حادث الفجيرة، المقدّمات والنتائج
عالمياً، عنت 1990 سقوط نظام عالمي وبدء نظام عالمي جديد. محوراه الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفياتي يومها)، غير أن نقطة الارتكاز الحاسِمة فيه بالنسبة للمحورين ولسائر العالم هي منطقة الشرق الأوسط وتحديداً العالم العربي، وتحديداً أكثر دول الطوق المحيط بإسرائيل. ودول الخليج النفطية.
ثمة مقولة لأحد حَمَلَة جائزة نوبل بأن المقدّمات نفسها لا تؤدّي بالضرورة إلى النتائج نفسها، ولكن "بالضرورة". ذاك أن الطريق الذي تسير فيه الأحداث والمعطيات قد لا يتشابه وبالتأكيد لا يتطابق.
نظرة دقيقة إلى الأجواء التي تعمّ المنطقة الشرق أوسطية هذه الأيام، وبالتحديد حول إيران تُعيدنا إلى أجواء العام 1990، حول العراق. ذلك في ما يتعلق بالخطوط الستراتيجية العريضة حتى وإن اختلفت التفاصيل. غير أن هذا الاختلاف في التفاصيل هو الذي يشكّل الـ"لكن" التي قد تغيّر معادلات المنطق في الخطاب وفي الواقع.
عالمياً، عنت 1990 سقوط نظام عالمي وبدء نظام عالمي جديد. محوراه الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفياتي يومها)، غير أن نقطة الارتكاز الحاسِمة فيه بالنسبة للمحورين ولسائر العالم هي منطقة الشرق الأوسط وتحديداً العالم العربي، وتحديداً أكثر دول الطوق المحيط بإسرائيل. ودول الخليج النفطية.
إقليمياً، العراق خرج منتصراً من حرب ابتكرتها الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب الأوروبي وغذّتها على امتداد ثماني سنوات تطبيقاً لنظرية الاحتواء المزدوج، التي أعلنتها صراحة إزاء الدولتين الصاعدتين الأقوى في المنطقة يومها. واللتان يجمعهما عداءهما سرائيل وثروتهما النفطية. وأصبح من الملّح تحجيم المنتصر قبل أن تطول أظافره. وذلك لتحقيق هدفين: منع قيام قوة حقيقية مناهضة لإسرائيل، وترسيخ النظام العالمي الجديد الذي لا يستقر فيه عرش الامبراطورية الجديدة إلاّ بالهيمنة على الشرق الأوسط. هيمنة تضمّنت نوعين من الاحتلال: واحد بالرضى والخضوع وآخر بالتدمير.
الأول تجلّى بالاحتلال الكامل، للخليج العربي. منذ أن بدأت السفن الأميركية بالانتشار فيه إثر سقوط صواريخ على الكويت خلال حرب الثماني سنوات، إلى الإنزال الأميركي في السعودية قبل حرب الـ90، الإنزال الذي اعترف شليسنغر في كتابه عن حرب الخليج بأنه تمّ قبل صدور موافقة الملك فهد عليه. إلى قاعدتي السيلية والعديد في قطر، ومروراً بعشرات القواعد الأميركية والأوروبية المنثورة في هذا الخليج، من دون أن ننسى انضمام تركيا الأطلسية مؤخراً إلى هذا السرب بنزولها على الشواطىء القطرية. ليكتمل عقد الأطلسي حول عنق العرب مستفيداً من قاسم مشترك هو صراعات داحس والغبراء.
والثاني تجلّى باحتلال العراق ومن ثم الانتقال إلى أسلوب التدمير الذاتي في ما سمّي الربيع العربي عندما ظهر أن الاحتلال المباشر مُكلِف ويثير مكامن المقاومة والرفض. خاصة بعد أن شكلت التجربة اللبنانية مختبراً طبّق فيه النوعين وظهرت نتائجهما واضحة.
في جلسة الموازنة العامة الأميركية لعام 1990 المنعقدة في كانون الثاني/يناير من العام نفسه، سأل عضو في الكونغرس: "هناك دول في الشرق الأوسط تسعى إلى امتلاك صواريخ باليستية، وربما نووية، فهل سنتركها تفعل؟ وإن لم تنصع دبلوماسياً فما هي خياراتنا للتدخّل عسكرياً؟" ورد عليه وزير الدفاع: بالطبع لن ندعها.[1] بعدها بشهرين صدرت مجلة فورين بوليسي وفيها مقال لرئيس الأركان الأميركي بعنوان: "الصراعات المنخفضة السرعة"، يتحدّث فيه عن ضرورة التدخل ويفصل آلياته ولوجستياته وميزانيته. [2]
كان من الواضح أن هذه الحرب لن تتمّ إلا انطلاقاً من الجزيرة العربية. وفعلاً انطلقت الأولى من السعودية والثانية من قطر. وقد شهدنا طوال هذه الفترة على حملة طويلة مدروسة لرسم بُعبُع مُخيف إسمه صدّام حسين أمام الدول الخليجية، ويكفي العودة إلى تصريحات المسؤولين الأميركيين والإعلام الغربي على مدى ثلاثة عشر عاماً لتذكّر ما تنساه الذاكرة العربية المصابة بالفقدان. وللانتباه إلى أن الرجل لم يكن إيرانياً ولا شيعياً.
سؤال عضو الكونغرس الأميركي عن الصواريخ البالستية التي يملكها العراق، عام 1990، لا يخرج عن دائرة الصراع الدائر اليوم حول صواريخ إيران وصواريخ حزب الله، ولا عن الصراع السوري الإسرائيلي في التعامل مع الإدارة الروسية منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الاسد للحصول على صواريخ متطوّرة من اسكندر وياخونت إلى أس 300. فحقيقة السباق التسلّحي في المنطقة هي الصواريخ وليس النووي رغم كل ما يُثار من غبار. وإلا فلماذا يُلغى الاتفاق الذي قبلت فيه إيران بوقف برنامجها النووي العسكري؟ وما المقصود بإعادة التفاوض غير القوّة الصاروخية والنفط والغاز؟
خلال مرحلة ما قبل الحرب على العراق كان الصراع معروفاً وواضحاً بين رافضي هذه الحرب ومنهم كولن باول مثلاً الذي كتب: "لا شك أننا نحتاج إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وتحديداً العالم العربي في صراعنا المقبل مع أوروبا والصين، لكن ذلك يجب ألا يتم بالحرب العسكرية في منطقة يتصاعد فيها نفوذ آيات الله". ومثله وزير الدفاع الفرنسي الذي أضاف: بأن الحرب ستؤدّي إلى "تصاعد الإرهاب الإسلامي الذي لن يتأخر في عبور الضفة الشرقية للمتوسّط إلى الغربية منه". وفي سياقهما برزت مواقف سياسية رسمية وشعبية غربية كثيرة مؤثّرة وحاشدة، في مواجهة تيار المحافظين الجُدُد المتماهي مع اللوبي الإسرائيلي ومع المجمع الصناعي العسكري. التيار الأول هزم أمام الثاني وعاد كولن باول ليقول أنا عسكري والرئيس "علّق هدفه على راداره" وهذا تعبير عسكري يعني قرار الحرب.
فترة هذا الصراع وما أحاط بها من حملات إعلامية وسياسية ونفسية تشبه تماماً ما نشهده اليوم، بين مَن يريد إيجاد حل سلمي مع إيران ومَن يريد تدميرها.
خلال الأسبوعين الأخيرين، شهدنا حملات إعلامية من العضّ على الأصابع من جهة، ولكن من التسريبات والطروحات التي تشي بإعطاء مداخل للخروج من النفق: تبادل عروض أرقام الهواتف بين ترامب وإيران. تغيّر اللهجة الإيرانية في المستوى الدبلوماسي الثاني (دبلوماسيين سابقين ومحلّلين سياسيين) من تخفيف الهجوم على ترامب وتصعيد الهجوم على الأوروبيين وعلى السعودية والإمارات وإسرائيل (بما يعنيه ذلك من تحويل الصراع الأوروبي الأميركي على العقود الإيرانية لصالح الشركات الأميركية، ربما ثمناً للحل) ومن الإشارة الواضحة إلى صراع بين أنصار الحرب وأنصار الحلول في الإدارة الأميركية، ومن تسريبات عن وساطة سويسرية مرّة وقطرية مرة أخرى، وتحليلات تؤشّر إلى بدء شيء سرّي ما تحت الغطاء كما حصل في عُمان قبل الاتفاق النووي. إعلان ترامب الخطير: نحن لا نريد من إيران إلا برنامجها النووي (بما يعني التنازل عن مطلب الصواريخ وتفتيش المنشآت العسكرية الأخرى) ومطالبة إيران لترامب بخطوات ثقة. حاجة هذا الأخير لإنجاز قبل معركته الرئاسية وحاجة محور المقاومة إلى حسم ملف الشمال والشرق السوريين، الخ. كل ذلك يعني حاجة ملحّة وسريعة لدى المتضرّرين من الحل السلمي إلى قطع الطريق وفرض قرار الحرب.
صدّام حسين استُدرٍج إلى الكويت، فتشكلت الذريعة، ولكن إيران لم تدخل سوريا إلا بطلب من حكومتها الشرعية، ولم تغذ المقاومة اللبنانية إلا تحت سقف الدولة اللبنانية. لكن ذلك لا يغيّر شيئاً في المعادلة. طالما أن المحور الذي تشكَّل لم يهزم، وأن سوريا تمكّنت من الحفاظ على الدولة، حتى وإن مثخنة بالجراح. وأن المقاومة في لبنان وغزة لم تنته، وأن العراق يعيش تململاً تجاوز النير الأميركي. وإذا كان الإيراني ومحوره حذرين من إعطاء الذريعة، فإن أفضل مدخل هو اعتداءات مفبركة على أهداف خليجية تتماشى مع مضمون الخطوط الحمر التي وضعها الأميركي كحد فاصل بين التفاوض والحرب.
حادث غامض وتافه، وتركّز الحملة الإعلامية على نقطتين أساسيتين: العملية هي عملية جسّ نبض للولايات المتحدة، هي تهدّد الملاحة الدولية وشريان مد الغرب بالنفط، هي ليست عمل جماعات صغيرة بل دولة قوية، وتمّ تحديد إيران بالإسم، على العالم أن يفي بتعهّداته بحماية الممرات المائية والسفن التجارية، إن لم يحصل رد ستتكرّر العمليات، جميع هذه العناصر نجدها في خطاب ضيوف شاشة سكاي نيوز الإماراتية مثلاً التي عنونت تقريرها على مواقع التواصل اليوم الأربعاء بـ"التحديات الأمنية التي تستدعي تحركاً دولياً للتعامل معها في المنطقة التي يخرج منها شريان الطاقة إلى العالم"، وإذا كانت قد أبرزت من هؤلاء الضيوف عبد الوهاب بدرخان وعلي النعيمي، فإن الحيّز الأكبر قد أعطي لسمير التقي المعارض السوري الذي خرج من عباءة الدولة السورية ليطالب بالتدخّل العسكري ضدها وكوفِىء بإدارة "مركز دراسات الشرق الأوسط" في الإمارات، التقي بدا الأكثر حماساً للتدخّل الدولي والأكثر ثقة بحصوله، وكأنه يعيد ما كان يكرّره بشأن سوريا: "الرد الدولي على هذا النوع من الأعمال التخريبية يجب أن يكون حازِماً ورادِعاً" و"لا أحد في العالم سيجد مصلحة في السكوت على هذه العمليات التي تمثل خطراً على تدفّق شرايين الطاقة في العالم".
غير أن دلالة مواقف التقي نفسه بما يمثله من معارضات سوريّة متلهّفة للتدخّل الأجنبي مثلها مثل نتنياهو وبولتون وسائر اللوبيهات، يوصلنا إلى أن تشابه المقدمات لا يؤدّي بالضرورة إلى تشابه النتائج، فنظرية شانون التي تقول إن الرسالة تسير بخط مستقيم من المرسل إلى المتلقّي قد سقطت منذ عقود، وخط السير متعرّج وربما دائري والسياقات تتغيّر والمؤثّرات العالمية والإقليمية والدولية تتغيّر والمتلقّي نفسه يتغيّر. حتى لو أن مركّبي شيفرات المقدمات ينهجون السبيل نفسه، فلا أحد يستطيع التكهّن بكيفية التفكيك.
[1] نشر محضر هذه الجلسة في حينه، مترجما، في مجلة الكفاح العربي الصادرة في بيروت.
[2] مقال للكاتبة استعار العنوان ذاته في جريدة الدستور الاردنية بتاريخ 15 آذار/مارس 1990.