ما هي المواطنة وأسسها؟
لماذا أصبحت كلمتا المواطن والمواطنة من أكثر الكلمات انتشارًا في السنوات العشر الأخيرة؟ وما المواطنة التي نريدها، هل تنظم أنماط السلوك الاجتماعية المشتركة في ظل النزعة الفردية في الحقوق؟ ولماذا يكون المجتمع المؤسس على المواطنة هشًا، وغير قادر على القيام بوظيفته إلا بعد خلق مساحة عامة تعظّم من المجتمع الحقيقي في الواقع على الأرض؟
مراجعة: د.محمد عبدالرحمن عريف
في هذا الكتاب جمع المؤلفان ما دار في ذهن الكثير لبضع سنوات خلت، حيث عاود مصطلح "مواطن" الظهور بشكل فيه الكثير من الإصرار، في البلدان التى تتبع سياسة ديمقراطية، وهو مصطلح سبق للثورة الفرنسية إبداء حماس كبير لاستخدامه. فالمواطنة بالفرنسية (Citoyenneté) تعني الفرد الذي يتمتع بعضوية بلد ما، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات. وفي معناها السياسي، تُشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها، والالتزامات التي تفرضها عليه، أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه.
الكتاب بدأ باعتبار المواطنة يوتوبيا خلاقة تحاول جاهدة تجاوز الإثنية والعرفية وهي بهذا ترمي عن طريق القانون حل الخلافات القائمة بين المجموعات الاجتماعية التي تتعارض مصالحها، وهي رغم ذلك تستدعي مفهوم اللغة والتاريخ المشتركين، ولا يمكنها أن تكون عقلانية خالصة تحاول جاهدة الحفاظ على تنظيم سياسي مؤسس على الحق وفكرة الحرية والمساواة.
المواطنة هي أيضًا السياسية الشرعية فالمواطن لا يعد فقط فردًا في دولة القانون، بل يتمتع بجزء من السيادة السياسية. نحن إذًا أمام ظاهرة مركبة محورها الفرد، من حيث هو عضو مشارك في الجماعة الوطنية، وفي الدولة التي هي دولتها. وهذا الفرد وهو بهذه الصفة خاضع لنظام محدد من الحقوق والواجبات. وبعبارة أخرى: الوطنية والمواطنة وجهان متباينان من وجوه الارتباط بالجماعة الوطنية، ووجودها السياسي. وفي الحقيقة حينما نتحدث عن المواطنة، كنظام حقوق وواجبات، فإننا نعني، في الوقت ذاته، حقوق المواطن وواجباته في الدولة، وواجباتها للمواطنين، فحقوق المواطنين هي واجبات على الدولة، وحقوق الدولة هي واجبات على المواطنين.
لقد حدد مارشال المواطنة بوصفها المكانة التي تيسّر الحصول على الحقوق والقوى المرتبطة بها. وفي محاولة توضيح هذه الحقوق يرى أنها تتشكل من الحقوق المدنية، التي تضم حرية التعبير والمساواة أمام القانون، والحقوق السياسية، التي تشمل: الحق في التصويت، الحق في الانضمام إلى أي تنظيمات سياسية مشروعة، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، التي تحتوي على الرفاهية الاقتصادية والأمان الاجتماعي.
الواقع أن المواطنة تحمل معنى قانونياً، والمواطن يحظى بالعديد من الحريات الفردية مثل حرية الاعتقاد وحرية التعبير، وحرية التنقل والتزوج. وللمواطن أيضًا حقوق سياسية عدة، منها المشاركة في الحياة السياسية، وعند تقديمه للعدالة يجب أن يكون له محامٍ للدفاع عنه وأن تُعامله العدالة طبقًا لقانون يتساوى أمامه الجميع، ويشغل جميع الوظائف العامة.
في مقابل ذلك يجب على المواطن احترام القوانين والمساهمة في النفقات الجماعية وفقًا لموارده والدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه إذا تهددته الأخطار، والمواطنة هي أيضًا الشرعية السياسية. فالمواطن، لا يعد فردًا في دولة القانون، بل إنه يتمتع بجزء من السيادة السياسية.
المواطنة الحديثة ليست نموذجًا مثاليًا يحتذى به إلى الأبد وإنما تاريخ، فمواطن 1789 ليس كمواطن 1848 كما أنه ليس كمواطن عام 2000. والملاحظ أن ممارسات المواطنة تأخذ اليوم أشكالًا ملموسة تختلف بإختلاف البلدان الديمقراطية، فالسؤال على مدار الكتاب هو: هل توجد مبادئ أساسية وسمات مشتركة بين كل المجتمعات المقامة على مبدأ المواطنة؟ .
تضمن الكتاب تساؤلات عديدة، من بينها: لماذا أصبحت كلمتا المواطن والمواطنة من أكثر الكلمات انتشارًا في السنوات العشر الأخيرة؟ وما المواطنة التي نريدها، هل تنظم أنماط السلوك الاجتماعية المشتركة في ظل النزعة الفردية في الحقوق؟ ولماذا يكون المجتمع المؤسس على المواطنة هشًا، وغير قادر على القيام بوظيفته إلا بعد خلق مساحة عامة تعظّم من المجتمع الحقيقي في الواقع على الأرض؟.
على الرغم من المناقشة النقدية لمشكلات مفهوم المواطنة بمجملها، وملابسات تطبيقاته المتعددة في المراحل التاريخية المختلفة، أو حتى في مصادر نشوئه، أو مآلاته المعاصرة في البلاد الأوروبية، إلا أنه وقع في المنطق ذاته الذي نقد فيه المفهومات المتعلقة به، فقد تحول معه النقد إلى مناقشة فلسفية أكثر من كونه قضية عملية متجلية في واقعنا السياسي والاجتماعي، أي إن المفهوم تحوّل إلى قضية مجردة. وهنا الأمر الآخر الجدير بالنظر هو أن هذا النقاش يبدو وكأنه محاولة تفكيكية لمفهوم المواطنة، وارتباطاته الفكرية والسياسية والاجتماعية، من خلال نقد المفهوم التقليدي، أو حتى شكل المواطنة التي تعيشها الآن أوروبا أو الدول الديمقراطية، وإذا اعتبرنا ذلك فيه جانب الصواب نقديًا، لكن يبقى التعليق، أنه لم يطرح البديل المناسب من التغيرات المعاصرة في الحياة الإنسانية التي يعاني الجميع من تشابكها وايضًا الإزدواجية في التقييم.
وُجه كثير من النقد لتجربة المواطنة التقليدية في الولايات المتحدة الأميركية من خلال الليبراليين، وفرنسا من خلال الجمهوريين، مع أنهما تجربتان قامتا على الجمع بين المساواة المدنية والسياسية للمواطنين مع احترام الارتباطات والانتماءات التاريخية أو الدينية، وضمان وحدة المجتمع بالمواطنة المشتركة، وحرية الأفراد في اختياراتهم الوجودية.
لكن تجربة المواطنة التقليدية أو ما يسمى بمصطلح (الجماعاتية) تثير عددًا من المخاطر، أولها تناقضها مع حرية الأفراد وحقوقهم، فما يفرض أن يحصر هؤلاء الأفراد وينسبهم إلى مجموعة هو حريتهم الشخصية، وما يملكون من إمكانات تواصل مع الآخرين، لأن المجتمع الحديث ليس مجموعات منفصلة، بل هو أفراد لهم أدوار مختلفة. ويأتي خطر ما يسمى بالاندماج الاجتماعي، فهو خطر تكريس الذاتية، والمصالح الخاصة على حساب المواطنين، والنتيجة تكون إعادة الأفراد إلى كنف جماعتهم الأصلية بدلًا من تزويدهم بوسائل تساعدهم في تجاوزها، وتحقيق صلات صحيحة مع الآخرين. وفي هذا السياق طرح الكتاب الأسئلة المتعلقة بقضايا حقوق المهاجرين الثقافية، والسياسية، والمدنية في البلدان الأوروبية.
في محاور نقد المواطنة الكلاسيكية، استدعى الكتاب منظور (يورغن هابرماس) حول (المواطنة الجديدة)، القائم على الوطنية الدستورية صورة لتجاوز الوطنية القومية، وهذا يمكّننا من تجاوز مبدأ الهوية القومية –بأبعادها الثقافية والتاريخية كلها– إلى الإحساس الوطني على مبدأ القانون أو ما يسميها دولة القانون، ومبادئ حقوق الإنسان.
لكن تصور هابرماس يثير عددًا من الأسئلة، منها: هل يمكن دمج البشر بواسطة أفكار تحظى بالاحترام وبهذه الدرجة من التجريد (دولة القانون والوطنية الدستورية)؟ وهل يمكن في المستقبل القريب أن نتصور سياسة لا تنبع من مجمل القيم والتقاليد والمؤسسات النوعية التي تعرف الأمة السياسية؟ ألا نخاطر هنا بجعل المجتمعات الديمقراطية التي أصبحت شيئًا فشيئًا أقل اتسامًا بالسياسة أكثر هشاشة؟.
قد لا نستطيع أن نطبق مفهوم المواطنة في مجتمعاتنا التي ما زالت ولاءتها متبلورة حول العرق والجنس والقومية والدين، مبتعدين كل البعد عن مفهوم المواطنة والتي تنطوي تحت مفهوم الانتماء للدولة وليس لشيء آخر. من هنا نستنتج بأن روح الديمقراطية هي المواطنة، فلذلك قبل أن نتكلم عن الديمقراطية يجب أن نعي حقيقة المواطنة التي هي القلب النابض لمفهوم الديمقراطية. من هنا ضرورة التطرق إلى حقوق وواجبات المواطن في الدولة التي ينتمي إليها.
فما هي الحقوق الأساسية لمفهوم المواطنة في دولة ديمقراطية؟
يترتب على المواطنة الديمقراطية ثلاثة أنواع رئيسية من الحقوق والحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين في الدولة دونما تمييز من أي نوع ولا سيما التمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو أي وضع آخر.
في المجتمعات الشرقية وفي ظل أنظمة حكم عسكرية ودكتاتورية، قد ترقى إلى الفاشية، قد لا نجد الحقوق المدنية، بل نجد ما يعارضها في أبشع صورها. فأين الحقوق التي تتمثل في حق المواطن في الحياة وعدم إخضاعه للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إانسانية أو الحط من كرامة الإنسان وعدم إجراء أية تجربة طبية أو علمية على أي مواطن دون رضاه؟، وعدم استرقاق أحد والاعتراف بحرية كل مواطن طالما لا تخالف القوانين ولا تتعارض مع حرية الآخرين؟
وأين حق كل مواطن في الأمان على شخصه وعدم اعتقاله أو توقيفه تعسفيًا؟، أين حق كل مواطن في الملكية الخاصة؟ وحقه في حرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته داخل حدود الدولة ومغادرتها والعودة إليها وحق كل مواطن في المساواة أمام القانون؟ وحقه في أن يعترف له بالشخصية القانونية وعدم التدخل في خصوصية المواطن او في شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاتهـ ولا بأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته وحق كل مواطن في حماية القانون له؟ وحقه في حرية الفكروالوجدان والدين واعتناق الآراء وحرية التعبير وفق النظام والقانون وحق كل طفل في اكتساب جنسيته؟.
أين حقوق المواطنة التي تأتي بحق الانتخاب للسلطة التشريعية والسلطات المحلية والبلديات وحق الترشيح؟ وأين حق كل مواطن بالعضوية في الأحزاب وتنظيم حركات وجمعيات ومحاولة التأثير على القرار السياسي وشكل اتخاذه من خلال الحصول على المعلومات ضمن القانون، والحق في تقلد الوظائف العامة في الدولة والحق في التجمع السلمي؟ وأين الحقوق الاقتصادية التي تأتي أساسًا بحق كل مواطن في العمل والحق في العمل في ظروف منصفة والحرية النقابية من حيث النقابات والانضمام إليها والحق في الإضراب؟ وأين الحقوق الاجتماعية لكل مواطن بحد أدنى من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وتوفير الحمايةالاجتماعية والحق في الرعاية الصحية والحق في الغداء الكافي والحق في التأمين الاجتماعي، والحق في المسكن والحق في المساعدة والحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة والحق في الخدمات الكافية لكل مواطن؟ وأين الحقوق الثقافية لكل مواطن بالتعليم والثقافة؟.
أما الواجبات التي تقع على عاتق المواطن فهي واجب دفع الضرائب للدولة، واجب إطاعة القوانين، وواجب الدفاع عن الدولة، حيث تعتبر الواجبات المترتبة على المواطن نتيجة منطقية وأمرًا مقبولاً في ظل نظام ديمقراطي حقيقي يوفر الحقوق والحريات للمواطن وبشكل متساوٍ ومن دون تميز. هنا تتجلى أهمية التربية على المواطنة، في كونها ترسّخ الهوية الحضارية بمختلف روافدها في وجدان المواطن، كما ترسخ حب المواطن والتمسك بمقدساته وتعزيز الرغبة في خدمته وفي تقوية قيم التسامح والتطوع والتعاون والتكافل الاجتماعي التي تشكل الدعامة الأساسية للنهوض بالمشروع التنموي للمجتمع المحلي أولًا ثم محيطه العالمي ثانيًا.
ولعل من المفيد التذكير بأن ممارسة المواطنة ليست مرهونة بالرشد القانوني الذي يخوّل المشاركة في الحياة السياسية، وخاصة العمليات الانتخابية. بل إن لكل مرحلة، بدءًا من السنوات الأولى للطفل، أشكالاً وصيغاً لشكل الممارسة من قبيل التحسيس ووضع تصورات عملية حول سلوكات يومية متناسبة مع كل فئة عمرية، ما من شانه أن يحدث مع مرور الزمن وتضافر جهود أطراف أخرى، ذلك التراكم الذي يغرس قيم المواطنة في تضافر الفكر والوجدان ويجعل بلورتها وتفعيلها أمرًا طبيعيًا ودائمًا.
إن مصطلح "المواطن الفعال" وهو الشخص الذي يشارك في رفع المستوى المجتمعيّ الحضاريّ من خلال العمل الرسمي أو التطوعي الذي ينتمي إليه. ونظراً لأهمية المواطنة تعرّف العديد من الدول المواطن الفعال وتبرز حقوقه التي يجب أن يمتلكها كل مواطن، بالإضافة إلى المسؤوليات المطلوبة من كل مواطن تجاه مجتمعه.
المواطنة في القانون
يدل مصطلح المواطنة في القانون على وجود علاقة بين الفرد والدولة. فبموجب القانون الدولي تعتبر المواطنة المصطلح المرادف لمصطلح الجنسيّة، بالرغم من أنه قد تكون لكل مصطلح منهما معانٍ مختلفة بموجب القانون الوطني، ولكن الفرد الذي لا يمتلك المواطنة في أي دولة ما لا يمتلك جنسيّة. العوامل التي تحدد المواطنة حق التراب أي الولادة بالوطن، وحق الدّم وهي جنسيّة الوالدين، بالرغم من أنّه كان محصوراً بجنسيّة الوالد سابقاً في بعض الدول العربية إلا أنه تغيّر الحال في بعض الدول. وكذلك المواطنة بالزواج، حيث تعاني بعض الدول من الهجرة فتكافح أي حالة زواج بغرض الحصول على الجنسيّة فقط. والمواطنة بالتجنيس، حيث تُعطى الجنسيّة للأفراد الذين يدخلون الدولة بصفة قانونيّة، سواءً بإذن إقامة أم بلجوء سياسي، ولكن بعد تحقق شروط التجنيس مثل المدة القانونية بالإقامة وغيرها.
*د. محمد عبدالرحمن عريف كاتب وباحث مصري.