا أن نفسر كيف انتصرت هذه الثورة واستمرت حتى الاَن لعجز العقل. كم نحتاج نحن العرب إلى أخذ الدروس والعبر من هذه الثورة".
يكفي إعلان المطران كبوجي في مذكراته قوله: "أسّست أولى خلايا الداخل في مدينة القدس، وقررت أن أنقل أسلحة فعّالة من الخارج إلى الداخل لتنشيط العمليات الداخلية، وقد قامت الخلية التي أسّستها بعمليات عدة قبل اعتقالي، وكنت على علم بها"، ليتوج مؤسساً لمدرسة "لاهوت التحرير القومي" التي تستحق بجدارة أن تدرس وتنمى في فلسطين المحتلة، كما نجحت في أميركا اللاتينية.