رواية "طُبعَ في بيروت": حكاية الوهم والسلطة

"طبع في بيروت" رواية ارتهان الواقع للمذهب والسلطة والمادة والآخر... رواية انتقاد للجميع، للأحزاب والمذاهب والطبقة الحاكمة والمحكومة، للرأسماليين.. كاتبها رافض ولكنه غير آبه أو مصدق بتغيير ما منشود.

رواية "طُبع في بيروت" لجبّور الدويهي

قراءة: وداد طه* 

هل كان جبور دويهي يعي أنّه يضعنا أمام الحقيقة الفجّة من دون أدنى شعور منه بالحرج أو محاولة لمداراة شعورنا وحاجتنا الجمعيّة بأن نكون مثاليّين بشكل أو بآخر وإن كذباً أو تخفّياً وراء إصبع نختبئ خلفه.

بدم بارد وكثير من إشعار القارئ بأن لا علاقة له من أي شكل بما يكتب، هو فقط ينقله ومن دون مواربة أو تجميل أو حتى رغبة في الإصلاح، كأن لا قضيّة يحملها قلمه أكثر من رسم الواقع، ليترك المتلقّي فريسة لأفكاره عن رواية طبعت بين دفّتيها تاريخ وطن وقضية الإنسان فيه.

"في طبع في بيروت" الصّادرة عن دار السّاقي أخيراً (2017)، وبعد 222 صفحة، متخمة بالتاريخ والحاضر والناس واستعراض لثقافة كبيرة في شتّى ميادين الفنون كالأدب والموسيقى واللغة والرّسم والنّحت، نقف أمام سؤال سيزفيّ الطّابع، هل كان جبور الدّويهي يعي تماماً في سرده أنّه يضرب عميقاً في الذّات اللبنانيّة – إن صح لنا أن نصف السّاكن في لبنان بهذا الوصف سواء أكان مواطناً أم غريباً- ؟

أقول هل كان يعي أنّه في سرده المتنقّل عبر الأزمنة المتعاقبة للبنان وما شهدته من احتلالات وحروب وتغيّرات مجتمعيّة، ترك الشيء الوحيد قد ترك الانتصار للأدهى، وأنّه بذلك يشرع باب احتمالات استمراره ويتقصّد أنّه يعود في كلّ مرة بقوة أكثر شراسة لأنه دوماً يجد حلفاء له في الخارج، حلفاء يتواطأون إما غباء أو مصلحة. لكنّهم جميعاً متوافقون على عدم تغيير شيء، غير مكترثين إلا لليوميّ الذي يشكّل أولويات كلّ منهم. فلا يعنيهم من الواقع غير الحاصل، وهم غير مرتهنين به أو له، أو هكذا بدوا لي من خلال استعراض شخصيّات الرّواية، والتي تداخلت عوالمها في دواة مطبعة آل كرم قبل أن يجفّ حبرها الأسود ويبقى صبغة الواقع الأعم، وواقعهم الخاص...واقع نتأكد في المحصّلة أنّه ليس تماماً كما يبدو.

ينتقل فريد أبو شعر خريج اللغة العربيّة البائس الحظّ والفقير الحال، إلى بيروت سعياً منه لنشر كتابه " الكتاب" والذي لم ترضَ أي دار نشر أن تنشره، ولم يفهم منه أحد ممن قرأه شيئاً لا ندري إن كان يقصد بتسمية كتاب البطل الغريب الأطوار والحالم والذي توضح أحداث الرّواية أنّه لا يمت إلى عائلته العريقة في عالم الأدب والشعر بأي صلة، إنما هو من الجلب، تتركه أمّه وتموت بعد مجاعة في الجبل، وتربّيه عائلة أبو شعر مع أبنائها فينشأ واحداً منهم، ويعرف تلك الحقيقة يوماً ولكنه يتواطأ مع الواقع ويمضي في حياته. أقول لا نعرف إن كان مقصد الكاتب التلويح إلى الكتب المقدسة أو بالأخص القرآن فهو الكتاب وما يتضمّنه من كلام لا يفهم أو نصّ غير معروف الهوية الأدبية حتى من قبل صاحبه، أعني فريد أبو شعر. ولكن ندرك في سيرنا مع الأحداث المرسومة بدقّة متناهية تثير الإعجاب بقدرة صاحبها على نسج حبكة بكثير من الصبر والحنكة، وجعل عوالمها تتداخل من دون تضارب أو عشوائية أو فبركة نشعرها أحياناً عند آخرين في عالم الرّواية، ندرك أنّ جبور الدّويهي يشير إلى كل شيء في مجتمعه، إلى أدق تفاصيل أرهقت هذا البلد على مرّ العصور وشكّلت هويته وصبغت حيوات أبنائه وانتهت إلى يومنا عصيّة على التغيير، تسري فينا مسرى الشّيطان فينا..وفي التّفاصيل.

   تسوق فريد أبو شعر قدماه إلى مطبعة "آل كرم". يفشل في نشر كتابه، لكنه يحظى بوظيفة مصّحح لغة عربية في المطبعة. فنتعرف من خلاله إلى الوالد المؤسّس فؤاد كرم، وابنه عبدالله وزوجته الجميلة بيرسيفون، وعبد الحميد الحلواني شريكه في سرقة المطبعة من الآباء اليسوعيين وادعاء نقلها إلى الشام إبان انتهاء الحكم العثماني، والمخلص الكتوم الذي لم يبح يوماً بذلك السّر الدّفين، وإلى آخرين من عمال المطبعة الذين تزدحم بهم الصّفحات ويرسمون بوجودهم عالماً طبيعيّاً فلا نشعر أنّ كثرتهم تثقل إنما هي ضرورة. حتى والدة فريد التي تحبّه وتفتديه، وأخواه اللذان يحبّان النّساء ويتبارزان من منهما أكثر دراية في عالم النّساء والحب، والكلب غوغول، والحارس الليلي العراقي والحارس الأسبق اللبناني، ونوبار صديق بيرسيفون المثلي، والخادمة، ولونا بائعة الهوى، وأيوب صديقه وصاحب الملهى الليلي الذي تعرف فيه إلى لونا وإلى رجولته معاً، وحسين صادق المموّل لعملية التزوير، والذي يختفي وتختفي مؤسّساته من الصورة تلقائياً ونهائيّاً بعد المداهمات والتحقيقات.

  تسير الأحداث بسلاسة بعد أن يعرّفنا الدّويهي شيئاً فشيئاً إلى أبطاله ويرسم عوالمهم وأوصافهم واحداً تلو الآخر، فنرى فريد يهتم بعمله ويقوم به على أتمّ وجه، ويتزامن إعجابه بسيدة القصر أو بيرسو زوجة عبدالله كرم، مع توالي أحداث في حياتهما والمطبعة معاً. يتعرّض عبد الله لحادث انفجار سيارة مروّع يشوّه وجهه وحبّه لزوجته. يلمح الدويهي إلى مقتل الشهيد رفيق الحريري إذ يقول إن الحادث استهدف رئيس الوزراء، يبقى في غيبوبة يصحو بعدها ويتماثل للشفاء، لكنه يبتعد عن زوجته وعائلته، وينصب اهتمامه على العاهرات والملاهي والقمار، فتشعر الزوجة بكل ذلك وترمي بشعورها بالذنب بعيداً حين تتأكد من خياناته المتكرّرة لها، فتسمح لنفسها بالإعجاب بذلك المصّحح الغريب، وتسرق كتابه فيجنّ جنونه، ويسود عالمه، لكنّها تهديه نسخة غامضة منه، مطبوعة بورق جميل الملمس ومكتوب بخط اليد بعناية، إذ تطلب من عمر الخطّاط أن يخطّ لها منه نسخة واحدة، تتركها على مكتبه الذي بات يقصده ليلاً ليصحح أو لينتظرها...

   تتوالى الأيام ويبقى فريد منتظراً طيفها، إلى أن جاء يوم وداهم عناصر من مكافحة الجرائم الماليّة المطبعة. لم يجدوا شيئاً مريباً أو مفيداً لتحقيقاتهم، يتراجعون تاركين علامات تساؤل عند جميع العمال ينمحي ريبها حين يعرف الجميع أن مداهمات مثيلة حصلت في دور نشر ومطابع أخرى. لكنّ الأمر لا يتوقّف إذ يثير تساؤل فريد أبو شعر عن كتابه الأحمر المفقود في المديرية العامة شكوكاً حوله ما تلبث أن تترجم بالجرجرة إلى التحقيق والحبس في المداهمة التالية، بعد أن أصبح وحده تحت دائرة الضوء المسلّط على كون المطبعة تزوّر العملة الأوروبية المشتركة من فئة العشرين، وتُغرق بها بلاداً كثيرة. 

 

مطبعة آل كرم

وسط بيروت حيث المسجد والكنيسة متجاوران
لا شيء يعرف عندها، لكنّ مجيء المحقّق جوب فان دو كليرك، وضع سير التحقيق في خطّ أوصل إلى مصادرة كتاب فريد أبو شعر وحده من بين كلّ ما في المطبعة في المداهمة التالية. أخذ الكتاب واحتاج نقطتين لا أكثر من سائل بنفسجي كي يتأكد أنّه الورق المبحوث عنه لتأكيد عمليّات التزوير الحاصلة. في تلك الأثناء يتحقّق حلم فؤاد وتهبط إليه ربّة الجمال في صومعته، فيتوجّه إليها ويكون بينهما لقاء حميم، تقطعه بهروبها المفاجئ، وتتركه في قلب فؤاد علامة أقوى من كلّ شيء حتّى من محاولة تبرئة نفسه من تهمة التزوير كي لا يفشي سرّ ذلك اللقاء الجميل.

يعرف عبدالله بمغامرة زوجته مع المصحّح من خلال متابعة ما سجّلته الكاميرا، فيعود إلى سابق عهده في الرّغبة بها، ولكنّه لا يغفر بالطبّع لصاحب الحاجبين المعقوصين، فيتركه في زنزانته وتلتصق به تهمة التّزوير ويحبس ثلاث سنوات.

 نعرف أنّ المطبعة وكل ما يملكه آل كرم من ممتلكات يتعرّض لحريق هائل، يمحو آثار كلّ ما حصل في زواريبها المعتمة على مرّ تاريخها، الذي امتد من عهد الأتراك إلى داعش اليوم، والذي طبعت فيه كل شيء: المجلات النسائية، الإعلانات على أنواعها، العهد القديم، صحاح اللغة، كتب الصّحابة، والكتب التي ترد عليها في الجهة المقابلة، منشورات أرباب الحرب والميليشيات، بل وحتى منشورات للملحدين أو لداعيي أديان جديدة. لكنّنا نعي في نهاية المطاف أنّ آل كرم يعرفون تماماً أنّ لا شيء من مكتسباتهم التي حصّلوها على مرّ الأيام يذهب عباء، ليس لأنّ الجميع متورطون معهم، أو لأنّ لهم واسطة أينما حلّوا. 

في المشهد الأخير نرى فؤاد وقد خرج من السّجن وقصد ملهى لوس لاتينوس وجلس يروي على مسامع لونا بعض ما كتبه. لونا الأجنبيّة والتي يبدو أنّها الوحيدة التي تفهم ما ينبعث من فم فؤاد وما خطّه في "الكتاب".

 

توثيق تاريخ لبنان

منطقة عين المريسة في بيروت
"طبع في بيروت" تُوثّق تاريخ لبنان العريق بلد الأبجديّة، بسخرية متخفية وحارقة من واقعه الحزبي والطائفي وللعقلية المذهبيّة المتحكمة فيه وللأديان وساداتها شيوخاً أو رهباناً، لانفلات إرادة الخير والعطش للمادة من أقرب طريق ممكن، لأوهام المجد المتداعي، والفساد المتبقي مهما اختلفت وجوهه وأشكاله ومناصروه وفاعلوه، لبقاء السّلطة في يد مجهول ما يتحكم بسير التاريخ والمصير. فمطبعة آل كرم التي حوت مسلمين أكثر من المسيحيين، نموذج للتركيبة اللبنانية المعقدة الغريبة والتي يجب أن تترك كما هي كي تبقى وإلا احترقت وأحرقت في طريقها الماضي والحاضر، لا رغبة في التطهير إنّما إمعاناً في الحاصل وتكريساً مقصوداً له.

إنها رواية تحكي قصة واقع لبنان بين سنداني الوهم والسلطة؛ فيما مثقفوه القادرون على التغيير حالمون بالحب، واهمون، كاذبون في ما يخص حقيقة ذواتهم وإمكاناتهم لناحية الكتابة، سياسيوه لاهثون وراء المال، ونموذج السلطة غير المعروفة الهوية أو الوجهة السياسيّة خير إشارة إلى تلك السخرية المرّة من أنّ لبنان حالة طبعت على صفحة التاريخ بأيدٍ كثيرة لوثها حبر الدّماء والمصالح المادية لا حبر أصداف الموريكس. 



*روائية فلسطينية.

الرواية: "طبع في بيروت"

تأليف: جبور دويهي

الناشر: دار الساقي – بيروت – 2017.