الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو يكشف خفايا العهد الستاليني

يفتوشينكو ولِدَ في عائلة "كانت الثورة دينها". وعلى الرّغم من اعتقاده بأنّ "الشّيوعّية والنّزاهة كلمتان مُترادفتان" وأنّ "الماركسيّ الحقيقيّ هو الذي يتعلّم باستمرار" إلا أنّه لم ينتسب إلى الحزب الشّيوعيّ.

العمق الرمادي، سيرة ذاتية مبكرة

 يفغيني يفتوشينكو ليس غريباً عن المشهد العربي.

هذا ما يبدأ به المترجم المغربي إدريس الملياني في مقدّمته  لكتاب "العُمق الرمادي :سيرة ذاتية مُبكرة"  ليفغيني يفتوشينكو، الذي يُعتَبر من أهم شعراء روسيا. وقد سبق لهذا الكتاب أن تُرجِم إلى الفرنسية والانكليزية. وطُبِع في نيويورك عام 1963.

يقول الملياني "في مطلع الستينات قام الشاعر بجولة في أوروبا، وكتب هذه السيرة الذاتية المُبكرة"، وتُرجِمت إلى الفرنسية في حينها، ويوم عاد إلى بلاده استُقبِل إعلامياً ورسمياً بحفاوة، جعلت خروتشوف يُشيد به في خطاب رسمي بمناسبة 8 آذار (1963)  قائلاً: "يجب أن نوفي الرفيق يفتوشينكو ما يستحقّه من التكريم، فقد تصرّف خلال هذه الجولة بشرف".

عرَفَ العالم العربي الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو من أهم الشعراء الذين فضحوا العهد الستاليني لدرجة أن اتّهمه البعض بالعمالة، من خلال محطّات ثلاث:

الأولى: مشاركته ضمن وفد أدباء الاتحاد السوفياتي الذي كان على رأسه صاحب رائعة "بلدي" الشاعر رسول حمزاتوف، وصاحب رائعة "النطع" جنكيز أيتماتوف، التي ترجمها الأديب المصري يحيى حقي، في "المؤتمر الثالث لكتّاب آسيا وإفريقيا، 25 ـ 30 مارس1967"في بيروت ، والذي رعاه وتحدّث فيه الرئيس رشيد كرامي. وترأّس لجنة الإعداد له الزعيم كمال جنبلاط ورئيس اتحاد الكتّاب اللبنانين وصاحب رائعة "الحيّ اللاتيني" الدكتور سهيل إدريس. وقد شارك في المؤتمر أهم الأدباء والشعراء من جميع أنحاء العالم. وقد أبرق الرئيس عبد الناصر للمؤتمر مُتمنياً له كل التوفيق. وفي المؤتمر عينه نظمّت مجلة "الآداب" احتفالاً شعرياً ليفتوشينكو. وقد قدّمته الدكتورة عايدة مطرجي إدريس في مجموعة من قصائده التي ترجمتها المُستشرِقة إيلينا استيفانوفا وقد راجعها وألقاها الشاعر أدونيس.

الثانية: كانت زيارة يفتوشينكو إلى القاهرة بدعوةٍ من مؤسّسة الهلال التي كان يترأّسها الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين الذي شارك في ذات المؤتمر. وتروي الكاتبة المصرية الدكتورة صافي ناز كاظم: "انعقد في بيروت «المؤتمر الثالث لكتّاب آسيا وإفريقيا " وأوفدني لحضوره الأستاذ أحمد بهاء الدين، رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة المصوّر، بصفتي الناقِدة والمُحرّرة الثقافية للمجلّة. في فندق الانترناسيونال رأيته في الصباح أول أيام المؤتمر وكدت أصطدم به قبل أن أقول في فرحة: "أنت يفتشنكو!"، وتماماً كما بدا لي في كتاباته، كان ودوداً، عفوياً، تلقائياً، بشوشاً، طفولياً، جادّاً. جريت إلى أحمد بهاء الدين واقترحت عليه فكرة دعوة يفتوشينكو لزيارة مصر، في مقابلة أو مُناقِضة لدعوة الأهرام لسارتر، وكان تصوّري لسارتر أنه الذي أتى "إلى" الماركسية بينما يفتشنكو الذي أتى "من" الماركسية.

ووافق أحمد بهاء الدين بابتسامة تأييد وحماس هادئة، وفوّضني للتنفيذ. قلت ليفتشنكو: بالنيابة عن مؤسّسة دار الهلال الصحفية المصرية أوجّه إليك الدعوة لزيارة مصر تُلقي أشعارك في دار الأوبرا الخديوية، أول وأقدم أوبرا في الشرق الأوسط. تهلّل وجهه بفرح الذي كسب جائزة لم يتوقّعها وبالفعل ألقى أروع قصائده فيها . وأصدرت مجلة الهلال عدداً خاصاً عنه، مُتضمّناً ترجمات لقصائد له، من قِبَل عدد من الشعراء".

ثالثاً: وفي بيروت صدر ديوان بعنوان "قصائد من يفتوشينكو الصوت الجديد في الاتحاد السوفياتي" أشرفت على ترجمتها المُستشرقة "إيلينا إستيفانوفا" وراجعها نزار قباني وبلند الحيدري وأدونيس، كما أنه زار المغرب لكن الجمهور القليل صدمه، إذ كان مُعتاداً على أن يُقيم أمسياته الشعرية في المسارح الكبرى وملاعب الكرة. وللشاعر سميح القاسم قصيدة حوارية معه حول القضية الفلسطينية.

ويتساءل يفغيني يفتوشينكو: لماذا وافقتُ على كتابة هذه التجربة عن سيرتي الذاتية؟ ويُجيب: لأن القصائد تُترجَم بشكلٍ رديء ولأنه، في الغرب، بدلاً من معرفة إنتاجي، تُعرَف بعض المقالات التي تُعطي عني صورة مُخالِفة كثيراً للواقع، إلى جانب هذا يعتقد أنه ينبغي أن تكون للشاعر شخصية خاصة، مُحدّدة جداً، لكي يتمكّن من التعبير في إنتاجه عمّا هو مُشتَرك بين كثير من الناس. إن طموحي كشاعرٍ لا يتعدّى أن أتمكّن ،خلال حياتي ، من أن أنقل عبر قصائدي أنفاس الآخرين،من دون أن أنفي "أناي".

وعلى الرّغم من أنّ يفتوشينكو ولِدَ في عائلة "كانت الثورة دينها". وعلى الرّغم من اعتقاده بأنّ "الشّيوعّية والنّزاهة كلمتان مُترادفتان" وأنّ "الماركسيّ الحقيقيّ هو الذي يتعلّم باستمرار" إلا أنّه لم ينتسب إلى الحزب الشّيوعيّ ولم يحمل بطاقة الحزب  إلا عبر قصيدته "اعتبروني شيوعياً" التي اعتبرها ردّاً على الحملات التي تعرّض لها من بعض قادته. ولم يكن يفتوشينكو عضواً إلا في "حزب اللاحزبيين" كما قال في إحدى مقالاته الصحفية عندما احتدم النقاش حول "الغلاسنوست" و"البروسترويكا" و"زعامة غورباتشوف". 

إن هذه السيرة لا تكشف القناع عن الخِداع الستاليني الأسود فحسب، بل تُجيب أيضا عن كثيرٍ من الأسئلة الخاصة، بتلك المرحلة الربيعية القاسية، التي عرفت «ذوبان الجليد» على عهد خروتشوف، وتُجيب عن أسئلة مُماثِلة، تمخّضت عنها مرحلة الجمود الجديد، على عهد بريجنيف، وما سيشهده الاتحاد السوفياتي لاحقاً من انهيارٍ شامل.

يروي يفتوشينكو "كنت أذهب مع أبي وأمّي إلى التظاهرات العمالية في الساحة الحمراء وأطلب من أبي ان يرفعني عالياً فوق كتفيه حتى أتمكّن من رؤية "ستالين" كنت ألوّح برايتي الصغيرة الحمراء وأتخيّل أن ستالين ينظر إليّ شخصياً.

آه كم كنت أغبط أولئك الأطفال المُختارين لتقديم زهور إلى ستالين الذين كان ستالين يُداعب شعرهم وهو يبتسم ابتسامته المشهورة".

ويتساءل يفتوشينكو حول شخصية ستالين بقوله "إنه لأمر بدائي أن تفسّر عبادة شخصيّته بالقمع وحدها.بالنسبة إليّ ، لا شك أن ستالين كان يتمتّع بشخصية آسرة. والواقع أن كثيراً من البلاشفة القدامى الذين اعتقلوا وعومِلوا بقسوة ظلّوا مُصرّين على الاعتقاد أنهم عُذّبوا من دون عِلْمٍ منه.

وكان كثير منهم بعد العودة من التعذيب يكتبون بدمائهم على جدران زنازينهم "عاش ستالين".

ويعتقد يفتوشينكو أن الشعب الروسي في معظمه كان يرفض مواجهة الحقيقة. كان كل واحد يحسّ تلقائياً ،إلا أنه لم يُرِد أن يصدّق همْسَ القلب، ما دام العكس سيكون أكثر تعباً ورُعباً.

كان الشعب الروسي يُفضّل أن يعمل على أن يُحلّل. وبإصرار بطولي، قلّ نظيره في التاريخ، كان هذا  الشعب يشيد محطة كهربائية تلو أخرى ومصنعاً بعد آخر.كان يعمل بعناد لكي تخنق ضجّة الآلات والجرّارات والجرّافات،الصرخات والتأوّهات المُتسرّبة عبر الأسلاك الشائكة لمعسكرات الاعتقال السيبرية. ومع ذلك  كان من المستحيل تجاهُل تلك الصرخات.ففي كل يوم كان يتعاظم ذلك الخطرالأكبر الذي يمكن أن يُهدّد شعباً من الشعوب،الطلاق بين سلوكه ومُعتقداته. 

يحكي يفغيني يفتوشينكو موقفاً حدث له مع شخصٍ يُدعى الأزعر، ضربه ذات يوم واستعدّ هو جيّداً ليضربه، فيقول: ومنذ تجربتي مع الأزعر وأنا أعرف أنه لكي يكون المرء شاعراً لا يكفي أن يكتب قصائد، بل ينبغي له أن يكون قادراً على الدفاع عنها.

"العُمق الرمادي" سيرة الشعر الروسي، منذ فجر ثورة أكتوبر 1917 حتى مطلع الستينات، تلتقي فيها عدّة أجيال من كبار الشعراء السوفيات: من بوشكين وليرمنتوف إلى باسترناك وماياكوفسكي، ومن بلوك ويسنين إلى فوزنيسينسكي، ومن أنا أخماتوفا ومارينا تسفيتايفا إلى بيلا أخمادولينا، شريكته في الشعر والحياة الزوجية.

كتاب "العُمق الرمادي :سيرة ذاتية مُبكرة"  ليفغيني يفتوشينكو، إصدار دار أزمنة للنشر في عمّان-الأردن.