مشكلة الشر والشك بوجود الله
يقوم المؤلف دانييل سبيك، بمناقشة مسألة الشر، وكيف تم استخدامها دائماً، في سياق الاحتجاج ومعارضة وإنكار وجود الله، حيث يناقش عدداً من النظريات التي ظهرت في ذلك المجال، ثم يفصل القول في معرض الرد عليها ونقدها.
في البداية يعرض الباحث دانيال سبيك في كتابه "مشكلة الشر" لعدد من المشكلات الوجودية التي تعرض لها، هو وبعض من أقربائه ومعارفه، ويبيّن كيف أن تلك المشكلات قد تفتح أبواباً لا حصر لها من التساؤلات التي لا يستطيع الإنسان أن يجيب عليها.
من تلك التساؤلات، يبدأ سبيك كتابه بتحديد مشكلة الشر التي قصدها من عنوان كتابه، بأنها "مشكلة تشكّلت من التوتر الواضح بين الالتزام الإيماني التقليدي من جهة، والإدراك الواعي لحالات المعاناة التي لا تُحصى وتبدو غير مبررة من جهة أخرى".
ومن هنا فإن مشكلة الشر التي يقصدها الكتاب، هي تلك التي تتمحور في التحديات الفلسفية للمعتقدات الإيمانية، بحسب تعبيره.
وفي إشارات سريعة مقتضبة، يحاول سبيك أن يلقي الضوء على المحاولات التاريخية التي عملت على الإجابة على إشكالية الشر وكيفية ظهورها، وتناول الفلاسفة ورجال الدين لها، فيستعرض في عجالة محاولات الفيلسوف اليوناني أبيقور في القرن الرابع قبل الميلاد، ومن بعده القديس أوغسطين، ثم الفيلسوف ديفيد هيوم.
بعد ذلك يحاول الباحث أن يتعرض للإشكالية الرئيسة التي يقوم عليها بحثه، وهي ببساطة كيف يتفق الإيمان بوجود قوة غيبية حاكمة ومسيطرة، مع التفسير الفلسفي للشر.
في محاولته للعثور على إجابة مرضية لتساؤله المهم، يحدد سبيك عدداً من الفرضيات التي ينبني عليه بحثه، تلك الفرضيات تنبع من كونه مؤمناً حقيقياً بالعقيدة المسيحية، ولكنه في الوقت ذاته يبيّن أن تلك الفرضيات لا تخصه وحده، بل إنها تتسع لتشمل في دائرتها كل صاحب إيمان عقائدي غيبي، وهي الدائرة التي يسمّيها بالإيمان العام.
يرى سبيك أن أي مؤمن تقع عقائده داخل الدائرة التي حددها، يكون ملتزماً بأربع فرضيات أساسية، وهي: أن الله موجود، وأن الله كلي القدرة، وأنه كلّي المعرفة، وأخيراً أنه كلّي الخيرية، بمعنى أنه لا توجد حدود للخيرية الإلهية.
وفي مقابلة تلك الفرضيات الأربع، يضع سبيك فرضية خامسة، يرى أنها تقوم على أسباب فلسفية واقعية معاً، وهي تلك التي تتمثل في الاعتقاد بأن الشر موجود.
ويُعرّف سبيك الشر هنا بأنه كل ما ينشأ عنه ضرر أو حزن أو أعراض سلبية، بدءاً من نزلة البرد، مروراً بالزلازل والحوادث والكوارث الطبيعية، نهايةً بالموت.
وعبر صفحات كتابه، يناقش الكاتب بعض الأسئلة المرتبطة بالفرضيات الخمس السابقة، في محاولة منه لفض الاشتباك القائم بين ما هو غيبي إيماني محض من جهة، وبين ما هو عقلي فلسفي مجرد من جهة أخرى. وللوصول إلى حل توافقي يبيّن كيف يمكن أن تجتمع الخيرية والعدالة مع الشر في نسق تأويلي وتفسيري واحد، تتوافق معطياته ومآلاته مع بعضها البعض.
المشكلة المنطقية وحجة ماكي
يرى سبيك أنه برغم وجود الكثير من الدراسات القديمة، التي عالجت مسألة مشكلة الشر، إلا أن بحث جون ليزلي ماكي المنشور في عام 1955، تحت عنوان "الشر والقدرة الكلية"، يعتبر أحد أهم الدراسات المعاصرة المختصة بذلك الموضوع على الإطلاق.
السبب في ذلك، أنه وبحسب ما يؤكده سبيك، أن ماكي قد صاغ شكواه بشكل واضح كحجة ضد ادعاء وجود الله، فقبل ماكي كان الجدل حول تلك المسألة ينحصر في محاولة ملئ الفجوة التفسيرية التي تقع ما بين الإيمان والفلسفة، أما مع أطروحة ماكي، فقد صار سؤال مشكلة الشر، يتم استخدامه بشكل رئيس في أي جدال ما بين الإيمان والإلحاد.
ولكن ما هي حجة ماكي؟ يصف سبيك حجة ماكي بقوتها ووضوحها وجرأتها، وبأنها كانت حجة جديدة وأداة نافعة في أيدي أصحاب المعسكر الإلحادي، وذلك لأن ماكي قد عمل من خلالها على استخدام مشكلة الشر، لفتح المزيد من المجالات أمام نقد الدين والإيمان، "وذلك لإثبات أن المعتقدات الدينية لا تفتقر فقط إلى الدعم المنطقي ولكنها غير عقلانية بشكل مثبت، وأن الأجزاء العديدة للعقائد اللاهوتية الرئيسية متعارضة مع بعضها البعض".
ويبيّن سبيك مواطن القوة في أطروحة ماكي، بقوله: "إذا نجح ماكي، سيكون الاعتقاد الإيماني أسوأ من الإيمان بوجود ذي القدم الكبيرة أو وحش بحيرة لوخ نس، فرغم أنه لا يوجد، للأسف، دليل دامغ على وجود مثل هذين الكائنين اللذين لا وجود لاتفاق بشأنهما، فإن الفكرة التي تتعلق بأيهما لا تنطوي، على الأقل، على أي انعدام للتماسك المفاهيمي. سيكون الاعتقاد الإيماني بالأحرى مثل التصديق بوجود مربعات مستديرة، أو وجود شيئين يساويان شيئاً ثالثاً من دون أن يكون أحدهما مساوياً للأخر...".
لأطروحة ماكي، صفة منطقية مهمة، فقد حاول من خلال دراسته أن يبيّن التعارض القائم ما بين الفرضيات الخمسة التي عرضنا لها في السابق.
وبحسب الكاتب، فإن هناك تناقضاً منطقياً واضحاً ما بين هذه الفرضيات وبين بعضها البعض، فكيف يكون الله موجوداً وكلّي القدرة، من دون أن يكون له يد في خلق عالم خالٍ من الشرور؟
وإذا كان فعلاً كلّي القدرة، ومسؤول عن كل هذه الشرور التي يمتلئ بها العالم، فكيف يمكن أن نصفه بأنه كلّي الخيرية؟
أمام تلك الإشكالات القوية التي عرض لها ماكي في نظريته، يرى سبيك أنه قد تمت صياغة عدد من الردود القوية عليها، وإن كان رد آلفين بلانتينجا، المعروف باسم دفاع الإرادة الحرة، هو أقواها على الإطلاق. فالتكتيك الرئيس الذي استخدمه بلانتينجا في دفاعه، لا يقوم على إثبات صدق أو إمكانية تحقق كل فرضية من الفرضيات الإيمانية الاعتقادية الأربع الأولى (الله موجود-كلّي المعرفة-كلّي القدرة-كلّي الخيرية)، بل إن هذا التكتيك ينبني على إثبات توافق تلك الفرضيات من جهة مع الفرضية الخامسة (وجود الشر) من جهة أخرى.
قام بلانتينجا بتقسيم خطته الدفاعية على مرحلتين متمايزتين، في الأولى يميل للشكل الدفاعي الصارم، حيث يطلب من مؤيدي ماكي إثبات بأن الفرضيات الإيمانية تحتوي على تناقضات بين بعضها البعض.
لتوضيح تلك النقطة، يقول سبيك إن أحد فرضيات ماكي في نظريته تؤكد على أن "الكائن الخيّر يمحو الشر بقدر ما يستطيع". فإذا ما افترضنا أن الصداع الذي يصيبني، هو شر، فإنه بالطبع يمكن للطبيب من أن يقضي على هذا الصداع بشكل مؤكد في حال قام ببتر رأسي. ولكن الطبيب لو فعل ذلك، فإنه لن يدل على خيرته، لأنه ببساطة قد قضى على خير أكبر. ومن هنا فإنه يمكن القول إن فرضية ماكي يمكن أن نعدلها لتصبح كالآتي: "الكائن الخيّر يمحو الشر بقدر ما يستطيع، شريطة أنه إذ يفعل ذلك، لا يدمر خيراً أكبر أو يخلق شراً أسوأ".
أما المرحلة الثانية من دفاع بلانتينجا، فهي أكثر إثارة وقوة وعنفاً، ويمكن اختصارها، بأن الله عزّ وجلّ لما خلق البشر، قد منحهم إرادة حرة كاملة، وبموجب تلك الإرادة إختار البشر ما يريدون، فنجدهم في بعض الأحيان ينزعون إلى الخيارات الخيّرة، وفي أحيان أخرى يتجهون للخيارات الشريرة.
إذن، بحسب بلانتينجا، فإنه كان من المستحيل أن يتم خلق عالم فيه إرادة حرة من دون أن يكون فيه شرور، فالله خلق وأوجد إمكانية الوقوع في الشر، ولكن من صنعوا الشر فعلاً هم البشر.
المشكلة البرهانية
بعد أن إنتهى سبيك من عرض الجانب المنطقي لمشكلة الشر، فإنه يعمل على طرح بعض الأسئلة الخاصة بالجانب البرهاني للمسألة، وهي تلك التي تعتمد على حالات شديدة القسوة في العالم الواقعي.
أحد أهم النظريات البرهانية الإلحادية، التي تم اقتباسها من مشكلة الشر، هي تلك التي تزعم بأن وجود الشر وما ترتب عليه من ألم ومعاناة، يؤكدان على عدم وجود إله في هذا الكون.
وكما أكد الكاتب من قبل أن حجة ماكي هي أقوى الأدلة المنطقية المستمدة من مشكلة الشر، فإنه يرى أن حجة وليام رو، التي أوضحها ضمن مقاله المعنون بـ"مشكلة الشر وبعض صنوف الإلحاد"، المنشور في عام 1979، تعتبر أهم الأدلة البرهانية.
يضرب رو، مثالين مهمين لعرض نظريته، الأول مثال متخيّل، يقول بأن هناك ظبياً حاصره حريق ضخم في الغابة، وأُصيب بجروح خطيرة عدة، ولكنه لم يمت إلا بعد أن ظل فترة طويلة في معاناة وألم.
أما المثال الثاني، فهو مثال حقيقي وقع بالفعل عام 1986، عندما قام شخص ما باغتصاب إبنة صديقته، وقام بعد ذلك بخنقها حتى الموت.
اختيار رو للمثالين السابقين تحديداً، لم يأتِ عن طريق الصدفة، ذلك لأنه تعمد في الحالتين ألا تنبني على صور المعاناة الواردة في كل منهما، أي نتائج تترتب عليها الإخلال بأي شكل من أشكال الحرية، التي جعل منها بلانتينجنا عصب نظريته في الرد على ماكي، حيث لا يمكن لمهاجمي نظرية رو، أن يقولوا إن الألم الذي تعرض له الظبي أو الفتاة يمكنه أن يسهم بشكل فعال في تطوير وصياغة نزعة الحرية عند أي منهما.
تتبلور حجة رو الرئيسة في القول إنه لو افترضنا وجود إله مراقب لتلك الحادثتين، فلماذا لم يتدخل لمنعهما، ولماذا سمح بحدوث الشر المتمثل في كل ذلك الألم والمعاناة، هذا مع كونه موصوفاً بأنه كلّي القدرة وكلّي الخيرية.
يرى رو في عدم تدخل الإله لإيقاف تلك الشرور، دليلاً على عدم وجوده من الأصل، خصوصاً أنه لا يوجد خير أكبر قد ترتب على وقوع تلك الحوادث، وهو الأمر الذي يجعل رو يصف تلك الحوادث، بأنها شر مجاني.
وبعد أن يطرح سبيك حجة رو، فإنه يبدأ في عرض الحجج المناهضة لها والتي وجهت نقداً لاذعاً لها، فيبدأ بتبيان رأي ستيفن وايكسترا، المسمّى بالاستنتاج المستند إلى عدم الرؤية.
يرى وايكسترا أن عدم ظهور بُعد أخلاقي يترتب على الشرور التي عرضها رو في مثاليه، ليس دليلاً على عدم وجود خالق، ويستشهد على ذلك بمثالين: الأول هو لاعب الشطرنج المبتدئ الذي يشاهد بطل العالم كاسباروف وهو يضحي بوزيره خلال اللعبة. أما المثال الثاني فهو عالم الفضاء الذي يراقب المجموعة الشمسية بعناية واهتمام، ثم يخرج على العالم، زاعماً أنه أثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأنه لا وجود لما يسمّى بالكائنات الفضائية.
في الحالتين، يرى وايكسترا، أن المشكلة قد نتجت من خلال جهل المشاهد أو ضعف قدرته على التمييز أو بساطة أدواته المعرفية. فلاعب الشطرنج المبتدئ لا يعرف أن كاسباروف قد قام بحركته، في سبيل الانتصار في المعركة كلها، كما أن عالم الفضاء قد خصّص أبحاثه لدراسة نقطة دقيقة وصغيرة جداً في الكون الرحب المتسع، ولا يمكنه أن يخرج من دراستها بنتائج مطلقة أو عامة.
ويلخّص سبيك النتائج التي توصل إليها وايكسترا، بقوله "يقاوم المؤمن الشاك استنتاج رو مبدئياً، لأنه شاك في حقيقة وجوه الخير، أي إنه شاك حول ادعاء أنه يجب أن يكون لدينا بعض الثقة في قدراتنا الإنسانية، على التوصل إلى مدخل معرفي إلى أنواع المبررات الموجودة لدى الله".
مشكلة الاحتجاب الإلهي
بعد مناقشة النظريات المنطقية والبرهانية المتعلقة بمسألة الشر، فإن سبيك يتناول أحد المشكلات المتفرعة عن تلك المسألة، ألا وهي مشكلة الاحتجاب الإلهي.
يقصد الباحث بذلك المصطلح أن البشر عاجزون عن تمييز وجود الله، أو تأكيده بما يتوفر لهم من حواس ومعارف وإمكانيات مادية، وهو الأمر الذي جعل من قضية وجود الله قضية جدلية لا يمكن إثباتها بشكل حاسم أو قاطع.
ويرى المؤلف أن مسألة الاحتجاب الإلهي، هي أحد أهم المسائل المرتبطة بالشرور، حيث اعتقد الكثير من الفلاسفة المعاصرين، أن عدم ظهور الله للبشر هو منشأ كل الشرور التي انتشرت في العالم.
وكعادته، يبدأ سبيك في شرح إحدى النظريات الداعمة لذلك التوجه، ثم يعمل بعدها على تفنيدها ونقدها. وهو يرى أن نظرية ج. ل. شيلينبرغ، التي تم طرحها في بحث بعنوان "الاحتجاب الإلهي والعقل البشري" المنشور في عام 1993، كانت بمثابة المنبع الرئيس للكثير من البحوث الخاصة بالإلحاد، والتي لطالما ربطت ما بين الاحتجاب الإلهي والشر.
يبني شيلينبرغ نظريته على الفرضيات الآتية، أن الله لو كان موجوداً حقاً، فسوف يكون كلّي المعرفة وكلّي القدرة وكلّي الخيرية، وأنه سوف يحب أن يؤمن به جميع البشر وذلك لأنه يحب الخير لهم، وبالتأكيد فإنه يمتلك المقدرة على توصيل رسالة معرفته والإيمان به إلى جميع الأفراد.
على الجهة الأخرى، فإن هناك من الناس من يحب أن يؤمن بالله، ولكن لم تتوفر له الأسباب الكافية التي تقنعه عقلاً بوجود الله. هنا يطرح شيلينبرغ سؤاله الرئيس: لماذا لم يُمكّن الله هؤلاء المحبين له، والمتشوقين لمعرفته، إلى البراهين والإثباتات التي تطلبها عقولهم المرتبكة، حتى تطمئن قلوبهم فيدخلوا في حظيرة الإيمان؟
يرد شيلينبرغ على هذا التساؤل بقوله إن ذلك يعني أن الله ليس بكلّي القدرة أو أنه ليس بكلّي الخيرية، ومن ثم فإنه لا يصلح لأن يكون إلهاً، وبالتالي فلا يوجد إله لهذا الكون.
يرى سبيك أن تلك الحجة من أقوى الحجج التي وجهها العقل الإلحادي ضد التديّن عبر التاريخ، وأن العديد من النظريات المتفاوتة في القوة قد تفرعت عنها.
وفي معرض رد سبيك على نظرية شيلينبرغ، يورد بعض الآراء والردود المشهورة التي صيغت لنقد تلك النظرية، وكلها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة "وجوه الخير"، حيث يرى الكثير من المؤمنين بالله أن انعدام وجود إيمان معقول بالله، من شأنه أن يُبعد العلاقة ما بين الله والبشر عن شكل الخضوع القسري أو الإجبار، وأن يُتيح خيارات واسعة أمام البشر، ويطلق العنان لإرادتهم الحرة، وهو الأمر الذي يميّز الجنس البشري عن باقي الكائنات الحية.
مشروع الثيوديسيا
إذا كان دانييل سبيك قد تطرق في جميع المباحث السابقة من كتابه إلى النظريات الإلحادية المهاجمة للإيمان، فإنه بعد ذلك يبدأ في تبيان الكيفية التي استخدمت بها مشكلة الشر، في شن هجوم حاد على المعسكر غير المؤمن.
وهو يشير إلى أن غوتفريد فيلهم لايبنتز كان من السباقين في ذلك التوجّه، من خلال سكّه لمصطلح الثيوديسيا -والذي يعني أن الله عادل-حيث عرض في بدايات القرن الثامن عشر في كتابه المعنون بـ"حول خيرية الله وحرية الإنسان وأصل الشر"، لنظريته التي يحاول فيها أن يثبت أن الله عادل لكونه قد سمح للشر بالتواجد في العالم، وهو الأمر الذي عرضه لانتقادات لاذعة من جانب بعض كبار فلاسفة ومفكري عصره، مثل فولتير الذي انتقده في كتابه "قصيدة حول كارثة لشبونة".
ويحاول سبيك أن يبيّن معنى الثيوديسيا في قوله: "الثيوديسيا فيما يتعلق بالطرح النظري للمشروع، إنما تتجاوز كونها دفاعاً، فالدفاع له هدف محدود، يتمثل في مجرد بيان أن حجة خاصة مستمدة من وجود الشر لدعم الإلحاد لم يكتب لها التوفيق بشكل حاسم، فهي تسعى إلى إظهار الأسباب الكافية من الناحية الأخلاقية عند الله لسماحه بوقوع الشر والتي قد تكون جيدة للغاية".
ويستند أصحاب التوجّه الثيودوسي في نظرياتهم إلى نقطتين رئيستين هما: ادعاء القيمة وادعاء الاستحالة. فهم يرون أن وجود الشر في العالم قد أعطى قيمة ومعنى للخير، كما أنهم في الوقت ذاته يؤكدون على استحالة أن يتواجد الخير وحده في العالم، ذلك أنه يستلزم وجود كل من الخير والشر معاً جنباً إلى جنب.
ويذكر سبيك أن المعاناة والألم يكونان، في الكثير من الأحيان، هما الدافع الرئيس لمواصلة التطور البشري وما ينتج عنه من أمور خيّرة كثيرة. فمثلاً مظاهر الشر مثل الجوع وآلام المرض والشيخوخة، هي في حقيقة الأمر بمثابة محفّزات طبيعية للبحث عن الطعام أو زراعة واستصلاح الأرض واختراع الأدوية والقيام بمشاريع كبرى تتطلب العمل الجماعي والتعاون، وهي كلها أمور خيّرة بامتياز.
خلاصة
من المؤكد أن المؤلف قد استطاع، من خلال كتابه المهم، أن يستعرض عدداً من الإشكاليات القوية المرتبطة بمسألة مشكلة الشر، ولكن منهجه الحيادي وخلفيته الفلسفية، جعلاه في الكثير من الأحيان، يستوفي مناقشة حجج الملحدين، في الوقت الذي أجمل فيه ردود المؤمنين الذين ردوا عليهم.
وفي الوقت ذاته، يجب أن نلاحظ أن خلفية دانيال سبيك اللاهوتية المسيحية، قد جعلته يتجاوز – من دون قصد-الاستعانة بنظريات وأطروحات علماء الدين المسلمين، الذين قدموا ردوداً قوية على إشكالية وجود الشر في العالم وتعارضه مع العدالة الإلهية، عبر التاريخ الإسلامي.
فإذا ما رجعنا إلى التراث الفكري في الإسلام، لوجدنا أن الكثير من العلماء المسلمين، ولا سيما الأصوليون منهم، قد أثبتوا في كتبهم ومؤلفاتهم عدالة الله من خلال دراستهم لعلم التوحيد والأسماء والصفات، والتي بيّنوا من خلالها أن الله عزّ وجلّ دائماً ما يفعل ما هو فيه الخير والصلاح لعباده، حتى لو تعارض ذلك -ظاهرياً-مع ما يبدو وكأنه الأصلح لهم.
مفهوم الثيوديسيا، الذي أشار إليه المؤلف في الفصل الأخير من كتابه، وإن كان مصطلحاً غربياً، إلا أنه ظهر بأشكال أخرى أكثر عمقاً وفعالية في التراث الشيعي والمعتزلي في الإسلام، وانتشر كثيراً في كتابات الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمين، الذين قرروا أنه لا تعارض البتة ما بين عدالة الله ووجود الشر في العالم. وتشهد على ذلك الكثير من المناظرات العلمية والفقهية التي تمت في ذلك السياق، والتي حاولت أن توفق ما بين العدالة الإلهية من جهة والحرية الإنسانية من جهة أخرى، وربما كانت نظرية الكسب الأشعرية هي واحدة من تلك النظريات الإسلامية التي عملت على الربط ما بين القيمتين.
وبوسعنا أن نؤكد على أن الفكرة الإسلامية الأصيلة، والتي ترى أن الهدف الرئيس من وجود الإنسان على الأرض، تتمثل في استخلافه عليها وتعميرها، قد حررت الإنسان من القيود التي فرضتها عليه نظرية الخطيئة الأولى، التي تعتبر أحد الاعتقادات المركزية في الدين المسيحي، والأفكار الفلسفية الغربية التي تأثرت به فيما بعد. ومن هنا فإنه لا يوجد تعارض في الإسلام ما بين الحرية والعدالة الإلهية، وما الشر الموجود في العالم إلا تحديات وابتلاءات وُضعت أمام البشر لاختبار مواقفهم وإظهار معادنهم، لتبيان درجة إيمانهم وحقيقة تحمّلهم للمشاق المفروضة عليهم في سبيل الوصول لى النعيم الأخروي، بحسب المفهوم الإسلامي.